أعمدة

حوار الظهيرة

 
في حوار ملؤه الحرارة والمرارة على السواء، كنت مع أحد الأصدقاء نتناول قضايا الثقافة والشعر، جاءت مسألة الانفتاح على الآخر الضد فكريا أو أدبيا ومسألة التواصل والأخذ بين الضدين، وكيف كان القدماء أقل تطرفا في هذا الجانب من المحدثين؛ حتى لنجد أحد المؤلفين يذكر ويستشهد بقول ضده وهما على طرفي نقيض في المذهب الفكري أو الأدبي أو الديني حتى.

ثم عرجنا على أمثلة متجددة الذكر من تاريخنا العماني، فنجد أن فقيها كابن النضر يتأثر بشعر امرئ القيس المعروف بالملك الضِّلِّيل وهو من انفجرت ينابيع الشعر على يديه، وهو الموصوم بالخلاعة والمجون، رغم أن سهام المتطرفين تخترقه وتقصيه وتحرّم قراءة شعره، وكتب اللغويين تكتنفه وتجعل من شعره شواهد للغة وتحميه.

وفي خضم حديثنا الملتهب حماسة، أمسكت بديوان النبهاني لأستشهد به على اطلاع الشاعر العماني سليمان بن سليمان بن مظفر النبهاني على تجارب السابقين وتأثره بهم، فكانت مقدمة الشيخ الأديب سليمان بن خلف الخروصي كالواحة في الفلاة المجدبة. وهو الذي قارن بين شعر النبهاني وشعر فحول الشعراء الذين عارض قصائدهم أو قلدها وتصرف فيها تصرفا يسيرا. ومن الشعراء الذين استفاد منهم النبهاني، شيخ العربية وإمامها رهين المحبسين أبي العلاء المعري، وإمام الشعر وحامل لوائه امرئ القيس بن حُجر الكندي، وعنترة العبسي، وطرفة بن العبد، وعمرو بن معدي كرب الزبيدي، وإمام العربية في عصره العماني ابن دريد.

يصف الشيخ الخروصي شاعرنا النبهاني في مقدمة ديوانه الصادر عن وزارة التراث والثقافة في طبعته الثانية عام 2005 فيقول عنه أنه 'أحد فحول الشعراء العمانيين بل أرحب شعراء عصره نفسا، وأعمقهم حسا، وأبدعهم فنا، وأخصبهم خيالا وأكثرهم فخرا واعتزازا بذاته'. وأتذكر جيدا سني المدرسة حين كنا نحفظ قصيدة شاعرنا النبهاني التي مطلعها:

ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل نفوع وضرّار ومعط ومانع

وكانت من أجمل القصائد التي أترنم بها حينها، ثم كبرنا فقرأنا لفحول الشعراء وأرباب الأدب، فتعجبت حين قرأت للمرة الأولى قصيدة أبي العلاء المعري التي يقول في مطلعها:

ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل عفاف وإقدام وحزم ونائل

ولم أطلع حينها على ما قاله الشيخ الخروصي وذكره في مقدمته، وحين أمسكت ديوان النبهاني وقرأت مقدمته، وجدت الشيخ الخروصي قد قارن بين ما قاله الشعراء وآنفو الذكر وبين ما قاله شاعرنا، يقول امرؤ القيس:

فقالت سباك الله إنك فاضحي ألست ترى السُّمَّار والناس أحوالي

فيقلده النبهاني بقوله:

فقالت سباك الله إنك قاتلي فرفقا فأعمامي شهود وأخوالي

وهذه لمحة خاطفة على ما استفاد وقلد النبهاني أرباب الشعر فيه.

في فترة سابقة، كنت أكتب بحثا عن العالم الشاعر الفقيه أحمد بن النضر السمائلي العماني؛ فنظرت في قصيدته الأولى 'في التوحيد وتفسير آيات من القرآن' ضمن كتاب الدعائم الصادر عن وزارة التراث القومي والثقافة سابقا، فإذا بي أجد تشابها بيِّنا مع ما يقوله العلّامة ابن النضر في مطلع قصيدة ومع ما قاله امرؤ القيس في قصيدته ' أَلِمّا عَلى الرَبعِ القَديمِ بِعَسعَسا'، حيث يقول امرؤ القيس:

تَأَوَّبَني دائي القَديمُ فَغَلَّسا أُحاذِرُ أَن يَرتَدَّ دائي فَأُنكَسا

فيقلده ابن النضر بقوله:

تأوبني داءٌ قديمٌ فلم أنم وبتُّ سميرا للهموم وللهمم

ولكن ابن النضر ينفي أن يكون هذاء الداء والسهر من فعل المحبوب وهجرانه فيقول:

وما بي عشق للذين تحمَّلوا ولا جزع من بينِهِم لا ولا سَقَم

ثم يسترسل في قصيدته حتى تمام المقصد الذي وضعها لأجله.

ونجد في مطلع القصيدة الثامنة لابن النضر:

ما هاجني رسم ولا مربع ولا شجاني طلل بلقع

تأثرا بيّنا بجميل بثينة الذي يقول:

أَهاجَكَ أَم لا بِالمَداخِلِ مَربَعُ وَدارٌ بِأَجراعِ الغَديرَينِ بَلقَعُ

ومن يقرأ كتاب الدعائم، يجد نفسه أمام شاعر متمكن فحل، فهو وإن تأثر بمن سبقه من فحول الشعراء، إلا أن له مذهبا فكريا يعارضهم فيه. ورغم هذه المعارضة والبون الشاسع في المذاهب الفكرية والدينية؛ إلا أن الانفتاح وتقبل الآخر يتجلى في مدى الاستفادة منهم وتقليد شعرهم.

خلاصة القول، أن المرء يتعجب مما آلت إليه الحياة الثقافية من تصادم وتناطح وإقصاء للمختلف معنا في الفكر؛ بل أن التطرف وصل حد الإقصاء والتنابز بسبب اختلاف الشكل رغم وحدة الوجوه، وهنا أقصد الفُرقة الحاصلة بين مناصري القصيدة العمودية ومناصري الشعر الحديث فشَطَّ الفريقان في النزاع حول بنية القصيدة، وتركوا وراء ظهورهم أساس الشعر وجوهره، وهو الشعرية.