القاهرة في أفلام مخرجي الثمانينيات: بين الغضب والولع
الخميس / 28 / ذو الحجة / 1443 هـ - 13:32 - الخميس 28 يوليو 2022 13:32
يبدأ فيلم «خرج ولم يعد» بالعبارة التالية مكتوبة على الشاشة: «ربما كانت الشخصيات من الخيال ولكن ثق أن الأماكن من الواقع». عبارة تصلح لوصف كثير من أفلام موجة «الواقعية الجديدة» في الثمانينيات التي أعادت تحديد مفهوم المكان في السينما المصرية، وتلخص علاقة معظم مخرجي هذه الموجة بالمكان، وتحديدًا علاقتهم بمدينة القاهرة في تحولاتها السريعة والمخيفة بداية من الستينيات وصولًا إلى الألفية الجديدة مرورًا بعنق زجاجة الثمانينيات.
في المقال التالي نختبر هذه المقولة ومفهوم المكان والمدينة في أعمال ثلاثة من مخرجي «الواقعية الجديدة» وهم محمد خان وعاطف الطيب وخيري بشارة.
السينما ابنة المدينة
هي وليد الحداثة والمدنية، شقيقة الكهرباء والقطار والسيارة والهاتف وقاعات الترفيه والشوارع المنسقة والجسور الخراسانية والمباني السكنية متعددة الطوابق والسكان.
والمدينة هي موضوع السينما الرئيس والمفضل. قد تكون مظاهر الحياة اليومية، وقد تكون مدينة خيالية مستقبلية. قد تكون نشأة المدينة، كما في نوع أفلام «الويسترن»، أو فساد وانحلال المدينة، كما في نوع أفلام «الفيلم نوار» البوليسية.
حتى في فن «الكوميكس» لا يمكن تخيل أبطالها الخارقين دون مدنهم ذات الطبيعة الخاصة: «متروبوليس» سوبرمان النهارية، و«جوثام» باتمان الليلية مثلا.
مهما كان الفيلم «خياليا»، يظل فضاء المدينة التي تدور فيها الأحداث هي شاغله الرئيس، ومهما كان الفيلم «واقعيا» تظل المدينة هي صورة خيالية في أذهان صناع الفيلم، تختلف عن الواقع بدرجة أو أخرى.
تنشغل الدراسات السينمائية الحديثة بصور المدينة في السينما لأسباب عدة، قد يكون منها الطابع التوثيقي الكامن في أي فيلم أو صورة يلتقطان الواقع، خاصة إذا كان الفيلم مصور بالفعل في شوارع المدينة ومعالمها ومبانيها. ولكن الغرض الغالب في هذه الدراسات هو معرفة تصور صناع العمل بشكل خاص، والمجتمع الذي صدر فيه العمل بشكل عام، عن المدينة خلال زمن صنع الفيلم وصدوره للعرض. المدينة، في الأول والآخر، ليست سوى صورة ذهنية عنها، تتحدد وفقًا لموقف الرائي منها، وظروفه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية داخل هذه المدينة.
كانت مدينة القاهرة ولم تزل هي الموقع الأساسي الذي تدور فيه معظم أفلام السينما المصرية، ليس فقط لأنها العاصمة والمدينة ذات العدد الأكبر من السكان، ولكن أيضًا لمركزيتها الشديدة سياسيًا واقتصاديًا وثقافيا، حتى أن المصريين خارج القاهرة يطلقون عليها اسم «مصر»، كأنها هي الدولة وهم خارجها.
مع ذلك، ومقارنة بعدد الأفلام التي تدور في القاهرة، والذي يصل لبضعة آلاف، فإن شوارع ومعالم ومباني القاهرة لم تظهر في هذه الأفلام بدرجة تتناسب مع وجودها الدرامي؛ نظرًا لإن معظم الأفلام كانت تصور داخل الاستديوهات والشقق أو القصور المغلقة، ويعود ذلك غالبًا لأسباب تقنية منها صعوبة التصوير الخارجي خاصة في الأماكن العامة، والضجيج والزحام اللذان تتسم بهما المدينة، وأحيانا لأسباب رقابية أو أمنية. وفي معظم الأوقات كان صناع الأفلام يعتمدون على بعض اللقطات العامة العابرة لتصوير بعض اللقطات في الشارع لإعطاء الشعور بالمكان والواقع.
شهدت الثمانينيات أكبر انقلاب في علاقة السينما المصرية بالمدينة على يد جيل جديد من المخرجين أطلق على أعمالهم «الواقعية الجديدة»، وهو مصطلح أطلق في نهاية الأربعينيات على جيل من صناع الأفلام الإيطاليين الذين خرجوا بكاميراتهم إلى شوارع المدن التي هدمتها الحرب العالمية الثانية. ومثل «الواقعية الجديدة الإيطالية» كان أبرز ما في موجة الواقعية الجديدة في مصر هو شجاعة صناعها في الخروج إلى الشوارع وسط الناس لتصوير أبطالهم داخل الأماكن العامة التي يعرفها ويعيش فيها المشاهد، وكان من أبرز هؤلاء محمد خان وعاطف الطيب وخيري بشارة، بجانب أعمال متناثرة لآخرين، وكان لهذا الخروج إلى قلب المدينة أثر بالغ في تغيير مصير وشكل السينما المصرية حتى الآن.
ولكن على عكس ما توحي به عبارة «خرج ولم يعد» الافتتاحية، يصعب أن نتعامل مع المكان في السينما، مهما بلغت درجة واقعيته، باعتباره «واقعًا»، فهو مثل أي عنصر فني آخر يمثل هذا الواقع وفقا لرؤية صانع، أو صناع العمل، وبالتالي يمكن أن نلاحظ أن أعمال هؤلاء المخرجين ترسم صورًا مختلفة للقاهرة، وإن كانت تكمل بعضها بعضا بشكل ما، كما أن صورتهم عن المدينة تختلف بالتأكيد عن صورتها في عيون أجيال أسبق أو أحدث من السينمائيين.
ضربة البداية
كانت البداية مع محمد خان وفيلم «ضربة شمس» (1980) الذي افتتح موجة «الواقعية الجديدة» وعقد الثمانينات، وهو العمل الأول لمخرجه العائد من إنجلترا بعد رحلة دراسة وتثقيف طويلة فكر فيها أن يهاجر ولكنه عاد مدفوعا بارتباطه الشديد بذكرياته القاهرية، وبعد عدة مشاريع لم تتم تحمس النجم نور الشريف للعب بطولة وإنتاج «ضربة شمس» (المقتبس بتصرف من فيلم «تكبير الصورة» لأنطونيوني، أحد أعلام موجة «الواقعية الجديدة» في إيطاليا).
من اللقطة الأولى، التي تتبدى فيها معالم قاهرة الثمانينات بعدسة المصور الفوتوغرافي شمس (نور الشريف) غير واضحة المعالم، تدور أغلب مشاهد «ضربة شمس» في شوارع القاهرة، ويستطيع خان مع مدير التصوير سعيد الشيمي، أن يطوع تضاريسها، سواء كانت جسرًا للسيارات أو المشاة، أو مترو، أو تلافيف شوارع وسط البلد، ليصنع صورة حية وغير مسبوقة للقاهرة.
يواصل محمد خان في أفلامه التالية، خاصة «موعد على العشاء»، «طائر على الطريق»، «الحريف»، «عودة مواطن»، «أحلام هند وكاميليا»، «سوبرماركت»، «يوم حار جدا»، «فارس المدينة»، «كليفتي»، «بنات وسط البلد»، «في شقة مصر الجديدة» و«فتاة المصنع»، مشروعه الفني الكبير في رصد معالم القاهرة وتحولاتها المدهشة منذ بداية الثمانينات وحتى منتصف العقد الثاني من القرن العشرين، مثلما لم يفعل أي مخرج آخر في تاريخ السينما المصرية.
المدينة في أعمال محمد خان ليست مجرد خلفية للأحداث أو تحديد للمكان والزمان الذي تعيش فيه الشخصيات، ولكنها من الأهمية بحيث يمكن تصور أنها البطل الفعلي للقصة، كما يصعب تصور أن تدور القصة في مكان آخر، وكاميرا محمد خان تهتم برصد ملامح المكان وتحولاته ككائن حي، ويمكن ملاحظة ذلك بوضوح في الأعمال سابقة الذكر. لا يمكن تخيل «الحريف» مثلا دون الساحات الشعبية ولا لقطات عادل إمام خارج حصار المباني القديمة وسطح المبنى المطل على ميدان التحرير الذي يسكنه والجسور التي تعلوه كأنما هي مسوخ عملاقة تحيط به. كذلك يصعب أن نتخيل «أحلام هند وكاميليا» دون هذه البيوت الشعبية والمناطق ووسائل المواصلات المزدحمة التي يعيشون فيها. ويذكر مدير التصوير سعيد شيمي في مناسبات وكتب عدة حكايات عن التصوير في هذه الأماكن وكيف كان يصر محمد خان عليها رغم أي معوقات.
ويروي شيمي أن خان كان يحرص قبل تصوير كل فيلم من أفلامه على النزول للشارع لمعايشة الدراما والحالة التي يعبر عنها في الفيلم. ومن الأمثلة على ذلك حين أخرج فيلم «الحريف» عام 1983، صوره في حي بولاق أبو العلا، ليجسد عن قرب وواقعية مشاهد حياة سكان الحي وحياتهم اليومية.
ويروي محمد خان في كتابه «مخرج على الطريق» عن إصراره على تصوير مشهد كامل ومعقد في مطعم قريب من سينما مترو خلال تصوير فيلم «ضربة شمس»، بالرغم من إبداء منتج الفيلم (نور الشريف) عن استعداده لبناء نفس المقهى في الأستوديو: «قلت لا. سأصور هناك، حيث كنت أذهب وأتناول العشاء مع والدي ونذهب إلى السينما، لقد عنى ذلك شيئا مهم بالنسبة لي (...) أنا أحب المدينة، لقد ولدت ونشأت في وسط المدينة، وأحب أن أصور في الأماكن التي أتذكرها، أو التي كنت قد زرتها!»
غضب الطيب
في العام التالي لظهور فيلم «ضربة شمس» قام عاطف الطيب بصنع فيلمه الأول «سواق الأتوبيس»، مستعينا بمدير التصوير سعيد شيمي عن سيناريو لبشير الديك ومحمد خان، وإذا كان «ضربة شمس» قد دشن معالجة جيل مخرجي الثمانينيات المختلفة للمدينة باعتبارها شريكا وبطلا للعمل، وليس زائدة تجميلية أو إخبارية، فإن «سواق الأتوبيس» دشن الارتباط بين الخروج للشارع والتصوير في الأماكن الطبيعية للأحداث وبين المعالجة «الواقعية» للدراما. وأبرز معالم هذه «الواقعية» تتمثل في حكي قصصا بسيطة تخلو من الميلودراما والمبالغات العاطفية، عن «أبطال» ليسوا أبطالًا من خارقي القوة المنتصرين دومًا، بل أقرب للمواطنين العاديين، المهزومين والمهمشين.
يبدأ ضربة شمس ببطله على ظهر دراجة بخارية تخترق شوارع القاهرة، ويرصد رحلة ليلية يخوض فيها البطل صراعات شرسة ضد مجرمين محترفين في فيلم ينتمي لنوع «الأكشن». أما «سواق الأتوبيس» فيبدأ ببطله (نور الشريف أيضا) سائقًا لأتوبيس مواصلات عامة نهارًا، وسائقًا لتاكس خاص ليلًا، يقضي نهاراته ولياليه المملة خائضا وسط زحام المدينة ومشاكل مواطنيها الكادحين المحبطين. ويربط الفيلم بين مشكلة بطله حسن الذي تطالبه أسرته عقب موت والده صاحب ورشة الميكانيكا أن يبيع الورشة، وبين مشاكل ملايين المصريين الذين يعانون من وطأة الانفتاح الاقتصادي وارتفاع الأسعار وصعود طبقة التجار والعائدين من الخليج، وبيع البلد «سياسيا» للرأسمالية الأمريكية.
ويروي سعيد شيمي كيف أصر الطيب على التصوير في حي بولاق الدكرور، مقتنعًا بأن ذلك سيجعل الممثلين أكثر إحساسًا بالمكان وصدقًا في التعبير. وهو ما تكرر في أفلام لاحقة تدور بعض مشاهدها في قلب وقاع القاهرة.
بعد محمد خان، لا يوجد مخرج مصري شغف بتصوير شوارع القاهرة مثل عاطف الطيب، ومن أبرز أفلامه التي تمثل فيها معالم القاهرة دورًا أساسيًا «التخشيبة»، «ملف في الآداب»، «الحب فوق هضبة الهرم»، «ليلة ساخنة»، ويمكن ملاحظة بعض أوجه الشبه في أفلامهما مثل إصرارهما على التصوير في الأماكن الشعبية ومثل استخدام بطل يعمل سائقًا على الطريق، ولكن يمكن أيضًا ملاحظة فارق كبير بين القاهرة كما يراها خان والقاهرة كما يراها عاطف الطيب.
خان ابن المدينة، تسري في دمه، ويعشقها. حتى عندما حاول أن يخرج من أسرها في فيلم «خرج ولم يعد» (1984) الذي يدور حول رجل (يحيى الفخراني) يسافر إلى الريف لبيع قطعة أرض ورثها فيقع في حب الريف ويقرر البقاء فيه، إلا أن الفيلم رغم جماله، يحمل قدرًا من الرومانسية لا تتفق مع الواقعية الخشنة التي تتسم بها أعمال مخرجي «الواقعية الجديدة» عادة، ويبدو بين أعمال خان كما لو كان محطة استراحة وهروب مؤقت من أسر المدينة.
أبطال خان قاهريون، أولاد بلد، يعافرون مع المدينة ويعرفون، غالبًا، كيف يتحايلون عليها وسرقة سعادتهم.
في أعمال عاطف الطيب، النازح من الصعيد، يمكن ملاحظة الشعور بالقلق وعدم الراحة تجاه القاهرة، ونوعا من الموقف القيمي الأخلاقي الذي يتخذه القادمون من الريف غالبًا تجاه المدينة المتحررة، القاسية إنسانيا. وأبطال عاطف الطيب يبدون محاصرين داخل المدينة ومحكوم عليهم بالسقوط، كما لو كانوا يعيشون في إحدى مدن كافكا.
في «سواق الأتوبيس» تبوء كل محاولات حسن لمواجهة المدينة الخانقة بالفشل، فينقلب في المشهد الأخير إلى العنف مفرغا كل إحباطه وغضبه ضد «نشال» أتوبيسات صغير.
يدور كل من «التخشيبة» و«ملف في الآداب» حول نساء يتهمن زورا في شرفهن ويجدن أنفسهن محاصرات بذنب لم يرتكبنه بمحض صدفة عمياء.
في «الحب فوق هضبة الهرم»، 1986، المقتبس عن رواية نجيب محفوظ، لا يستطيع شابان متحابان متزوجان حديثا أن يختليا خلوة شرعية داخل مدينة مكتظة بالملايين يبدو أنها لم يعد يشغلها سوى ملاحقة وعقاب الشابين على ذنب لم يرتكباه.
في «الهروب»، 1991، يتجلى موقف عاطف الطيب من ثنائية المدينة/ الريف، فبطله منتصر (أحمد زكي) الشاب القادم من الريف، يتعرض، مثل بطل «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ، لسلسلة من الخيانات والمؤامرات تؤدي به إلى السجن وفقدان زوجته، ورغم كل براعته إلا أنه يبدو مثل فأر محاصر داخل مصيدة. حتى عندما يهرب يحدث ذلك تحت عين الشرطة التي ترغب في صناعة حدث يهتم به الناس للتشويش على أحداث سياسية. ولا يشعر منتصر بالحرية أو الدعة والراحة إلا عندما يعود إلى بلدته في الصعيد، مستلقيًا تحت فروع الأشجار، مراقبًا الصقر المحلق في السماء، قبل أن تصل المدينة إليه لتطبق عليه الخناق مرة أخرى.
الولع بناس المدينة في أعمال بشارة
المخرج الثالث، من مخرجي «الواقعية الجديدة» في الثمانينيات، الذي اهتم بالمكان والمدينة كشخصية رئيسية في أعماله هو خيري بشارة.
ومثل خان والطيب بدأ بشارة مسيرته السينمائية بصنع قصيدة في وصف القاهرة تتمثل في فيلمه «العوامة 70»، 1982، الذي تتجسد فيه بعض من ملامح «الواقعية الجديدة» مثل البطل المقهور والتصوير في الأماكن الطبيعية للأحداث والاهتمام بوضع الشخصيات داخل الحيز المكاني الذي يعبر عنها داخل المدينة، سواء كانت أماكن فقيرة قبيحة أو فاخرة جميلة. ولكن «واقعية» خان تتمثل في عنصر آخر لم يهتم به أقرانه، وهو الرصد الوثائقي للشوارع والمواطنين العاديين، في ولع ملحوظ يبدو أنه استقاه من عمله بمجال السينما الوثائقية لسنوات طويلة قبل أن ينتقل إلى الأفلام الروائية.
ولا يكاد يخلو فيلم من أفلام بشارة من بعض هذه اللقطات الوثائقية التي تتداخل مع السرد الروائي، دون حتى أن يكون لها وظيفة درامية مباشرة. وليس من الغريب في أعمال خيري بشارة أن تنتقل الكاميرا فجأة من ملاحقة الشخصيات الرئيسية في الشارع لتلتقط مجموعة من الصبية فوق عربة يجرها حمار، أو لنسوة عجائز يبعن الخضراوات، أو لمجموعة من الفتيات يختلن مرحا أمام مدرستهن. وهذه اللقطات التي قد تبدو مقحمة إنما تعبر عن روح الدراما وتكملها، مثلما تفعل الموسيقى التصويرية على شريط الصوت. وعلى عكس محمد خان الذي يهتم بمعمار المدينة يبدو خيري لا مباليا بالمعمار ولكن مهتم برصد سكان المدينة أنفسهم في حركتهم اليومية داخل الشوارع.
يمكن ملاحظة هذا التوظيف البارع للقطات الوثائقية في أعمال مثل «يوم مر يوم حلو»، 1988، (الذي تخرج فيه امرأة الشاشة «فاتن حمامة» إلى شوارع وأسواق شبرا المزدحمة وسط الناس العاديين ربما للمرة الأولى والأخيرة في حياتها)، ثم في «كابوريا» و«آيس كريم في جليم»، «أمريكا شيكا بيكا»، «قشر البندق» و«إشارة مرور»، التي قدمها خلال النصف الأول من التسعينات، وبدا فيها متمردًا حتى على مفهوم «الواقعية الجديدة» نفسه، حيث راح يمزج بين الفانتازيا والوثائقية بلعب ما بعد حداثي مميز.
يستمتع خيري بشارة بتصوير الأماكن الثرية الأنيقة في القاهرة مثلما يستمتع بتصوير أزقتها المتربة البائسة، ويبدو عاشقًا متيمًا بالمدينة في الحالتين. وفي المرة الوحيدة التي خرج فيها إلى الريف الجنوبي ليجسد رواية يحي الطاهر عبد الله في «الطوق والأسورة» لا يبدو رومانسيًا تجاه الريف كما فعل محمد خان، ولا مستريحا ومسترخيا كما فعل عاطف الطيب، ولكنه يبدو مختنقًا محاصرًا بتقاليد الريف وبؤسه الشديدين وراغبًا في تحطيمه والعودة إلى حرية ورفاهة المدينة.
عصام زكريا صحفي وناقد سينمائي من مصر
في المقال التالي نختبر هذه المقولة ومفهوم المكان والمدينة في أعمال ثلاثة من مخرجي «الواقعية الجديدة» وهم محمد خان وعاطف الطيب وخيري بشارة.
السينما ابنة المدينة
هي وليد الحداثة والمدنية، شقيقة الكهرباء والقطار والسيارة والهاتف وقاعات الترفيه والشوارع المنسقة والجسور الخراسانية والمباني السكنية متعددة الطوابق والسكان.
والمدينة هي موضوع السينما الرئيس والمفضل. قد تكون مظاهر الحياة اليومية، وقد تكون مدينة خيالية مستقبلية. قد تكون نشأة المدينة، كما في نوع أفلام «الويسترن»، أو فساد وانحلال المدينة، كما في نوع أفلام «الفيلم نوار» البوليسية.
حتى في فن «الكوميكس» لا يمكن تخيل أبطالها الخارقين دون مدنهم ذات الطبيعة الخاصة: «متروبوليس» سوبرمان النهارية، و«جوثام» باتمان الليلية مثلا.
مهما كان الفيلم «خياليا»، يظل فضاء المدينة التي تدور فيها الأحداث هي شاغله الرئيس، ومهما كان الفيلم «واقعيا» تظل المدينة هي صورة خيالية في أذهان صناع الفيلم، تختلف عن الواقع بدرجة أو أخرى.
تنشغل الدراسات السينمائية الحديثة بصور المدينة في السينما لأسباب عدة، قد يكون منها الطابع التوثيقي الكامن في أي فيلم أو صورة يلتقطان الواقع، خاصة إذا كان الفيلم مصور بالفعل في شوارع المدينة ومعالمها ومبانيها. ولكن الغرض الغالب في هذه الدراسات هو معرفة تصور صناع العمل بشكل خاص، والمجتمع الذي صدر فيه العمل بشكل عام، عن المدينة خلال زمن صنع الفيلم وصدوره للعرض. المدينة، في الأول والآخر، ليست سوى صورة ذهنية عنها، تتحدد وفقًا لموقف الرائي منها، وظروفه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية داخل هذه المدينة.
كانت مدينة القاهرة ولم تزل هي الموقع الأساسي الذي تدور فيه معظم أفلام السينما المصرية، ليس فقط لأنها العاصمة والمدينة ذات العدد الأكبر من السكان، ولكن أيضًا لمركزيتها الشديدة سياسيًا واقتصاديًا وثقافيا، حتى أن المصريين خارج القاهرة يطلقون عليها اسم «مصر»، كأنها هي الدولة وهم خارجها.
مع ذلك، ومقارنة بعدد الأفلام التي تدور في القاهرة، والذي يصل لبضعة آلاف، فإن شوارع ومعالم ومباني القاهرة لم تظهر في هذه الأفلام بدرجة تتناسب مع وجودها الدرامي؛ نظرًا لإن معظم الأفلام كانت تصور داخل الاستديوهات والشقق أو القصور المغلقة، ويعود ذلك غالبًا لأسباب تقنية منها صعوبة التصوير الخارجي خاصة في الأماكن العامة، والضجيج والزحام اللذان تتسم بهما المدينة، وأحيانا لأسباب رقابية أو أمنية. وفي معظم الأوقات كان صناع الأفلام يعتمدون على بعض اللقطات العامة العابرة لتصوير بعض اللقطات في الشارع لإعطاء الشعور بالمكان والواقع.
شهدت الثمانينيات أكبر انقلاب في علاقة السينما المصرية بالمدينة على يد جيل جديد من المخرجين أطلق على أعمالهم «الواقعية الجديدة»، وهو مصطلح أطلق في نهاية الأربعينيات على جيل من صناع الأفلام الإيطاليين الذين خرجوا بكاميراتهم إلى شوارع المدن التي هدمتها الحرب العالمية الثانية. ومثل «الواقعية الجديدة الإيطالية» كان أبرز ما في موجة الواقعية الجديدة في مصر هو شجاعة صناعها في الخروج إلى الشوارع وسط الناس لتصوير أبطالهم داخل الأماكن العامة التي يعرفها ويعيش فيها المشاهد، وكان من أبرز هؤلاء محمد خان وعاطف الطيب وخيري بشارة، بجانب أعمال متناثرة لآخرين، وكان لهذا الخروج إلى قلب المدينة أثر بالغ في تغيير مصير وشكل السينما المصرية حتى الآن.
ولكن على عكس ما توحي به عبارة «خرج ولم يعد» الافتتاحية، يصعب أن نتعامل مع المكان في السينما، مهما بلغت درجة واقعيته، باعتباره «واقعًا»، فهو مثل أي عنصر فني آخر يمثل هذا الواقع وفقا لرؤية صانع، أو صناع العمل، وبالتالي يمكن أن نلاحظ أن أعمال هؤلاء المخرجين ترسم صورًا مختلفة للقاهرة، وإن كانت تكمل بعضها بعضا بشكل ما، كما أن صورتهم عن المدينة تختلف بالتأكيد عن صورتها في عيون أجيال أسبق أو أحدث من السينمائيين.
ضربة البداية
كانت البداية مع محمد خان وفيلم «ضربة شمس» (1980) الذي افتتح موجة «الواقعية الجديدة» وعقد الثمانينات، وهو العمل الأول لمخرجه العائد من إنجلترا بعد رحلة دراسة وتثقيف طويلة فكر فيها أن يهاجر ولكنه عاد مدفوعا بارتباطه الشديد بذكرياته القاهرية، وبعد عدة مشاريع لم تتم تحمس النجم نور الشريف للعب بطولة وإنتاج «ضربة شمس» (المقتبس بتصرف من فيلم «تكبير الصورة» لأنطونيوني، أحد أعلام موجة «الواقعية الجديدة» في إيطاليا).
من اللقطة الأولى، التي تتبدى فيها معالم قاهرة الثمانينات بعدسة المصور الفوتوغرافي شمس (نور الشريف) غير واضحة المعالم، تدور أغلب مشاهد «ضربة شمس» في شوارع القاهرة، ويستطيع خان مع مدير التصوير سعيد الشيمي، أن يطوع تضاريسها، سواء كانت جسرًا للسيارات أو المشاة، أو مترو، أو تلافيف شوارع وسط البلد، ليصنع صورة حية وغير مسبوقة للقاهرة.
يواصل محمد خان في أفلامه التالية، خاصة «موعد على العشاء»، «طائر على الطريق»، «الحريف»، «عودة مواطن»، «أحلام هند وكاميليا»، «سوبرماركت»، «يوم حار جدا»، «فارس المدينة»، «كليفتي»، «بنات وسط البلد»، «في شقة مصر الجديدة» و«فتاة المصنع»، مشروعه الفني الكبير في رصد معالم القاهرة وتحولاتها المدهشة منذ بداية الثمانينات وحتى منتصف العقد الثاني من القرن العشرين، مثلما لم يفعل أي مخرج آخر في تاريخ السينما المصرية.
المدينة في أعمال محمد خان ليست مجرد خلفية للأحداث أو تحديد للمكان والزمان الذي تعيش فيه الشخصيات، ولكنها من الأهمية بحيث يمكن تصور أنها البطل الفعلي للقصة، كما يصعب تصور أن تدور القصة في مكان آخر، وكاميرا محمد خان تهتم برصد ملامح المكان وتحولاته ككائن حي، ويمكن ملاحظة ذلك بوضوح في الأعمال سابقة الذكر. لا يمكن تخيل «الحريف» مثلا دون الساحات الشعبية ولا لقطات عادل إمام خارج حصار المباني القديمة وسطح المبنى المطل على ميدان التحرير الذي يسكنه والجسور التي تعلوه كأنما هي مسوخ عملاقة تحيط به. كذلك يصعب أن نتخيل «أحلام هند وكاميليا» دون هذه البيوت الشعبية والمناطق ووسائل المواصلات المزدحمة التي يعيشون فيها. ويذكر مدير التصوير سعيد شيمي في مناسبات وكتب عدة حكايات عن التصوير في هذه الأماكن وكيف كان يصر محمد خان عليها رغم أي معوقات.
ويروي شيمي أن خان كان يحرص قبل تصوير كل فيلم من أفلامه على النزول للشارع لمعايشة الدراما والحالة التي يعبر عنها في الفيلم. ومن الأمثلة على ذلك حين أخرج فيلم «الحريف» عام 1983، صوره في حي بولاق أبو العلا، ليجسد عن قرب وواقعية مشاهد حياة سكان الحي وحياتهم اليومية.
ويروي محمد خان في كتابه «مخرج على الطريق» عن إصراره على تصوير مشهد كامل ومعقد في مطعم قريب من سينما مترو خلال تصوير فيلم «ضربة شمس»، بالرغم من إبداء منتج الفيلم (نور الشريف) عن استعداده لبناء نفس المقهى في الأستوديو: «قلت لا. سأصور هناك، حيث كنت أذهب وأتناول العشاء مع والدي ونذهب إلى السينما، لقد عنى ذلك شيئا مهم بالنسبة لي (...) أنا أحب المدينة، لقد ولدت ونشأت في وسط المدينة، وأحب أن أصور في الأماكن التي أتذكرها، أو التي كنت قد زرتها!»
غضب الطيب
في العام التالي لظهور فيلم «ضربة شمس» قام عاطف الطيب بصنع فيلمه الأول «سواق الأتوبيس»، مستعينا بمدير التصوير سعيد شيمي عن سيناريو لبشير الديك ومحمد خان، وإذا كان «ضربة شمس» قد دشن معالجة جيل مخرجي الثمانينيات المختلفة للمدينة باعتبارها شريكا وبطلا للعمل، وليس زائدة تجميلية أو إخبارية، فإن «سواق الأتوبيس» دشن الارتباط بين الخروج للشارع والتصوير في الأماكن الطبيعية للأحداث وبين المعالجة «الواقعية» للدراما. وأبرز معالم هذه «الواقعية» تتمثل في حكي قصصا بسيطة تخلو من الميلودراما والمبالغات العاطفية، عن «أبطال» ليسوا أبطالًا من خارقي القوة المنتصرين دومًا، بل أقرب للمواطنين العاديين، المهزومين والمهمشين.
يبدأ ضربة شمس ببطله على ظهر دراجة بخارية تخترق شوارع القاهرة، ويرصد رحلة ليلية يخوض فيها البطل صراعات شرسة ضد مجرمين محترفين في فيلم ينتمي لنوع «الأكشن». أما «سواق الأتوبيس» فيبدأ ببطله (نور الشريف أيضا) سائقًا لأتوبيس مواصلات عامة نهارًا، وسائقًا لتاكس خاص ليلًا، يقضي نهاراته ولياليه المملة خائضا وسط زحام المدينة ومشاكل مواطنيها الكادحين المحبطين. ويربط الفيلم بين مشكلة بطله حسن الذي تطالبه أسرته عقب موت والده صاحب ورشة الميكانيكا أن يبيع الورشة، وبين مشاكل ملايين المصريين الذين يعانون من وطأة الانفتاح الاقتصادي وارتفاع الأسعار وصعود طبقة التجار والعائدين من الخليج، وبيع البلد «سياسيا» للرأسمالية الأمريكية.
ويروي سعيد شيمي كيف أصر الطيب على التصوير في حي بولاق الدكرور، مقتنعًا بأن ذلك سيجعل الممثلين أكثر إحساسًا بالمكان وصدقًا في التعبير. وهو ما تكرر في أفلام لاحقة تدور بعض مشاهدها في قلب وقاع القاهرة.
بعد محمد خان، لا يوجد مخرج مصري شغف بتصوير شوارع القاهرة مثل عاطف الطيب، ومن أبرز أفلامه التي تمثل فيها معالم القاهرة دورًا أساسيًا «التخشيبة»، «ملف في الآداب»، «الحب فوق هضبة الهرم»، «ليلة ساخنة»، ويمكن ملاحظة بعض أوجه الشبه في أفلامهما مثل إصرارهما على التصوير في الأماكن الشعبية ومثل استخدام بطل يعمل سائقًا على الطريق، ولكن يمكن أيضًا ملاحظة فارق كبير بين القاهرة كما يراها خان والقاهرة كما يراها عاطف الطيب.
خان ابن المدينة، تسري في دمه، ويعشقها. حتى عندما حاول أن يخرج من أسرها في فيلم «خرج ولم يعد» (1984) الذي يدور حول رجل (يحيى الفخراني) يسافر إلى الريف لبيع قطعة أرض ورثها فيقع في حب الريف ويقرر البقاء فيه، إلا أن الفيلم رغم جماله، يحمل قدرًا من الرومانسية لا تتفق مع الواقعية الخشنة التي تتسم بها أعمال مخرجي «الواقعية الجديدة» عادة، ويبدو بين أعمال خان كما لو كان محطة استراحة وهروب مؤقت من أسر المدينة.
أبطال خان قاهريون، أولاد بلد، يعافرون مع المدينة ويعرفون، غالبًا، كيف يتحايلون عليها وسرقة سعادتهم.
في أعمال عاطف الطيب، النازح من الصعيد، يمكن ملاحظة الشعور بالقلق وعدم الراحة تجاه القاهرة، ونوعا من الموقف القيمي الأخلاقي الذي يتخذه القادمون من الريف غالبًا تجاه المدينة المتحررة، القاسية إنسانيا. وأبطال عاطف الطيب يبدون محاصرين داخل المدينة ومحكوم عليهم بالسقوط، كما لو كانوا يعيشون في إحدى مدن كافكا.
في «سواق الأتوبيس» تبوء كل محاولات حسن لمواجهة المدينة الخانقة بالفشل، فينقلب في المشهد الأخير إلى العنف مفرغا كل إحباطه وغضبه ضد «نشال» أتوبيسات صغير.
يدور كل من «التخشيبة» و«ملف في الآداب» حول نساء يتهمن زورا في شرفهن ويجدن أنفسهن محاصرات بذنب لم يرتكبنه بمحض صدفة عمياء.
في «الحب فوق هضبة الهرم»، 1986، المقتبس عن رواية نجيب محفوظ، لا يستطيع شابان متحابان متزوجان حديثا أن يختليا خلوة شرعية داخل مدينة مكتظة بالملايين يبدو أنها لم يعد يشغلها سوى ملاحقة وعقاب الشابين على ذنب لم يرتكباه.
في «الهروب»، 1991، يتجلى موقف عاطف الطيب من ثنائية المدينة/ الريف، فبطله منتصر (أحمد زكي) الشاب القادم من الريف، يتعرض، مثل بطل «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ، لسلسلة من الخيانات والمؤامرات تؤدي به إلى السجن وفقدان زوجته، ورغم كل براعته إلا أنه يبدو مثل فأر محاصر داخل مصيدة. حتى عندما يهرب يحدث ذلك تحت عين الشرطة التي ترغب في صناعة حدث يهتم به الناس للتشويش على أحداث سياسية. ولا يشعر منتصر بالحرية أو الدعة والراحة إلا عندما يعود إلى بلدته في الصعيد، مستلقيًا تحت فروع الأشجار، مراقبًا الصقر المحلق في السماء، قبل أن تصل المدينة إليه لتطبق عليه الخناق مرة أخرى.
الولع بناس المدينة في أعمال بشارة
المخرج الثالث، من مخرجي «الواقعية الجديدة» في الثمانينيات، الذي اهتم بالمكان والمدينة كشخصية رئيسية في أعماله هو خيري بشارة.
ومثل خان والطيب بدأ بشارة مسيرته السينمائية بصنع قصيدة في وصف القاهرة تتمثل في فيلمه «العوامة 70»، 1982، الذي تتجسد فيه بعض من ملامح «الواقعية الجديدة» مثل البطل المقهور والتصوير في الأماكن الطبيعية للأحداث والاهتمام بوضع الشخصيات داخل الحيز المكاني الذي يعبر عنها داخل المدينة، سواء كانت أماكن فقيرة قبيحة أو فاخرة جميلة. ولكن «واقعية» خان تتمثل في عنصر آخر لم يهتم به أقرانه، وهو الرصد الوثائقي للشوارع والمواطنين العاديين، في ولع ملحوظ يبدو أنه استقاه من عمله بمجال السينما الوثائقية لسنوات طويلة قبل أن ينتقل إلى الأفلام الروائية.
ولا يكاد يخلو فيلم من أفلام بشارة من بعض هذه اللقطات الوثائقية التي تتداخل مع السرد الروائي، دون حتى أن يكون لها وظيفة درامية مباشرة. وليس من الغريب في أعمال خيري بشارة أن تنتقل الكاميرا فجأة من ملاحقة الشخصيات الرئيسية في الشارع لتلتقط مجموعة من الصبية فوق عربة يجرها حمار، أو لنسوة عجائز يبعن الخضراوات، أو لمجموعة من الفتيات يختلن مرحا أمام مدرستهن. وهذه اللقطات التي قد تبدو مقحمة إنما تعبر عن روح الدراما وتكملها، مثلما تفعل الموسيقى التصويرية على شريط الصوت. وعلى عكس محمد خان الذي يهتم بمعمار المدينة يبدو خيري لا مباليا بالمعمار ولكن مهتم برصد سكان المدينة أنفسهم في حركتهم اليومية داخل الشوارع.
يمكن ملاحظة هذا التوظيف البارع للقطات الوثائقية في أعمال مثل «يوم مر يوم حلو»، 1988، (الذي تخرج فيه امرأة الشاشة «فاتن حمامة» إلى شوارع وأسواق شبرا المزدحمة وسط الناس العاديين ربما للمرة الأولى والأخيرة في حياتها)، ثم في «كابوريا» و«آيس كريم في جليم»، «أمريكا شيكا بيكا»، «قشر البندق» و«إشارة مرور»، التي قدمها خلال النصف الأول من التسعينات، وبدا فيها متمردًا حتى على مفهوم «الواقعية الجديدة» نفسه، حيث راح يمزج بين الفانتازيا والوثائقية بلعب ما بعد حداثي مميز.
يستمتع خيري بشارة بتصوير الأماكن الثرية الأنيقة في القاهرة مثلما يستمتع بتصوير أزقتها المتربة البائسة، ويبدو عاشقًا متيمًا بالمدينة في الحالتين. وفي المرة الوحيدة التي خرج فيها إلى الريف الجنوبي ليجسد رواية يحي الطاهر عبد الله في «الطوق والأسورة» لا يبدو رومانسيًا تجاه الريف كما فعل محمد خان، ولا مستريحا ومسترخيا كما فعل عاطف الطيب، ولكنه يبدو مختنقًا محاصرًا بتقاليد الريف وبؤسه الشديدين وراغبًا في تحطيمه والعودة إلى حرية ورفاهة المدينة.
عصام زكريا صحفي وناقد سينمائي من مصر