أفكار وآراء

صيرورة مشتركة بين الخليج العربي وأفريقيا

ما أقدم عليه الرئيس الأمريكي بايدين في الخليج العربي مؤخرا، وتحديدا في الرياض، نجده مماثلا لما أقدم عليه الرئيس الفرنسي ماكرون في أفريقيا، وتحديدا مع الكاميرون، وقد أجبرتهما بكين وموسكو على تقديم تنازلات كبرى، وتضطرهما إلى تغيير مفاهيمهما القديمة التي يغلب عليها الاستكبار والتعالي وفرض الإملاءات واستنزاف الثروات، مع الفارق بين الجانبين الخليجي والأفريقي، وستتدخل بقوة بقية الدول الكبرى كواشنطن ولندن لنفس الدوافع الأمريكية في الخليج، والفرنسية في أفريقيا، وهى الحفاظ على مصالحهما التاريخية، فالدول الغربية تجد نفسها الآن تحت ضغوطات قهرية تهز مصالحها الاستراتيجية بغباء سياسي منها، وسط تحركات روسية وصينية متصاعدة وممنهجة وناجحة للتوغل في مناطق المصالح الغربية التقليدية.

وقد قدمت الرياض وياوندي نموذجين يمكن البناء عليهما في رسم علاقات جديدة مع الدول الكبرى، والقاسم المشترك بينهما يكمن حول انصياع واشنطن وباريس لمطالبهما عندما تجد وراءها إرادة سياسية جادة وقوية، ويمكن أن تحدث الفارق في منظومة المصالح الدولية، والدرس السياسي الذي يمكن الخروج منهما -أي النموذجين- أن كل دولة تستكين للواقع الدولي المتوارث، أو المتواصل من الحقبة السياسية السابقة، ستظل في موقف الخنوع للإملاءات، وستظل تعطي بلا مقابل، وسيمارس عليها كل الضغوطات للابتزاز وابتلاع ثرواتها.

فلو لم تشعر إدارة بايدن بالخطر من جدية تغيير بوصلة الرياض نحو بكين وموسكو، وتدرك أن وراءه حتميات مصيرية للرياض، ولن تساوم عليها، فلن يتراجع بايدن عن مواقفه من الرياض التي كشفها قبل وأثناء وبعد فوزه بالانتخابات الرئاسية، ولن تقدم واشنطن على تجديد شراكتها الاستراتيجية طويل الأجل مع الرياض لتلبي طموحاتها في مواكبة الثورتين التكنولوجية والصناعية في المجالات المدنية والأمنية والعسكرية والاقتصادية -قد تناولناها في مقال سابق معنون باسم قمة جدة تنضج الصلح مع يران- فلدواعي مستقبلها كدولة إقليمية كبرى، كانت الرياض قد أبرمت اتفاقيات تؤسس شراكات كبرى في مختلف المجالات مع موسكو وبكين بهدف تقليص الفارق التقني والتكنولوجي مع جارتها طهران.

وفي ياوندي، فلولا ضغوطات كل الفاعلين السياسيين فيها على فتح أرشيف جرائم الاستعمار الفرنسي فيها، لما انصاعت باريس، وشكلت لجنة من مؤرخي البلدين للبحث فيه، ولما أقدم رئيسها ماكرون بجولة أفريقية استهلها بالكاميرون، حاملا معه مصالح ومنافع لشعوبها مثل رفع الاستثمارات الفرنسية، وتخصيص مساعدات كبيرة، وتكوين الأطر للمساعدة على التنمية، وتعهده باستتباب الأمن فيها.. الخ.

وقد شملت جولته كذلك بنين وغينيا بيساو، وقد جاءت النتائج في بعض محطاته عكسية، فعوضا عن تجديد الشراكة معها، استنهض مشاعر الأفارقة بتصرفاته التي تنم عن استمرار الفكر الاستعماري في مرحلة ينبغي أن تكون قد ولت، ففي بنين، انتشر مقطع فيديو تعرض ماكرون لموقف نشر مقطع فيديو أظهر تعرض ماكرون لموقف محرج فيه، فبعد أن كان يصافح رئيس دولتها باتريس تالون، ظهر هذا الأخير وهو ينفض كتفه بعد أن ربت عليه ماكرون، ووقع أثناء زيارته لغينيا موقف مماثل، يظهر أن المستعمرين السابقين لا يزالون في منطقة غبائهم السياسي المستفز للشعوب، رغم علمهم بأن هناك مصالح مهددة من قبل دول مناوئة لها.

وهذا ليس بجديد على الغرب، بل هو متأصل في فكرهم السياسي رغم المتغيرات والتحولات التي طرأت على وعي الشعوب الأفريقية، لن نغرق كثيرا في التدليل على هذا الفكر، وإنما سنشير إلى المستفز الأكبر، وهو الرئيس الأمريكي السابق ترامب، ففي عام 2016 قال: 'الأفارقة بحاجة إلى الاستعمار لمئة عام أخرى'، ومن ثم جاء عام 2017، ليقول عن الأفارقة: 'إنهم لا يعرفون شئيا عن القيادة والاستقلال.. إنهم مثال للكسل والغباء والهوس بالجنس'.

مواقف مستفزة للشعوب الأفريقية، بل لشعوب العالم النامي أجمع، لأنه فكر من الحقبة الاستعمارية التي انتهت وظل نخبها يعملون نيابة عنها، وهذا في طريقه للزوال بعد أن دخلت موسكو وبكين ودول أخرى مثل ألمانيا والهند، واخترقت القارة الأفريقية بفكر جديد لا يخلو بدوره من النفعية الذاتية لها، لكنه يسلم بوجود نفعية للدول الأخرى وشعوبها، فلو أخذنا الفكر الروسي في القارة الأفريقية مثلا، فسنجد أنه قد تطور كثيرا عن الحقبة السوفييتية، فلم تعد الأيديولوجيا حاكمة لعلاقاتها مع الدول الأخرى، وإنما قد حددت مجموعة مبادئ جديدة قائمة على البرغماتية، أهمها: الشراكة في المنافع والمصالح الاقتصادية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وعدم تسييس الغرب وأمريكا لآليات الشرعية الدولية، والاستعداد لاستخدام القوة العسكرية المباشرة في حالة تهديد مصالحها الخارجية.

وهذه المبادئ تتناغم مع مبدأ بوتين الذي طرحه عام 2000، وجدده عشية زيارته لطهران مؤخرا، والقاضي ببناء نظام دولي متعدد المراكز، وليس الأقطاب، تكون لموسكو فيه دورا أساسيا، وهو الآن يخترق الجغرافيات السياسية في القارات، تحدثنا سابقا عن وجوده في الضفة الجنوبية لمنطقة الخليج العربي بعد إبرام اتفاقية قيمتها 40 مليار دولار لإصلاح الصناعة النفطية الإيرانية، وقرب توقيعه لاتفاقية عسكرية معها، وهذا أكبر التحولات الدولية والإقليمية على السواء تحدث نتيجة الغباء الأمريكي القديم / الجديد.

وقضية استخدام القوة العسكرية لحماية المصالح الروسية في الخارج، كانت بكين السباقة في التنصيص عليه دستوريا، ففي عام 2017، قامت بتغييرها إحدى مواد دستورها الذي كانت تحظر استخدام قوتها العسكرية لخارج حدودها، مما أصبح الآن مسموحا بشرط إذا ما شعرت بكين بأن مصالحها في الخارج مهددة، وهذا تحول ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار، وربطه بالتحول الروسي سالف الذكر، من هنا يفهم السباق الروسي والصيني نحو إقامة قواعد عسكرية في مختلف أنحاء العالم، وأحدثها ما تنويه موسكو من إقامة تسع قواعد عسكرية في أفريقيا، وهي: مصر والسودان وإريتريا وموزمبيق ومدغشقر وأفريقيا الوسطى.

وربما تكون جولة وزير الخارجية الروسي لافروف لأفريقيا التي انتهت الخميس الماضي وشملت كذلك مصر وأثيوبيا، قد بحثت قضية القواعد العسكرية في ظل ما بين موسكو وهذه الدول من اتفاقيات استراتيجية من بينها إنتاج الطاقة النووية بهدف إنشاء مفاعلات نووية للأغراض السلمية.. الخ، وهنا تجد الدول النامية مصالحها الاستراتيجية أقرب إلى موسكو وبكين من واشنطن، فما يمكن أن تحققه لهما هاتان الدولتان سيعجز عن تحقيقه الغرب وعلى رأسهم واشنطن، خاصة في ظل تلويح موسكو بانحيازها للشعوب، وهذا ما تجسد في شعار جولة لافروف الأفريقية الذي حمل عنوان 'روسيا صديقة للشعوب الأفريقية'.

ونتوقع أن تشكل القمة الروسية الأفريقية التي ستعقد في أفريقيا خلال عام 2022، نقطة تحول كبرى للوجود الروسي في هذه القارة، فما حدث خلال قمة سوتشي 2019 من توقيع اتفاقيات شراكات متعددة مع الدول الأفريقية، يجعلنا ننظر للقمة المقبلة بتلكم الآمال، خاصة وأن موسكو قد عينت بعيد قمة سوتشي اوليغ اويزون سفيرة فوق العادة للقارة الأفريقية، ومسؤولة للتحضير لهذه القمة وضمانة نجاحها في اختراق مناطق امتياز واشنطن والغرب عامة، كما حدث في مالي مثلا.

وهذا ما يجعل واشنطن تشعر بالخطر المتصاعد، لذلك قررت إيفاد مبعوثين لها على مستوى عال إلى أفريقيا، من بينهم وزير خارجيتها بلينكن، وسفيرتها لدى الأمم المتحدة ليندا توماس غرينفيلد للقيام بجولة قريبا ستشمل جنوب أفريقيا والكونغو ورواندا وغانا، وقبلهما قامت مديرة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية سامانثا باور بزيارة كينيا والصومال.

وهنا نتساءل، إلى أي مدى ستنجح واشنطن في الحفاظ على مصالحها في الخليج وأفريقيا؟ إذا ظلت ومعها الغرب على نفس سياساتها ومواقفها وأنانيتها وخطاباتها المستفزة للشعوب ستفقد حلفاءها ومن ثم مصالحها، لذلك لابد من تغيير استراتيجيتها عاجلا بحيث تكون أكثر اعتدادا بمصالح حلفائها وشعوبهم، وأقل تدخلا في شؤونهم الداخلية، فإذا لم تفرض عليها الأنظمة الموالية لها، تفرض قضية التغيير أو التحول، فإن الشعوب قد أصبحت تملك الوعي بحقوقها ومصالحها الآن أكثر من أي وقت مضى، فلن تقبل الإهانات وسلب ثرواتها واستمرار التخلف، كما هو الحال في أفريقيا.

كما أن حقبة الضرائب والرسوم، وتلازميتها مع مرحلة الاستمرارية في خصخصة الشركات والمرافق العمومية في منطقة الخليج العربي، ستكون لها الأثر الضاغط على التغيير والتحول التاريخي، وإذا لم يحدث ذلك، فالمتوقع إحداث توترات داخلية قد تتشكل بألوان سياسية، وضد واشنطن، وستجد البيئة الدولية مواتية لدعمها في مرحلة النظام العالمي الجديد المتعدد المراكز أو الأقطاب، وما يحدث في أفريقيا ينبغي أن يكون لها درسا تستفيد منه في الخليج في ضوء تجربة الرياض، واختراق موسكو الضفة الجنوبية للخليج العربي، وانصياع باريس للكاميرون.