الولاء والبراء والتّطرّف الفقهي والسّياسي
الاثنين / 9 / محرم / 1444 هـ - 19:19 - الاثنين 8 أغسطس 2022 19:19
تعتبر جدليّة الولاء والبراء من الجدليات الكلاميّة عند المسلمين الّتي غالى فيها فريق منهم، واعتبرها آخرون قضيّة هامشيّة، خصوصا في مسائل الوعد والوعيد، كما عند المرجئة، إلا أنّها تمحورت في قضايا عديدة، ابتداء من صراع السّقيفة، والولاية للشّخوص المتصارعة على الحكم، والمترتبة في الاتّجاهات الثّلاثة المتولدة من نظريّة الشّورى، وهي الشّورى المطلقة، والقرشيّة، والنّصيّة، ليتحوّل الولاء إلى صراع سياسيّ في الدّولة الأمويّة خصوصا، حيث يُقابل اتّجاه الشّورى اتّجاه الوراثة، والوراثة اتّجاه قديم في التّأريخ الإنسانيّ، كثيرا ما يأخذ الغلبة حتّى اليوم وفق تشكلات جديدة حسب تطوّر نظريات الدّول ذاتها، بيد أنّ ربطها قديما بالولاء والبراء هو من باب إنزال آيات الولاء والبراء في سياقات وظرفيّة أخرى يدخل فيما يسمى بتسييس الدّين.
إلا أنّ الانطلاقة الأخرى في الولاء والبراء دخوله في الصّراع الكلاميّ أو المذهبيّ بين المسلمين، فخرج من دائرة الولاء للمؤمنين، والبراء من الكافرين بالمعنى الشّموليّ، إلى الولاء للمؤمن بالمعنى المذهبيّ، والبراءة من المبتدعة والمنحرفين مذهبيّا، ابتداء من الصّراع من قضيّة الصّفات بين المؤولة والمثبتة، أو كما يطلقون عليهم بين المعطلّة والمجسّمة، ثمّ قضايا العقائد الأخرى، فأصبحت كلّ فرقة تفسّق الأخرى تفسيقا عقديّا، فلا تترحم هذه الفرقة على الأخرى، وتكتفي بالرّحمة العامّة، وقد يضيّقون حتّى ذلك، واختلفوا في العوام المنتسب إلى طائفة كلاميّة لكنه لا يدرك ذلك هل يتولى ويترحم عليه أو تشمله البراءة، إلا أنّهم اتّفقوا أنّ علماء وخواص كلّ فرقة في البراءة باعتبار الفرقة المخالفة، أو الولاء باعتبار الموافق، وقد يخفّف بعضهم إلى الوقوف، إلا أنّهم في الجملة يدورون حول الولاء والبراء.
ثمّ تطوّر الأمر من القضايا العقديّة والكلاميّة إلى القضايا الفقهيّة، ولم يقتصر عند ارتكاب الكبائر، بل شمل حتّى القضايا الفقهيّة الفرعيّة الخلافيّة، أي توسعت من مسائل الدّين إلى مسائل الرّأي، ومن مسائل القطع إلى مسائل الخلاف، كحلق اللّحية، وسماع الموسيقى، وإسبال الثّوب، ومصافحة الأجنبيّة، ونحوها، فجعلوا الأصل في النّاس الوقوف، فلا يجوز التّرحم على موتاهم، ولا ولايتهم، إلا بعلم ينقلهم إلى الولاية أو البراءة، وإن ماتوا حالقي لحاهم، مسبلي أثوابهم، فلا يترحم عليهم، ولا يظهر لهم الولاية، ولو كان أقرب النّاس إليك كأبيك وولدك.
ومع ظهور الإسلام السّياسيّ اليوم رجع مصطلح الولاء والبراء من جديد عند بعض الجماعات المتطرّفة، فقسّمت البلاد إلى دار إسلام ودار كفر، واختلفوا في البلاد غير المطبّقة للشّريعة ولو رفع الأذان فيها، وأقيمت الجماعات في المساجد؛ أهي دار إسلام أم دار كفر، أم أنّ من يدير الدّولة ويعملون فيها يشملهم البراء، ولا تجوز لهم الولاية، فحكمهم أقرب إلى البغاة، ومنهم من رأى كفرهم إن كان استحلالا ورضا بذلك، وبما أنّ التّكفير غير مقبول في العقل الجمعيّ، لهذا جعلوه تحت دائرة الولاء والبراء، فلهذا أصبح غطاء للتّكفير من جهة، ولتضييق رحمة الله من جهة ثانية، فالدّول في صورتها المعاصرة أقرب إلى الكفر، ومن رضا بذلك لا يتولى، ولا يترحم عليه.
هذا التّطوّر المتناقض في شموليته من حيث سعة إنزاله من جهة، وفي ضيقه من حيث إنزاله والتّطرّف المترتب عليه من جهة أخرى سببه أمران: الأول قراءة النّص القرآني بعيدا عن ظرفيّته، والثّاني إنزاله في الصّراع السّياسي بين المسلمين ليتحوّل بذاته إلى صراع كلامي وعقدي كما أسلفنا، بل وإلى تطرّف فقهي وعمليّ.
وأمّا السّبب الأول فهو التّعامل مع النّصوص القرآنيّة المرتبطة بصيرورة الحياة وفق قراءة مطلقة من حيث الابتداء، يتولّد عن هذا بشكل طبيعيّ في تمدد هذا القراءة، فتخرجها من الظّرفيّة النّسبيّة إلى الإنزال المطلق والعمومي الّذي يقود بذاته إلى التّطرّف بشكل طبيعيّ جدّا؛ لأنّ صيرورة الحياة تقوم على النّسبيّة الظّرفيّة، وليس على الإطلاق، بحيث نفهم القيمة المترتبة من النّص وإن اختلفت مصاديقها، ولا يمكن لهذه القيمة أن تقود إلى الضّبابيّة والتّطرّف؛ إلا إذا تثبتنا بحرفيّة النّصّ أو المصداق المترتب منه، وجعلناه في دائرة المطلق وليس النّسبيّ.
فإذا جئنا إلى سورة الممتحنة مثلا، وهي سورة مدنيّة نزلت بعد الأحزاب، وتتطرّقت إلى قضيّة الولاء والبراء، نجد في مفتتحها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1] فهي تتطرّق إلى قضيّة الاعتداء، وهو طبيعيّ نجد له مصاديق عديدة، فلا يجوز الوقوف مع الظّالم المعتدي أيّا كان، ويجب نصرة المظلوم، وتحقيق العدل، وهي القيمة من النّصّ، فاليوم مثلا الّذي يتخابر ضدّ وطنه ليلحق به الضّرر لمصلحة دنيويّة يعتبر معتديّا مخالفا للقانون، هذا لا يجوز الوقوف معه لو كان أبا أو أخا أو زوجا أو ابنا أو صديقا، وقد يكون بالمثال البسيط كما عند إبراهيم وأبيه من اعتداء من الثّاني وقومه، وقد يكون بالمعنى الحربيّ كما في الممتحنة وبراءة، ومصداقه تطوّر اليوم مع الدّولة القطريّة لها دستورها وأمنها، لهذا المعتدي قد يكون من ذات الهويّة أي الدّين أو المذهب، فلا يجوز الوقوف معه، وليس هذا بالمعنى الكلامي أو العقادئدي، ليكون ظرفيّة ومصداق نزول الآية شاملا للزّمكانيّة، فهذا لا يتحقّق بهذه الصّورة، لهذا إطلاقه هكذا في العقل الجمعيّ يقود إلى التّطرّف بالشّكل الكبير.
ولهذا نجد في السّورة نفسها {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8-9]، والآيتان تدوران بشكل واضح جدّا حول روح وقيمة الولاء والبراء، فهناك فئة قد تختلف دينا أو مذهبا، وبالمعنى المعاصر في الدّولة القطريّة الأقليات أو الثّنائيات المختلفة في الهوّيّة، فهذه يشملها الولاء لأنّها لم تعتدِ، ولم ترتكب جرما يقودها إلى البراء، والعكس صحيح، {وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22].
وذلك لأنّ من مدارات الولاء والبراء {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2]، فمع حرمة عدم جواز الاعتداء والبغي في طلب الحق؛ إلا أنّ المدار في المجتمعات التّعاون على البر والتّقوى أي ما يرقي المجتمعات حسب ظرفيّته وصورته، وهذا يشترك حوله الجميع، وليس بمعنى أن نجعل من أنفسنا أوصياء وشركاء لله في محاكم تفتيش نقيمها، أو في البحث عن الشّخوص، أو مشاركة الإله في الحكم بالرّحمة والعذاب عن طريق الولاء والبراء.
ومن الآيات الظّرفيّة الّتي أدخلت في براءة الشّخوص، ومقاطعتهم حتّى في قضايا فرعيّة فقهيّة عند بعضهم، ما جاء في سورة براءة: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [براءة: 118]، مع أنّ الّذين تخلّفوا أكثر عددا، والآية في سياق ظرفيّ وهو الحرب، وهؤلاء من المقربين بالمعنى العسكريّ اليوم أقرب إلى القيادات في الجيش، لهذا خصّ الحكم فيهم، في حين لم يشمل الآخرين، وقد يتكرر ذات المصداق اليوم في المحاكمات العسكريّة، بإزاحته وإبعاده وحرمانه من الرّتب والألقاب العسكريّة حتّى يفيء إلى رشده، وليس بالمعنى الشّموليّ تحت ما يسمّى بولاية وبراءة الأشخاص.
وأمّا السّبب الثّانيّ وهو إنزال الولاء والبراء في الصّراع السّياسي بين المسلمين ليتحوّل بذاته إلى صراع كلامي وعقدي، فسببه أنّ كلّ فرقة تتصوّر الدّين من خلال مذهبها، فتحصره في حدود مذهبها من جهة، ومن جهة أخرى تحاول إخضاع النّص لموافقة المذهب، وليس إخضاع المذهب لموافقة النّصّ، فتنظر إلى الأشمل من الباب الضّيق، وإن نظرت إليه من الباب الواسع -إن أحسنا الظّنّ- إلا أنّ هذه النّظرة تدور من إطلاقيّة الظّرفيّ، وحرفيّة النّسبيّ، فتدور في ذات الدّائرة وفق أدوات أصوليّة وكلاميّة واجتهادات قديمة.
لهذا نجد المناهج الدّينيّة التّقليديّة في جميع الحوزات والكليّات والجامعات الإسلاميّة تدرّس ذات المقررات الكلاميّة العقائديّة الّتي صيغت بعد الصّراع السّياسيّ بعد السّقيفة، ثمّ الصّراع الكلامي بعد القرن الثّاني الهجريّ خصوصا، ومنه قضيّة الولاء والبراء بالمعنى المذهبيّ الضّيق، لهذا حتىّ اليوم لن تجد لاهوتيّا مذهبيّا يترحم على رموز المذاهب الأخرى تحت الخطّ الإسلاميّ إلا تقيّة، أو متجاوزا لبعض جزئيات الموضوع في دائرة التّرحم والتّرضي بمفهومه الإرجائي الأوسع، لهذا يجب قراءة هذه القضيّة من جديد بصورة أكثر جرأة، وبأدوات معاصرة، مع دورانها وفق قيمتها وروحها، وإن اختلفت مصاديقها وفق ظرفيتها وصيرورتها على ضوء الاجتماع البشري.
إلا أنّ الانطلاقة الأخرى في الولاء والبراء دخوله في الصّراع الكلاميّ أو المذهبيّ بين المسلمين، فخرج من دائرة الولاء للمؤمنين، والبراء من الكافرين بالمعنى الشّموليّ، إلى الولاء للمؤمن بالمعنى المذهبيّ، والبراءة من المبتدعة والمنحرفين مذهبيّا، ابتداء من الصّراع من قضيّة الصّفات بين المؤولة والمثبتة، أو كما يطلقون عليهم بين المعطلّة والمجسّمة، ثمّ قضايا العقائد الأخرى، فأصبحت كلّ فرقة تفسّق الأخرى تفسيقا عقديّا، فلا تترحم هذه الفرقة على الأخرى، وتكتفي بالرّحمة العامّة، وقد يضيّقون حتّى ذلك، واختلفوا في العوام المنتسب إلى طائفة كلاميّة لكنه لا يدرك ذلك هل يتولى ويترحم عليه أو تشمله البراءة، إلا أنّهم اتّفقوا أنّ علماء وخواص كلّ فرقة في البراءة باعتبار الفرقة المخالفة، أو الولاء باعتبار الموافق، وقد يخفّف بعضهم إلى الوقوف، إلا أنّهم في الجملة يدورون حول الولاء والبراء.
ثمّ تطوّر الأمر من القضايا العقديّة والكلاميّة إلى القضايا الفقهيّة، ولم يقتصر عند ارتكاب الكبائر، بل شمل حتّى القضايا الفقهيّة الفرعيّة الخلافيّة، أي توسعت من مسائل الدّين إلى مسائل الرّأي، ومن مسائل القطع إلى مسائل الخلاف، كحلق اللّحية، وسماع الموسيقى، وإسبال الثّوب، ومصافحة الأجنبيّة، ونحوها، فجعلوا الأصل في النّاس الوقوف، فلا يجوز التّرحم على موتاهم، ولا ولايتهم، إلا بعلم ينقلهم إلى الولاية أو البراءة، وإن ماتوا حالقي لحاهم، مسبلي أثوابهم، فلا يترحم عليهم، ولا يظهر لهم الولاية، ولو كان أقرب النّاس إليك كأبيك وولدك.
ومع ظهور الإسلام السّياسيّ اليوم رجع مصطلح الولاء والبراء من جديد عند بعض الجماعات المتطرّفة، فقسّمت البلاد إلى دار إسلام ودار كفر، واختلفوا في البلاد غير المطبّقة للشّريعة ولو رفع الأذان فيها، وأقيمت الجماعات في المساجد؛ أهي دار إسلام أم دار كفر، أم أنّ من يدير الدّولة ويعملون فيها يشملهم البراء، ولا تجوز لهم الولاية، فحكمهم أقرب إلى البغاة، ومنهم من رأى كفرهم إن كان استحلالا ورضا بذلك، وبما أنّ التّكفير غير مقبول في العقل الجمعيّ، لهذا جعلوه تحت دائرة الولاء والبراء، فلهذا أصبح غطاء للتّكفير من جهة، ولتضييق رحمة الله من جهة ثانية، فالدّول في صورتها المعاصرة أقرب إلى الكفر، ومن رضا بذلك لا يتولى، ولا يترحم عليه.
هذا التّطوّر المتناقض في شموليته من حيث سعة إنزاله من جهة، وفي ضيقه من حيث إنزاله والتّطرّف المترتب عليه من جهة أخرى سببه أمران: الأول قراءة النّص القرآني بعيدا عن ظرفيّته، والثّاني إنزاله في الصّراع السّياسي بين المسلمين ليتحوّل بذاته إلى صراع كلامي وعقدي كما أسلفنا، بل وإلى تطرّف فقهي وعمليّ.
وأمّا السّبب الأول فهو التّعامل مع النّصوص القرآنيّة المرتبطة بصيرورة الحياة وفق قراءة مطلقة من حيث الابتداء، يتولّد عن هذا بشكل طبيعيّ في تمدد هذا القراءة، فتخرجها من الظّرفيّة النّسبيّة إلى الإنزال المطلق والعمومي الّذي يقود بذاته إلى التّطرّف بشكل طبيعيّ جدّا؛ لأنّ صيرورة الحياة تقوم على النّسبيّة الظّرفيّة، وليس على الإطلاق، بحيث نفهم القيمة المترتبة من النّص وإن اختلفت مصاديقها، ولا يمكن لهذه القيمة أن تقود إلى الضّبابيّة والتّطرّف؛ إلا إذا تثبتنا بحرفيّة النّصّ أو المصداق المترتب منه، وجعلناه في دائرة المطلق وليس النّسبيّ.
فإذا جئنا إلى سورة الممتحنة مثلا، وهي سورة مدنيّة نزلت بعد الأحزاب، وتتطرّقت إلى قضيّة الولاء والبراء، نجد في مفتتحها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1] فهي تتطرّق إلى قضيّة الاعتداء، وهو طبيعيّ نجد له مصاديق عديدة، فلا يجوز الوقوف مع الظّالم المعتدي أيّا كان، ويجب نصرة المظلوم، وتحقيق العدل، وهي القيمة من النّصّ، فاليوم مثلا الّذي يتخابر ضدّ وطنه ليلحق به الضّرر لمصلحة دنيويّة يعتبر معتديّا مخالفا للقانون، هذا لا يجوز الوقوف معه لو كان أبا أو أخا أو زوجا أو ابنا أو صديقا، وقد يكون بالمثال البسيط كما عند إبراهيم وأبيه من اعتداء من الثّاني وقومه، وقد يكون بالمعنى الحربيّ كما في الممتحنة وبراءة، ومصداقه تطوّر اليوم مع الدّولة القطريّة لها دستورها وأمنها، لهذا المعتدي قد يكون من ذات الهويّة أي الدّين أو المذهب، فلا يجوز الوقوف معه، وليس هذا بالمعنى الكلامي أو العقادئدي، ليكون ظرفيّة ومصداق نزول الآية شاملا للزّمكانيّة، فهذا لا يتحقّق بهذه الصّورة، لهذا إطلاقه هكذا في العقل الجمعيّ يقود إلى التّطرّف بالشّكل الكبير.
ولهذا نجد في السّورة نفسها {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 8-9]، والآيتان تدوران بشكل واضح جدّا حول روح وقيمة الولاء والبراء، فهناك فئة قد تختلف دينا أو مذهبا، وبالمعنى المعاصر في الدّولة القطريّة الأقليات أو الثّنائيات المختلفة في الهوّيّة، فهذه يشملها الولاء لأنّها لم تعتدِ، ولم ترتكب جرما يقودها إلى البراء، والعكس صحيح، {وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22].
وذلك لأنّ من مدارات الولاء والبراء {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة: 2]، فمع حرمة عدم جواز الاعتداء والبغي في طلب الحق؛ إلا أنّ المدار في المجتمعات التّعاون على البر والتّقوى أي ما يرقي المجتمعات حسب ظرفيّته وصورته، وهذا يشترك حوله الجميع، وليس بمعنى أن نجعل من أنفسنا أوصياء وشركاء لله في محاكم تفتيش نقيمها، أو في البحث عن الشّخوص، أو مشاركة الإله في الحكم بالرّحمة والعذاب عن طريق الولاء والبراء.
ومن الآيات الظّرفيّة الّتي أدخلت في براءة الشّخوص، ومقاطعتهم حتّى في قضايا فرعيّة فقهيّة عند بعضهم، ما جاء في سورة براءة: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [براءة: 118]، مع أنّ الّذين تخلّفوا أكثر عددا، والآية في سياق ظرفيّ وهو الحرب، وهؤلاء من المقربين بالمعنى العسكريّ اليوم أقرب إلى القيادات في الجيش، لهذا خصّ الحكم فيهم، في حين لم يشمل الآخرين، وقد يتكرر ذات المصداق اليوم في المحاكمات العسكريّة، بإزاحته وإبعاده وحرمانه من الرّتب والألقاب العسكريّة حتّى يفيء إلى رشده، وليس بالمعنى الشّموليّ تحت ما يسمّى بولاية وبراءة الأشخاص.
وأمّا السّبب الثّانيّ وهو إنزال الولاء والبراء في الصّراع السّياسي بين المسلمين ليتحوّل بذاته إلى صراع كلامي وعقدي، فسببه أنّ كلّ فرقة تتصوّر الدّين من خلال مذهبها، فتحصره في حدود مذهبها من جهة، ومن جهة أخرى تحاول إخضاع النّص لموافقة المذهب، وليس إخضاع المذهب لموافقة النّصّ، فتنظر إلى الأشمل من الباب الضّيق، وإن نظرت إليه من الباب الواسع -إن أحسنا الظّنّ- إلا أنّ هذه النّظرة تدور من إطلاقيّة الظّرفيّ، وحرفيّة النّسبيّ، فتدور في ذات الدّائرة وفق أدوات أصوليّة وكلاميّة واجتهادات قديمة.
لهذا نجد المناهج الدّينيّة التّقليديّة في جميع الحوزات والكليّات والجامعات الإسلاميّة تدرّس ذات المقررات الكلاميّة العقائديّة الّتي صيغت بعد الصّراع السّياسيّ بعد السّقيفة، ثمّ الصّراع الكلامي بعد القرن الثّاني الهجريّ خصوصا، ومنه قضيّة الولاء والبراء بالمعنى المذهبيّ الضّيق، لهذا حتىّ اليوم لن تجد لاهوتيّا مذهبيّا يترحم على رموز المذاهب الأخرى تحت الخطّ الإسلاميّ إلا تقيّة، أو متجاوزا لبعض جزئيات الموضوع في دائرة التّرحم والتّرضي بمفهومه الإرجائي الأوسع، لهذا يجب قراءة هذه القضيّة من جديد بصورة أكثر جرأة، وبأدوات معاصرة، مع دورانها وفق قيمتها وروحها، وإن اختلفت مصاديقها وفق ظرفيتها وصيرورتها على ضوء الاجتماع البشري.