مدينة المستقبل مرهونة بنقل الحداثة من الهشاشة إلى اليقين
الكهف القروي العتيق ناطح برج الحداثة الشاهق
الأربعاء / 27 / ذو الحجة / 1443 هـ - 13:30 - الأربعاء 27 يوليو 2022 13:30
لعل أبرز ما ترتبط به فكرة المدينة كحاضرة هو علم العمارة، الذي تعود جذوره الأولى مع بداية انتقال الإنسان من الكهف إلى الطبيعة الخارجية، والذي تطور مع انتقال الحضارة البشرية من مرحلة الزراعة إلى الصناعة، من الريف إلى المدينة الصناعية، بكل ما نشأ عن هذا التطور من أفكار وقيم، فرضتها طبيعة الانتقال من الريف العشوائي إلى المدينة المخططة سلفا، ومن المباني الريفية البسيطة إلى البنايات والقصور، ومن الدروب المتربة غير الممهدة إلى الشوارع الواسعة والجسور.
وهذه الظروف المدنية اقتضت بطبيعة الحال أيضا تغييرا في السلوك والثقافة من التواكل والتكاسل الذي يفرضه منطق المواسم الزراعية والانتظار لمواسم الحصاد إلى المبادرة والتخطيط، ومن الأعراف وتقاليد القبيلة إلى قوة الإرادة والعمل وحمايتهما بقوة القانون، ومن تعلم مبادئ اللغة واللاهوت في الكتاتيب إلى الدراسة الجامعية وما فرضته القيم الأكاديمية بدورها كجزء أساسي من مكونات المدينة.
الحداثة غربية؟
ومن المفارقات المثيرة للتأمل اليوم أن عددا من أهم نماذج العمارة التي يمكن أن نطلق عليها عمارة المستقبل، صممتها الفنانة العراقية العالمية الراحلة زها حديد. عقل عربي مبتكر وخلاق، صمم للغرب نماذج عديدة من أبرز نماذج عمارته الحداثية وبعضها مما يندرج في إطار عمارة ما بعد الحداثة، بين نماذج عديدة أخرى.
ما يهمني الالتفات إليه هنا أن العقل العربي، على مستوى الأفراد، قادر على خلق خيال يخص مدن المستقبل، لكن الإشكال في تقديري يتعلق بالنماذج التي اتخذها العالم العربي الذي تنتمي إليه زها حديد، في تأسيس حداثته المعمارية، فقد استعيرت من العمارة الغربية الحديثة وتم زراعتها في البيئة العربية من دون مراعاة لعدد من العوامل والاختلافات والفروقات التي تتعلق بالمناخ، والذوق العام، والخامات والاختلافات الثقافية.
لذلك فأغلب الدول العربية التي تمضي نحو مشروعات التحديث والنهضة العمرانية يغلب على عمارتها لون أو لمسة أو سمات من التغريب، وربما من الأمركة، مع بعض الاستثناءات التي حرصت فيها دول عربية قليلة أن تمنح لجانب من عمارتها لونا من الأصالة، والتناغم. وربما يكون في هذا التناقض جوهر مشكلة المدينة العربية، وتناقضاتها.
كهف قروي طائر!
ولعل المثال الأكثر صخبا في دلالاته على هذا التناقض اتخذ طابعا عالميا في لحظة سقوط البرجين الشاهقين في أحداث11 سبتمبر2001 الشهيرة في نيويورك. فقد قام عدد من الأشخاص التابعين لتنظيم القاعدة، وجلهم من أصول عربية من الحاصلين على شهادات علمية، ودرسوا في أوروبا، باختطاف عدة طائرات من طراز بوينج 747 لاستخدامها كسلاح تفجير ذاتي من خلال الارتطام المباشر بنموذج من أبرز نماذج العمارة الحديثة والاقتصاد العالمي الموجه لقيم المدنية والحداثة.
انحاز أنصار التنظيم الأصولي لقيم مستلبة من كهوف أفغانستان، وقراها الجبلية التي عاش قياديو التنظيم فيها مختبئين؛ كما كان شأن إنسان الكهف القديم، كما انحازوا لمفاهيم تقليدية تخلط بين الدين والسياسة، وميل رجعي للأصولية المستعارة من الماضي، وانحياز للدمار والقتل وسفك الدماء كوسيلة لتحقيق رسالتها، على حساب نموذج للعمارة المستقبلية والرفاهية الإنسانية، والبناء والعمارة والبحث عن أفق مستقبلي وعولمي للبشرية.
امتطى الكهف القروي القادم من عمق مسكن الإنسان البدائي عقولا بدائية تقود طائرة نفاثة لتناطح رمزا من رموز المدينة الحديثة، ليخلف حطاما هائلا على مستويات ثقافية وأخلاقية ومدنية عديدة.
وبسبب هذا النموذج الصارخ في تناقضاته ودلالاته فإن تناول موضوع مثل المدينة في العالم العربي هو أمر بالغ التعقيد، لأسباب تتعلق بنشأة المدن العربية في ظروف حداثة مشوهة، لعدم اكتمال الشروط الثقافية والاجتماعية التي بنيت على أساسها المدن القديمة، ولا على أساس المدن الغربية التي جاءت المدن فيها تعبير عن فضاء مديني ينتقل من قيم العصور الوسطى إلى قيم الدولة الصناعية الحديثة.
هذا التشوه في ظروف الحداثة قد يفسر بعض أسباب اختلال مشروع المدينة المعاصر، وبالتالي تأثيره على مدينة المستقبل.
لكن في الوقت نفسه ينبغي الأخذ في الاعتبار أن فكرة النموذج العالمي للعمارة الحديثة الممثل في بناء الأبراج الشاهقة أو ناطحات السحاب، قد تعود في جانب منها إلى تأثير العولمة، التي تسببت في تعميم هذا النموذج؛ ليس في أوروبا فقط، بل وفي آسيا وأمريكا اللاتينية ثم في المنطقة العربية.
ثم تأثير العمارة الإمبريالية، أي نماذج العمارة التي يأخذ بها المستعمر وتصبح نموذجا راسخا للحداثة المدنية لدى الدول المستعمرة، أو من خلال قيام نظام حكم ما باستعارة منظومة معمارية بالكامل مثل استعارة الخديوي إسماعيل لعمارة باريس بوصفها النموذج الحداثي لعمارة المدينة، أو بوصفها النموذج الأمثل للمدينة العصرية الحديثة ونقلها إلى القاهرة.
والحقيقة أنه لا توجد لدينا الكثير من الدراسات حول علاقة المدينة بالعمارة، ولا المدينة بالتغيرات الاجتماعية، وبالتالي بالعمارة المستقبلية، باعتبارها مخططات مدن المستقبل. ليس لدينا مقاربات ديفيد هارفي عن الحق في المدينة، ولا تيارات فكرية حاولت تتأمل مفهوم المدينة في العالم العربي وتأثير الاجتماعي والثقافي على بناء المدن والعكس.
وصحيح أن هناك بعض الدراسات التي رصدت وتأملت ملامح العمارة الإسلامية ومفاهيم بناء الدولة في خلال فترات التفوق العربي الإسلامي، أو فقه العمارة الإسلامية في الحواضر العربية الكبرى، لكن لا تتوفر مثلا محاولات لمسح التطور العمراني في مدينة مثل دمشق، أو بغداد أو القاهرة أو الرياض أو مسقط أو المغرب أو الجزائر.
المدن القديمة
«لو قيض لابن خلدون أن يعود إلى القاهرة التي أقام فيها، فلن يتعرف عليها، ولن يلمح تلك العظمة التي جعلتها أكبر مدن العالم الإسلامي في القرن الرابع عشر (..) المدن القديمة توارت وتغيرت معالمها وتلاشت، وتزايد عدد سكانها أضعافا مضاعفة بفعل الحداثة، وأدى التحديث إلى قيام مدينة جديدة إلى جوار القديمة التي هجرها سكانها، وهجر الوسط التجاري الحديث، ونشأت على أطرافها الضواحي الكبيرة المزدحمة التي لا أثر فيها للتراث العمراني وتعبر عن أزمة الحداثة».
هذه الفقرة للباحث والمفكر اللبناني خالد زيادة توصف تقريبا أزمة وتناقضات حداثة المدينة العربية، وخصوصا المدن القديمة التي عانت من الدولة الرخوة، كما شأن مصر مثلا خلال الفترة من بداية الثمانينات وحتى عام 2011 ثم وصولا للعام 2014، فقد شهدت القاهرة خلال هذه الفترة نوعا من التخطيط لبعض المدن الجديدة، التي جاءت استجابة للزيادة السكانية الكبيرة، وضرورة مد العمران لاستيعاب الكثافة السكانية.
وفي الوقت نفسه كانت هناك حركة انتقال من الريف للمدن انتقل خلالها الوافدون إلى مناطق لا تخضع لسيطرة حكومية تم البناء عليها بشكل عشوائي وسرقة مصادر الكهرباء من الدولة بشكل غير قانوني. وتوسعت هذه المناطق مكونة أكبر تجمعات لما عرف بـ«المناطق العشوائية» التي راكمت ثقافة محلية خاصة بها، واستعانت بالفساد لكي تسبغ على وجودها قوة الأمر الواقع، كما فرضت هي بنماذجها الفقيرة في البناء والوظيفة المعمارية القبح واللانظام، وشكلت قيوحا متوالية في وجه المدينة الحديثة وتسببت في تشويهها، حتى انتبهت الحكومة أخيرا ووضعت مخططا لتصفية المناطق العشوائية وإعادة بنائها لصالح مخططات جديدة تحتفي بأسس الحياة الكريمة للبشر، غير أن المخلفات الاجتماعية والثقافية التي نشأت في ظل تلك التجمعات العشوائية والتي انتقلت كالعدوى في ربوع القاهرة تحتاج إلى جهود جبارة من المجتمع الأهلي الثقافي في مصر جنبا إلى جنب مع الجهود الحكومية لإعادة تأهيل هذه الثقافة مع المفاهيم المدنية الحديثة.
تجاور النقيضين
يتناول المؤرخ أندريه ريمون تاريخ القاهرة منذ بداية الفتح الإسلامي وتأسيس العاصمة التي عرفت بالفسطاط (642م) مرورا بالقاهرة الفاطمية (969م) التي أعطاها اسمها الخليفة الفاطمي المعز، فعرفت بقاهرة المعز. وصولا إلى الفترة الاستعمارية (١٨٨٢-١٩٣٦)، حين شهدت المدينة نموا سكانيا، وازدياد المساحة المبنية من حوالي ألفي فدان إلى أربعين ألفا. ومع مطلع القرن العشرين، برز مشروع تأسيس مدينة جديدة، وصاحب المشروع هو البارون البلجيكي «أمبان»، وكان الهدف إنشاء منطقة سكنية للأوروبيين على بعد عشرة كيلومترات من القاهرة. وأطلق على المشروع اسم هليوبولس (مصر الجديدة).
«لقد ظلت هوليوبولس لأمد طويل غرسا منفصلا عن القاهرة يتجه في نموه نحو الشمال الشرقي، وابتدأ من منتصف القرن (العشرين) أدى نمو النسيج العمراني إلى ملء المساحة الخلاء الكبيرة التي كانت عند المنشأ تفصل بينها».
هذا ما يشير إليه خالد زيادة، نقلا عن ريمون، مشيرا إلى الأسباب التي غرست الإرهاصات الأولى لفكرة تجاور المناطق العشوائية مع المناطق السكنية القانونية، فيشير أنه:
«تكرست خلال الفترة الاستعمارية المدينتان، الأمر الذي كان بدأ مع مشاريع إسماعيل، بحيث يمكن القول بوجود مدينة أهلية وأخرى أوروبية فكان يوجد مجتمعان يختلفان في كل شيء. وازدادت الاختلافات عمقا؛ إذ انتقل وسط المدينة نحو الغرب حيث توجد السلطة والنشاط والثروة. ولم تعد القاهرة القديمة تحتل سوى جزء من المدينة العثمانية، لأن التحديث أدى إلى قضم أجزاء منها، واخترقت المباني الحديثة بعض أجزائها. وبينما كانت المدينة الأوروبية تنمو، كان الإهمال هو ما تعاني منه المدينة القديمة في النظافة والصرف الصحي والتزود بالمياه، والأمر يتعلق بالخدمات فحسب، وإنها أيضا في تزايد نسبة الفقر في المدينة. ولم يكن القديمة، التي هجرها التجار تدريجيا، في الوقت الذي كانت وظائفها تتدهور مع ازدياد نسبة البطالة».
«وفي رحلة 1937 -1966 التي تتوسطها ثورة يوليو، تضاعف سكان مصر من 16 مليون نسمة إلى 30 مليونا، ويعود ذلك إلى تحسن ظروف الرعاية الصحية وانخفاض الوفيات عامة، ترافق ذلك مع الهجرة الداخلية، وخصوصا في أعوام التحول الاشتراكي (1960-1966). كل ذلك أدى إلى امتداد القاهرة عمرانيا، الأمر الذي يدل على حجم المشكلات التي لم تستطع الإجراءات الحكومية من إيجاد حلول لها على الرغم من السياسات الاجتماعية النشطة.
وتفاقمت المشكلات في المراحل اللاحقة، حين تخلت الدولة، بعد عام ١٩۷۰، عن تدخلها في شؤون الامتداد العمراني، فنمت مناطق عرفت باسم «العشوائيات»، بعيدا عن أي تنظيم، ومحرومة من الخدمات العامة الضرورية (رصف الشوارع، المياه، الصرف الصحي، المدارس) ومن الاعتراف القانوني». وهو ما يعني أن ما حدث في حقبة الثمانينات وما بعدها من انطلاق العشوائيات بدأ في السبعينات، في الحقيقة، وفقا لأندريه ريمون.
عمارة الفقراء
وقد تمكن المعماري الكبير الراحل حسن فتحي من لفت الانتباه للعديد من مفاهيم العمارة التي ركز فيها على مفهوم حداثي لمباني الريف أو القرية بين ما شاع بمصطلح «عمارة الفقراء»، وقدم منها نماذج سكنية عديدة.
لكن بقدر أهمية أفكار فتحي إلا أنها عكست نوعا من النقص في شمولية الدراسات التي تبني العلاقة بين مفاهيم العمارة ومفاهيم المدينة، وبالتالي فإن كافة ما تم تناوله عن المدينة عربيا في غالبيته جاء في متن الدراسات التاريخية، وأما العمارة فقد اهتمت بالجوانب المعمارية نفسها التي ركزت على المواد الخام وعلى الشروط العامة التي تخضع لها العمارة، من دون تأمل السياق الواسع لهذا كله في إطار علم الاجتماع. وربما لهذا السبب أيضا أعلن فتحي اخفاقه وإخفاق المعماريين المصريين في علاج أسباب عشوائية العمارة.
لكن جانبا رئيسا من الظاهرة في تقديري يعود لعدم جدية النخبة في تأمل الظاهرة وفهمها، كما لو أنهم في انتقاداتهم المتوالية للقبح والرداءة لم يكن لديهم ابدا تصور عما يجب أن تكون عليه مدينة قديمة متهالكة لو امتلكت إرادة التحديث.
المفكر الأمريكي ديفيد هارفي في كتابه المهم «حالة ما بعد الحداثة»؛ قدم الفارق بين المدينة الحديثة والمدينة ما بعد الحداثية، قائلا:
«المدينة الحديثة هي نتاج التفكير الحداثي الذي يرى أن على التخطيط والتطوير أن يركزا على خطط مدينية بمعايير كبرى وإنشاءات ضخمة، وتصاميم تقنية عقلانية وفعالة. بحيث تكون العمارة ذات وظيفية صارمة وعالمية الطابع. أما مدينة ما بعد الحداثة فإن ما يراعي التقاليد والتواريخ المحلية فيها هو التصميم المديني وليس التخطيط».
فقر الفكر
وبعض المحاولات التي قام بها بعض الكتاب في هذا الإطار اعتمدت على أفكار مسلوبة من كتب التاريخ التي كانت ترى أن المدن بناء الديكتاتوريات، وان الديكتاتور مشغول ببناء شاهق المباني للتعبير عن القوة والنفوذ، بهذا الاختزال المخل، ومحاولة لي عنق الأفكار لتستجيب لهذه الفكرة المدرسية دون الانتباه إلى الطبيعة المعقدة جدا لتفاعل العنصر البشري في الالتفاف على العمارة الرسمية، والبحث عن طريقة لإيجاد مأوى ومحل عمل في الشوارع الخلفية لو صح التعبير، أي في المناطق البعيدة عن سيطرة السلطة. بالإضافة إلى العلاقات المعقدة جدا التي تربط بين سكان الأحياء الشعبية وغير الشعبية.
كتابات تخلو من البحث عن الحقيقة لصالح خدمة أفكار مسبقة، في جوهرها أفكار ثقافية صحيح لكنها ديكتاتورية في أحاديتها وضيق أفقها، ولهذا تخلو من العمق والشمولية. تخلو من فهم فكرة المدينة التي نشأت بسببها مفاهيم التخطيط من قلب فكرة الحداثة أولا، أكان من وضعها ديكتاتور منفرد بالرأي والقرار أو جهاز دولة شمولي أو حتى جهاز دولة ديمقراطي يضع أطرا عامة بينما يقوم القطاع الأهلي بالبناء وفق مخططاته وحساباته الاستثمارية. وهي كتابات لا تميز بين فكرة التخطيط نفسها كفكر استراتيجي وبين الطابع العمراني لها والذي قد تتولاه جهات أهلية لها أفكار خاصة في مفهوم العمارة مثل مشروعات حسن فتحي في مصر أو زهار حديد في أرجاء واسعة من العالم.
وهذه الكتابات العاطفية، تغفل الكيفية التي تمتد بها يد الإرادة الشعبية على أراض الدولة بخلق المساحة التي يمكن أن تتواطأ فيها السلطات التي لا تهتم بالتحديث كمشروع أصيل بقدر ما تهتم بها كواجهة لتمكين سلطتها ونفوذها، بهذا التواطؤ غير المعلن مع الطبقات المهمشة. أي أنها تغفل أن جزء أساسيا من توسع المناطق العشوائية هو تراكم لإرادة أهالي من جهة، وتسيب دولة بتقصيرها في توفير احتياجات وأساسيات العيش للسكان فتتغاضى عن المخالفين في العشوائيات لتضمن بشكل ما ولاءهم، وهو ما يمكن ملاحظته بسهولة في حالات الانتفاضات الشعبية والمواجهات فغالبا ما يتلافى سكان العشوائيات الوقوف ضد السلطة، وفي أحيان كثيرة قد يكونوا أدوات تستخدمها الأجهزة الأمنية لتمنح المشهد صراعا بين طرفين من أطراف الشعب.
كما أن بعض الكتابات ذات الطابع الصحفي التي تناولت موضوعات بناء القاهرة الحديثة في الوقت الراهن كانت تتهكم على توسيع الطرق وبناء الجسور كأنها أفعال غير منطقية وليست استجابات ضرورية لتحديث مجتمع تعطلت حداثته على مدى نحو نصف قرن بفعل جمود الحكومات السابقة، وكأن بناء الجسور وتوسيع الطرق في مدينة يسكنها أكثر من 30 مليون شخص مسألة تحتاج لمنطق أو فهم!
إن العمارة المستقبلية مرهونة بتغيرات ثقافية كبيرة تنهي مرحلة «هشاشة الحداثة» التي يبدو أنها ليست مقصورة على العوام بل الكارثة أن عددا من المحسوبين نخبا يضيفون إلى كتلة «هشاشة الحداثة» التي يعاني منها المجتمع أعدادا إضافية.
فالعولمة المتوحشة لن يفلت من أنيابها إلا الدول التي تمتلك مستقبلها، الثقافي والاقتصادي معا، مثلما فعلت الصين وكافة النماذج التي جاءت كطيف لتجربتها. وبالتالي فإن مدن المستقبل هي بالضرورة مدن تحتفي بالحداثة وتقبل بها رافدا أصيلا وثقافة حقيقية، وعلى العالم العربي استيعاب الدرس جيدا والإفادة منه في بناء مدن المستقبل العربية.
إبراهيم فرغلي كاتب وروائي مصري
وهذه الظروف المدنية اقتضت بطبيعة الحال أيضا تغييرا في السلوك والثقافة من التواكل والتكاسل الذي يفرضه منطق المواسم الزراعية والانتظار لمواسم الحصاد إلى المبادرة والتخطيط، ومن الأعراف وتقاليد القبيلة إلى قوة الإرادة والعمل وحمايتهما بقوة القانون، ومن تعلم مبادئ اللغة واللاهوت في الكتاتيب إلى الدراسة الجامعية وما فرضته القيم الأكاديمية بدورها كجزء أساسي من مكونات المدينة.
الحداثة غربية؟
ومن المفارقات المثيرة للتأمل اليوم أن عددا من أهم نماذج العمارة التي يمكن أن نطلق عليها عمارة المستقبل، صممتها الفنانة العراقية العالمية الراحلة زها حديد. عقل عربي مبتكر وخلاق، صمم للغرب نماذج عديدة من أبرز نماذج عمارته الحداثية وبعضها مما يندرج في إطار عمارة ما بعد الحداثة، بين نماذج عديدة أخرى.
ما يهمني الالتفات إليه هنا أن العقل العربي، على مستوى الأفراد، قادر على خلق خيال يخص مدن المستقبل، لكن الإشكال في تقديري يتعلق بالنماذج التي اتخذها العالم العربي الذي تنتمي إليه زها حديد، في تأسيس حداثته المعمارية، فقد استعيرت من العمارة الغربية الحديثة وتم زراعتها في البيئة العربية من دون مراعاة لعدد من العوامل والاختلافات والفروقات التي تتعلق بالمناخ، والذوق العام، والخامات والاختلافات الثقافية.
لذلك فأغلب الدول العربية التي تمضي نحو مشروعات التحديث والنهضة العمرانية يغلب على عمارتها لون أو لمسة أو سمات من التغريب، وربما من الأمركة، مع بعض الاستثناءات التي حرصت فيها دول عربية قليلة أن تمنح لجانب من عمارتها لونا من الأصالة، والتناغم. وربما يكون في هذا التناقض جوهر مشكلة المدينة العربية، وتناقضاتها.
كهف قروي طائر!
ولعل المثال الأكثر صخبا في دلالاته على هذا التناقض اتخذ طابعا عالميا في لحظة سقوط البرجين الشاهقين في أحداث11 سبتمبر2001 الشهيرة في نيويورك. فقد قام عدد من الأشخاص التابعين لتنظيم القاعدة، وجلهم من أصول عربية من الحاصلين على شهادات علمية، ودرسوا في أوروبا، باختطاف عدة طائرات من طراز بوينج 747 لاستخدامها كسلاح تفجير ذاتي من خلال الارتطام المباشر بنموذج من أبرز نماذج العمارة الحديثة والاقتصاد العالمي الموجه لقيم المدنية والحداثة.
انحاز أنصار التنظيم الأصولي لقيم مستلبة من كهوف أفغانستان، وقراها الجبلية التي عاش قياديو التنظيم فيها مختبئين؛ كما كان شأن إنسان الكهف القديم، كما انحازوا لمفاهيم تقليدية تخلط بين الدين والسياسة، وميل رجعي للأصولية المستعارة من الماضي، وانحياز للدمار والقتل وسفك الدماء كوسيلة لتحقيق رسالتها، على حساب نموذج للعمارة المستقبلية والرفاهية الإنسانية، والبناء والعمارة والبحث عن أفق مستقبلي وعولمي للبشرية.
امتطى الكهف القروي القادم من عمق مسكن الإنسان البدائي عقولا بدائية تقود طائرة نفاثة لتناطح رمزا من رموز المدينة الحديثة، ليخلف حطاما هائلا على مستويات ثقافية وأخلاقية ومدنية عديدة.
وبسبب هذا النموذج الصارخ في تناقضاته ودلالاته فإن تناول موضوع مثل المدينة في العالم العربي هو أمر بالغ التعقيد، لأسباب تتعلق بنشأة المدن العربية في ظروف حداثة مشوهة، لعدم اكتمال الشروط الثقافية والاجتماعية التي بنيت على أساسها المدن القديمة، ولا على أساس المدن الغربية التي جاءت المدن فيها تعبير عن فضاء مديني ينتقل من قيم العصور الوسطى إلى قيم الدولة الصناعية الحديثة.
هذا التشوه في ظروف الحداثة قد يفسر بعض أسباب اختلال مشروع المدينة المعاصر، وبالتالي تأثيره على مدينة المستقبل.
لكن في الوقت نفسه ينبغي الأخذ في الاعتبار أن فكرة النموذج العالمي للعمارة الحديثة الممثل في بناء الأبراج الشاهقة أو ناطحات السحاب، قد تعود في جانب منها إلى تأثير العولمة، التي تسببت في تعميم هذا النموذج؛ ليس في أوروبا فقط، بل وفي آسيا وأمريكا اللاتينية ثم في المنطقة العربية.
ثم تأثير العمارة الإمبريالية، أي نماذج العمارة التي يأخذ بها المستعمر وتصبح نموذجا راسخا للحداثة المدنية لدى الدول المستعمرة، أو من خلال قيام نظام حكم ما باستعارة منظومة معمارية بالكامل مثل استعارة الخديوي إسماعيل لعمارة باريس بوصفها النموذج الحداثي لعمارة المدينة، أو بوصفها النموذج الأمثل للمدينة العصرية الحديثة ونقلها إلى القاهرة.
والحقيقة أنه لا توجد لدينا الكثير من الدراسات حول علاقة المدينة بالعمارة، ولا المدينة بالتغيرات الاجتماعية، وبالتالي بالعمارة المستقبلية، باعتبارها مخططات مدن المستقبل. ليس لدينا مقاربات ديفيد هارفي عن الحق في المدينة، ولا تيارات فكرية حاولت تتأمل مفهوم المدينة في العالم العربي وتأثير الاجتماعي والثقافي على بناء المدن والعكس.
وصحيح أن هناك بعض الدراسات التي رصدت وتأملت ملامح العمارة الإسلامية ومفاهيم بناء الدولة في خلال فترات التفوق العربي الإسلامي، أو فقه العمارة الإسلامية في الحواضر العربية الكبرى، لكن لا تتوفر مثلا محاولات لمسح التطور العمراني في مدينة مثل دمشق، أو بغداد أو القاهرة أو الرياض أو مسقط أو المغرب أو الجزائر.
المدن القديمة
«لو قيض لابن خلدون أن يعود إلى القاهرة التي أقام فيها، فلن يتعرف عليها، ولن يلمح تلك العظمة التي جعلتها أكبر مدن العالم الإسلامي في القرن الرابع عشر (..) المدن القديمة توارت وتغيرت معالمها وتلاشت، وتزايد عدد سكانها أضعافا مضاعفة بفعل الحداثة، وأدى التحديث إلى قيام مدينة جديدة إلى جوار القديمة التي هجرها سكانها، وهجر الوسط التجاري الحديث، ونشأت على أطرافها الضواحي الكبيرة المزدحمة التي لا أثر فيها للتراث العمراني وتعبر عن أزمة الحداثة».
هذه الفقرة للباحث والمفكر اللبناني خالد زيادة توصف تقريبا أزمة وتناقضات حداثة المدينة العربية، وخصوصا المدن القديمة التي عانت من الدولة الرخوة، كما شأن مصر مثلا خلال الفترة من بداية الثمانينات وحتى عام 2011 ثم وصولا للعام 2014، فقد شهدت القاهرة خلال هذه الفترة نوعا من التخطيط لبعض المدن الجديدة، التي جاءت استجابة للزيادة السكانية الكبيرة، وضرورة مد العمران لاستيعاب الكثافة السكانية.
وفي الوقت نفسه كانت هناك حركة انتقال من الريف للمدن انتقل خلالها الوافدون إلى مناطق لا تخضع لسيطرة حكومية تم البناء عليها بشكل عشوائي وسرقة مصادر الكهرباء من الدولة بشكل غير قانوني. وتوسعت هذه المناطق مكونة أكبر تجمعات لما عرف بـ«المناطق العشوائية» التي راكمت ثقافة محلية خاصة بها، واستعانت بالفساد لكي تسبغ على وجودها قوة الأمر الواقع، كما فرضت هي بنماذجها الفقيرة في البناء والوظيفة المعمارية القبح واللانظام، وشكلت قيوحا متوالية في وجه المدينة الحديثة وتسببت في تشويهها، حتى انتبهت الحكومة أخيرا ووضعت مخططا لتصفية المناطق العشوائية وإعادة بنائها لصالح مخططات جديدة تحتفي بأسس الحياة الكريمة للبشر، غير أن المخلفات الاجتماعية والثقافية التي نشأت في ظل تلك التجمعات العشوائية والتي انتقلت كالعدوى في ربوع القاهرة تحتاج إلى جهود جبارة من المجتمع الأهلي الثقافي في مصر جنبا إلى جنب مع الجهود الحكومية لإعادة تأهيل هذه الثقافة مع المفاهيم المدنية الحديثة.
تجاور النقيضين
يتناول المؤرخ أندريه ريمون تاريخ القاهرة منذ بداية الفتح الإسلامي وتأسيس العاصمة التي عرفت بالفسطاط (642م) مرورا بالقاهرة الفاطمية (969م) التي أعطاها اسمها الخليفة الفاطمي المعز، فعرفت بقاهرة المعز. وصولا إلى الفترة الاستعمارية (١٨٨٢-١٩٣٦)، حين شهدت المدينة نموا سكانيا، وازدياد المساحة المبنية من حوالي ألفي فدان إلى أربعين ألفا. ومع مطلع القرن العشرين، برز مشروع تأسيس مدينة جديدة، وصاحب المشروع هو البارون البلجيكي «أمبان»، وكان الهدف إنشاء منطقة سكنية للأوروبيين على بعد عشرة كيلومترات من القاهرة. وأطلق على المشروع اسم هليوبولس (مصر الجديدة).
«لقد ظلت هوليوبولس لأمد طويل غرسا منفصلا عن القاهرة يتجه في نموه نحو الشمال الشرقي، وابتدأ من منتصف القرن (العشرين) أدى نمو النسيج العمراني إلى ملء المساحة الخلاء الكبيرة التي كانت عند المنشأ تفصل بينها».
هذا ما يشير إليه خالد زيادة، نقلا عن ريمون، مشيرا إلى الأسباب التي غرست الإرهاصات الأولى لفكرة تجاور المناطق العشوائية مع المناطق السكنية القانونية، فيشير أنه:
«تكرست خلال الفترة الاستعمارية المدينتان، الأمر الذي كان بدأ مع مشاريع إسماعيل، بحيث يمكن القول بوجود مدينة أهلية وأخرى أوروبية فكان يوجد مجتمعان يختلفان في كل شيء. وازدادت الاختلافات عمقا؛ إذ انتقل وسط المدينة نحو الغرب حيث توجد السلطة والنشاط والثروة. ولم تعد القاهرة القديمة تحتل سوى جزء من المدينة العثمانية، لأن التحديث أدى إلى قضم أجزاء منها، واخترقت المباني الحديثة بعض أجزائها. وبينما كانت المدينة الأوروبية تنمو، كان الإهمال هو ما تعاني منه المدينة القديمة في النظافة والصرف الصحي والتزود بالمياه، والأمر يتعلق بالخدمات فحسب، وإنها أيضا في تزايد نسبة الفقر في المدينة. ولم يكن القديمة، التي هجرها التجار تدريجيا، في الوقت الذي كانت وظائفها تتدهور مع ازدياد نسبة البطالة».
«وفي رحلة 1937 -1966 التي تتوسطها ثورة يوليو، تضاعف سكان مصر من 16 مليون نسمة إلى 30 مليونا، ويعود ذلك إلى تحسن ظروف الرعاية الصحية وانخفاض الوفيات عامة، ترافق ذلك مع الهجرة الداخلية، وخصوصا في أعوام التحول الاشتراكي (1960-1966). كل ذلك أدى إلى امتداد القاهرة عمرانيا، الأمر الذي يدل على حجم المشكلات التي لم تستطع الإجراءات الحكومية من إيجاد حلول لها على الرغم من السياسات الاجتماعية النشطة.
وتفاقمت المشكلات في المراحل اللاحقة، حين تخلت الدولة، بعد عام ١٩۷۰، عن تدخلها في شؤون الامتداد العمراني، فنمت مناطق عرفت باسم «العشوائيات»، بعيدا عن أي تنظيم، ومحرومة من الخدمات العامة الضرورية (رصف الشوارع، المياه، الصرف الصحي، المدارس) ومن الاعتراف القانوني». وهو ما يعني أن ما حدث في حقبة الثمانينات وما بعدها من انطلاق العشوائيات بدأ في السبعينات، في الحقيقة، وفقا لأندريه ريمون.
عمارة الفقراء
وقد تمكن المعماري الكبير الراحل حسن فتحي من لفت الانتباه للعديد من مفاهيم العمارة التي ركز فيها على مفهوم حداثي لمباني الريف أو القرية بين ما شاع بمصطلح «عمارة الفقراء»، وقدم منها نماذج سكنية عديدة.
لكن بقدر أهمية أفكار فتحي إلا أنها عكست نوعا من النقص في شمولية الدراسات التي تبني العلاقة بين مفاهيم العمارة ومفاهيم المدينة، وبالتالي فإن كافة ما تم تناوله عن المدينة عربيا في غالبيته جاء في متن الدراسات التاريخية، وأما العمارة فقد اهتمت بالجوانب المعمارية نفسها التي ركزت على المواد الخام وعلى الشروط العامة التي تخضع لها العمارة، من دون تأمل السياق الواسع لهذا كله في إطار علم الاجتماع. وربما لهذا السبب أيضا أعلن فتحي اخفاقه وإخفاق المعماريين المصريين في علاج أسباب عشوائية العمارة.
لكن جانبا رئيسا من الظاهرة في تقديري يعود لعدم جدية النخبة في تأمل الظاهرة وفهمها، كما لو أنهم في انتقاداتهم المتوالية للقبح والرداءة لم يكن لديهم ابدا تصور عما يجب أن تكون عليه مدينة قديمة متهالكة لو امتلكت إرادة التحديث.
المفكر الأمريكي ديفيد هارفي في كتابه المهم «حالة ما بعد الحداثة»؛ قدم الفارق بين المدينة الحديثة والمدينة ما بعد الحداثية، قائلا:
«المدينة الحديثة هي نتاج التفكير الحداثي الذي يرى أن على التخطيط والتطوير أن يركزا على خطط مدينية بمعايير كبرى وإنشاءات ضخمة، وتصاميم تقنية عقلانية وفعالة. بحيث تكون العمارة ذات وظيفية صارمة وعالمية الطابع. أما مدينة ما بعد الحداثة فإن ما يراعي التقاليد والتواريخ المحلية فيها هو التصميم المديني وليس التخطيط».
فقر الفكر
وبعض المحاولات التي قام بها بعض الكتاب في هذا الإطار اعتمدت على أفكار مسلوبة من كتب التاريخ التي كانت ترى أن المدن بناء الديكتاتوريات، وان الديكتاتور مشغول ببناء شاهق المباني للتعبير عن القوة والنفوذ، بهذا الاختزال المخل، ومحاولة لي عنق الأفكار لتستجيب لهذه الفكرة المدرسية دون الانتباه إلى الطبيعة المعقدة جدا لتفاعل العنصر البشري في الالتفاف على العمارة الرسمية، والبحث عن طريقة لإيجاد مأوى ومحل عمل في الشوارع الخلفية لو صح التعبير، أي في المناطق البعيدة عن سيطرة السلطة. بالإضافة إلى العلاقات المعقدة جدا التي تربط بين سكان الأحياء الشعبية وغير الشعبية.
كتابات تخلو من البحث عن الحقيقة لصالح خدمة أفكار مسبقة، في جوهرها أفكار ثقافية صحيح لكنها ديكتاتورية في أحاديتها وضيق أفقها، ولهذا تخلو من العمق والشمولية. تخلو من فهم فكرة المدينة التي نشأت بسببها مفاهيم التخطيط من قلب فكرة الحداثة أولا، أكان من وضعها ديكتاتور منفرد بالرأي والقرار أو جهاز دولة شمولي أو حتى جهاز دولة ديمقراطي يضع أطرا عامة بينما يقوم القطاع الأهلي بالبناء وفق مخططاته وحساباته الاستثمارية. وهي كتابات لا تميز بين فكرة التخطيط نفسها كفكر استراتيجي وبين الطابع العمراني لها والذي قد تتولاه جهات أهلية لها أفكار خاصة في مفهوم العمارة مثل مشروعات حسن فتحي في مصر أو زهار حديد في أرجاء واسعة من العالم.
وهذه الكتابات العاطفية، تغفل الكيفية التي تمتد بها يد الإرادة الشعبية على أراض الدولة بخلق المساحة التي يمكن أن تتواطأ فيها السلطات التي لا تهتم بالتحديث كمشروع أصيل بقدر ما تهتم بها كواجهة لتمكين سلطتها ونفوذها، بهذا التواطؤ غير المعلن مع الطبقات المهمشة. أي أنها تغفل أن جزء أساسيا من توسع المناطق العشوائية هو تراكم لإرادة أهالي من جهة، وتسيب دولة بتقصيرها في توفير احتياجات وأساسيات العيش للسكان فتتغاضى عن المخالفين في العشوائيات لتضمن بشكل ما ولاءهم، وهو ما يمكن ملاحظته بسهولة في حالات الانتفاضات الشعبية والمواجهات فغالبا ما يتلافى سكان العشوائيات الوقوف ضد السلطة، وفي أحيان كثيرة قد يكونوا أدوات تستخدمها الأجهزة الأمنية لتمنح المشهد صراعا بين طرفين من أطراف الشعب.
كما أن بعض الكتابات ذات الطابع الصحفي التي تناولت موضوعات بناء القاهرة الحديثة في الوقت الراهن كانت تتهكم على توسيع الطرق وبناء الجسور كأنها أفعال غير منطقية وليست استجابات ضرورية لتحديث مجتمع تعطلت حداثته على مدى نحو نصف قرن بفعل جمود الحكومات السابقة، وكأن بناء الجسور وتوسيع الطرق في مدينة يسكنها أكثر من 30 مليون شخص مسألة تحتاج لمنطق أو فهم!
إن العمارة المستقبلية مرهونة بتغيرات ثقافية كبيرة تنهي مرحلة «هشاشة الحداثة» التي يبدو أنها ليست مقصورة على العوام بل الكارثة أن عددا من المحسوبين نخبا يضيفون إلى كتلة «هشاشة الحداثة» التي يعاني منها المجتمع أعدادا إضافية.
فالعولمة المتوحشة لن يفلت من أنيابها إلا الدول التي تمتلك مستقبلها، الثقافي والاقتصادي معا، مثلما فعلت الصين وكافة النماذج التي جاءت كطيف لتجربتها. وبالتالي فإن مدن المستقبل هي بالضرورة مدن تحتفي بالحداثة وتقبل بها رافدا أصيلا وثقافة حقيقية، وعلى العالم العربي استيعاب الدرس جيدا والإفادة منه في بناء مدن المستقبل العربية.
إبراهيم فرغلي كاتب وروائي مصري