شارع 99
الخميس / 28 / ذو الحجة / 1443 هـ - 00:15 - الخميس 28 يوليو 2022 00:15
يربكني السؤال عمّا يمكن أن تعنيه المدينة وعمّا يجعلها مدينة تحوّلت عن حالة سابقة أدنى منها وما إذا كانت القرية هي تلك الحالة السابقة أو الصورة الجنينية للمدينة على الأقل؟ ومن ثم فأيُّ مناطقنا الجغرافية - التي نتنقّل فيما بينها - يصح وصفها بالمدينة، وأيُّها غير ذلك إذا كانت المدينة أو «التمدن ليس سمة حضرية، بل صفة حضارية» - كما يقول عزيز لزرق في كتابه «العولمة ونفي المدينة» – وأن المدينة ليست «ذلك المكان الجغرافي ذا المواصفات في العيش والمعمار»؟ بل هي - إذا تجاوزنا المظاهر الخارجية لمفهوم المدينة المتمثلة في العمران ومظاهر الحداثة المادية، وصولا إلى الجوهر الذي يمكن أن يسم الصحراء بالمدينة متى ما تحققت فيها شروط التمدن – هي «طريقة التفكير ونمط العقلية السائدة ومختلف الإبداعات النظرية والعملية، أي تخص نظام المعرفة والثقافة عموما. كما تمس طبيعة المؤسسات القائمة ونظم القوانين». فإذا كان الأمر كذلك فهل نملك أن نحدد تحديدا قاطعا المدينة من سواها؟ فنقول هذه مدينة وتلك ليست مدينة أو مدينة أدنى أو لا مدينة حتى؟ يبدو أن المدينة في جوهرها ليست كيانا ناجزا، وإنما هي مشروع قيد الإنجاز، ولا وجود لها بالمعنى الكامل إلا في التصور الذهني المحض، في مدينة أفلاطون الفاضلة، التي ينبغي أن تبقى في منزلة الحلم، ويتعين السير إليه دون أن يغيب عن الأنظار، لأن المدينة في الواقع – كما يقول لزرق - ما هي إلا تلك «المسافة الفاصلة بين الواقع والحلم، والحفاظ على ضرورة المسافة يعني الحفاظ على ضرورة الحلم» الذي متى ما غاب عن الأنظار فقدنا بوصلتنا وارتددنا إلى الوراء، إلى الحالة النقيضة للتمدن، وهي حالة التوحش متمثلا في أبسط تجلياته: الجهل والصراع.
قد لا تكون الفقرة أعلاه مدخلا مثاليا للحديث عن شارع 99 في المعبيلة الجنوبية، ولكن ألا يرتبط هذا الرقم نفسه بفكرة الحلم والسعي إلى الاكتمال؟ أليس في الرقم الناقص إغراء بالوصول؟ لطالما كان الوصول مقترنا بالرقم مائة في تحقيق العلامة الكاملة. في بلوغ المعرفة العليا بالاسم الخفي من أسماء الله الحسنى. في النسبة المئوية الكاملة في الشهادة الدراسية. بل تصبح الخطوة المغرية نحو الـ100 بمثابة الطريق نحو حلم الكمال، الذي قد يبدو قصيرا ولكنه صعب غالبا إن لم يكن مستحيلا.
تمنحنا نسبية المدينة ذريعة للحديث عن مدننا باطمئنان، فهي مشاريع مدن قيد الإنجاز، مدن بدرجة ما، مدن تفصلها مسافة حلم عن الاكتمال، فلا بأس - والأمر كذلك - أن أتحدث عن المعبيلة، أو مدينة المعبيلة تجاوزا – أو كما يسميها ساكنوها تندّرا: «المعبيلة سيتي» أو «مقاطعة المعبيلة» أو «إقليم المعبيلة» - للدلالة على تمددها المستمر وتحولاتها الكثيرة وهي في سيرها لتحقيق حلم المدينة، إذا ما تمسكنا بالتفاؤل الحسن وتجاوزنا قشرة المفهوم العمراني إلى جوهر المفهوم الثقافي المدني.
يصح وصف المعبيلة بجغرافيا التنوع السكاني، ففيها مزيج من سكان عُمان قاطبة ممن تركوا ولاياتهم وقراهم البعيدة ليقطنوا في تخوم العاصمة وأطرافها، تشبه في ذلك «العامرات» ومناطق أخرى في مسقط قبل أن تتحول إلى مناطق للقادرين على شروطها المادية، فمعظم سكان المعبيلة من الطبقة المتوسطة غالبا، وهذه علامة أخرى تميز المعبيلة التي يسكن معظم سكانها في بيوت من نظام «توين فيلا»، يتقاسمون الأرض الواحدة لبناء بيتين أو شراء فلقة واحدة مما كان يفترض أن يكون بيتا واحدا، ولكن ليس للمرء في المدينة إلا نصف المساحة قياسا إلى قدرة جيبه، مع أن المبلغ نفسه الذي يشتري أو يبتني به فلقة البيت يكفيه لبناء أو شراء بيت بضعف الحجم والمساحة في قريته البعيدة. وإذا أردت أن تختصر المعبيلة في جملة صغيرة، فهي المنطقة التي تجمع عمان كلها، ويسكن أهلها في بيوت معظمها بنظام «توين فيلا»، وتتشابه هذه حد التناسخ في شوارعها الكثيرة والمتشابكة.
يقال إن مكانا تحرص على ألا تسكن فيه ستقودك الأقدار إلى أن تكون من سكانه، وشخصا لا تحبه ستضعك الأقدار نفسها في طريقه أو العكس. وبالنسبة لي بدا أن الأولى صحيحة وإن عن طريق المصادفة. ففي مطلع العقد الثاني من الألفية الجديدة آليت على نفسي ألاّ أدخل المعبيلة لا مضطرة ولا مختارة بعدما تهت في شوارعها الداخلية المتشابكة التي تشبه متاهة السيد تاكيشي في برنامج المسابقات الشهير «الحصن»، فلا الشوارع تتبع معالم واضحة، ولا اللافتات ترشد إلى شيء.
قبل عام 2018 لم يكن لشارع 99 اسم، بل ما كان لشيء في المعبيلة الجنوبية غالبا اسم دال، حتى الجسور الثلاثة المؤدية إلى المعبيلة من الطريق السريع، تتفق لافتاتها على كلمة واحدة «المعبيلة» دون أن تكلف البلدية نفسها عناء التفريق بين معبيلة وأخرى، فكلها تؤدي بك إلى المتاهة. أليست المتاهة إحدى علامات المدن أيضا؟ في 22 يوليو من عام 2017، وقبل أن تنتصب لافتة تُسمّي شارع 99، كتبتُ في الفيسبوك التالي: «في ظني أن المعبيلة منطقة ظلمها اسمها. وظَلَمها أكثر نظام الترقيم في تسمية أحيائها. ستة أشهر منذ سكنتُ المعبيلة وأنا عاجزة عن فهم من أين تبدأ المعبيلة الأولى وأين تنتهي المعبيلة التاسعة. علما أن كل الجسور والدوارات لا تزيد عن كلمة واحدة: «المعبيلة». لعل الحي الوحيد الذي نجا من هذا التيه هو «حي النور»!
ولستُ وحدي من اعتقد مندفعا أن اسم المعبيلة يستحق التغيير، ولكن الذين سبقونا إلى المعبيلة في زمن قديم وعاشوا فيها أجيالا، يرون في الاسم ذاكرة وتاريخا. فهل من الإنصاف أن يقترح «المتمعبلون» الجدد اسما غير الاسم الذي عرفه أهلها الأولون؟ أيحق لنا نحن الوافدين إليها أن نغيّر ذاكرتها؟ بيد أن عبدالله حبيب يقترح حلا وسطا عندما سمّاها «أم عُبيلة»، وقد بدا أنه اسمها في زمن سابق، قبل أن يجري تحريفه إلى «المعبيلة». ولكن من يملك الحقيقة التاريخية لهذا الاسم الذي صار اختزالا لأكثر وجوه المعبيلة براغماتية: «المعبيلة الصناعية»! يقصدها القاصي والداني، ويكاد الكثيرون منهم لا يعرفون من المعبيلة إلا صناعيتها، ولكن أليست المناطق الصناعية علامة أخرى من علامات المدن؟
غير أن للمدن وجوها أخرى أكثر طراوة وإنسانية، وأُشفق على أولئك الذين يعرفون «صناعية المعبيلة»، ولا يعرفون مقهى الكاتب حمود الشكيلي في المعبيلة الثامنة، مقهى «homeland» الذي تحوّل مع الوقت إلى وجه المعبيلة الثقافي بجلساته وأماسيه، فتتحلق وجوه الثقافة في فعالياتٍ وندواتٍ ونقاشاتٍ تُطَرّي ليالي المعبيلة، غير بعيد عن صناعيتها الصاخبة.
تجتمع في المعبيلة المتناقضات وتتجاور، وإذا كان لهذه المتناقضات من كاشف، فذلك هو شارع 99 الموازي لشارع السلام من جهة الطريق السريع، ويربط بين خمسة دوارات، كل دوار منها يؤدي مخرجه الأول إلى عالم مختلف يلتقي في نهايته بشارع السلام: أما الدوار الأول فهو دوار «النزهة»، ويسميه ساكنة المعبيلة «شارع نستو»، رغما عن أنف اللافتة التي تقول بوضوح: هذا «شارع النزهة»، وعلى الرغم كذلك من «مسقط مول» الذي قام في وقت لاحق مواجها لـ «نستو» ومتحديا له في دلالة واضحة على أن المنطقة مقبلة على تنافس تجاري محموم - إذا ما أضفنا إليهما مجمع «العريمي بوليفارد» غير بعيد عن الاثنين في مواجهتهما الوجودية - ولكن في مثل هذه الأمور يفوز الأسبق دائما وإن تفوّق الأحدث في الحجم والكفاءة. يسمّونه شارع النزهة، ولكن السائر فيه لا يتنزه من فرط الزحام، وفي مواسم التسوق والأعياد يتوقف الشارع تماما، فلا نزهة ولا هم يتنزهون.
الدوار الثاني دوار شارع «النور»، الموصل في نهايته عند شارع السلام إلى «بيت الملاحظ»، مَعلَم آخر يعرفه سكان المعبيلة ولا يخطئونه، إلى الحد الذي لا يعرف معه المرء أيحسد «الملاحظ» صاحب البيت أم يشفق عليه. وحتى الدوار المحاذي للبيت صار اسمه «دوار الملاحظ» في تجاهل واضح لمعالم أخرى بارزة جديرة بالتسمية كمستشفى «ستار كير» مثلا الواقع على الزاوية الأخرى من الدوار نفسه.
أما الدوار الثالث فهو دوار «الخير» المؤدي إلى «جامع السلطان تيمور بن فيصل» على اليسار قبل إشارات المعبيلة، معلم ثالث تبدأ منه معظم عمليات الوصف في اتجاهات المعبيلة ودروبها، يبدأ الواصف بعبارة تشبه سرد الحكايات: «تعرف هين إشارات المعبيلة؟» فإذا أجاب السالك بالإيجاب يبدأ العارف بالمكان في رسم الإحداثيات التي كثيرا ما يتوه المرء بعدها، قبل أن يتدخل جوجل ماب ويحل المشكلة إلا قليلا.
وإذا ما واصل المرء سيره مستقيما في شارع الخير بعد تجاوز الإشارات، فسيصل به الطريق إلى «سوق الحرامية»، مَعلم آخر لم يجد من يحسن إليه بتغيير اسمه إلى اسم آخر يحفظ له ما بقي من هيبته. أتكون محاولة البحث عن اسم بديل شروعا هو الآخر في تغيير ذاكرة المكان؟ على كل حال لا توجد لافتة تسمي السوق بـ «سوق الحرامية» ولله الحمد، ولكن ثبت أن ما تواضع الناس على تسميته أرسخ من أعتى اللافتات، فلن تغيّر لوحة صغيرة مفترضة اسم السوق إلى اسم آخر، فلنتجاوز الأمر إلى الدوار الرابع، وهو دوار «شارع 89»، شارع صغير لا تعرف لماذا سمي 89، ولا أين ذهبت باقي الأرقام، وقلّما يحظى باهتمامِ واصف، فهو لا يؤدي إلى معلم بارز لولا التقاؤه مع شارع الخير عند «الكلية الوطنية لتقنية السيارات» التي تقع مواجهةً للطريق السريع في الجانب الآخر، ولكنه شارع يقيم فيه عدد من مثقفي عمان. وأخيرا تقاطع دوار «الإعمار» المؤدي يمينا إلى «سوق المواشي» سابقا قبل أن يتحول إلى سوق هائلة للسيارات المستعملة، تعقبه «المعبيلة الصناعية». ويؤدي يسارا إلى مسلخ بلدية مسقط على الضفة الأخرى من الطريق السريع مرورا فوق جسر المعبيلة الثاني.
في المعبيلة تتجاور البيوت حد الالتصاق، ويصبح سماعك للأحاديث في فناء بيت الجيران أمرا معتادا، فتعرف سبب صراخ الأم على أطفالها في كل مرة، وتعرف في أية ساعة يجتمعون على السفرة. في إحدى مباريات كأس الخليج جرى تبادل للصيحات بين بيوت الجيران. كانت مباراة بين المنتخب العماني والمنتخب العراقي، يصرخ جيراننا العراقيون لهجمة عراقية على المرمى العماني، ونرد بالمثل لهجمة على المرمى العراقي. في نهاية المباراة احتفلنا جميعا بصرخة واحدة ابتهاجا بفوز المنتخب العماني.
في المعبيلة يتحرك الجميع متخففا من ثقل الحياة الاجتماعية وإكراهاتها التي تركوها في القرى لحين إجازة نهاية أسبوع أو إجازة عيد، وينصهر المزيج المتنوع في الممشى والشوارع الداخلية التي تقل فيها حركة السيارات إلى أدنى مستوياتها، وتنشط فيها حركة الأقدام لاسيما في ليالي رمضان.
في المعبيلة لا تستبعد أن تطرق باب بيت عن طريق الخطأ فيخرج لك محمود الرحبي مرحبا أو مازن حبيب أو حمود الشكيلي أو إبراهيم السالمي أو عوض اللويهي أو مبارك الجابري أو صالح زعل أو إبراهيم اليحمدي. تكتشف في المعبيلة أنك جار لعبدالله حبيب وعلي بن مسعود المعشني، وأن أمتارا يسيرة تبعدك عن بيت إسحاق الخنجري أو جابر الرواحي أو يونس علي سالم. في إحدى محاولات حصر أسماء الذين نعرفهم من ساكنة المعبيلة اقترحنا حمود الشكيلي وأنا أن نؤسس صالونا أو أسرة أدبية تجمع أدباء المعبيلة ومثقفيها، ويكون مقرها في مقهى هوملاند. ولكن فكرة كهذه لا تحتاج إلى سعي وإجراءات، لأنها متجسدة بعفوية بين حين وآخر كلما أعلن حمود الشكيلي عن فعالية يقيمها في مقهاه، فيحضرها المعبيلاويون الجدد منهم والقدامى، وغيرهم ممن عرفوا المعبيلة بمقهى هوملاند وفعالياته الثقافية كما عرفوها بصناعيتها، فيقطعون المسافات من الباطنة والداخلية لحضور هذا الحدث الثقافي أو ذاك في المعبيلة التي تدين للشكيلي بوجهها الثقافي الواعد، فوحدها الثقافة تهب مشاريع المدن وجهها الإنساني، وتعكس مرآتها المعرفية.
في المعبيلة تمضي الحياة بوتيرة أسرع، والتحوّل فيها يحدث بلمح البصر، هكذا حدثتني جارة لنا كانت من أوائل من سكنوا في حي التضامن حيث نقطن. قالت لي وقد سكنّا إلى جوارها للتو: قبل ست سنوات لم يكن في الحي غير بيتي وبيت آخر، ثم بغمضة عين أصبحت البيوت تحاذي بعضها المناكب بالمناكب، وكأنها تستعد لتأدية صلاة. لاحظت بدوري الامتلاء السريع لفراغات الأراضي البيضاء، ونبتت البيوت فيها دون ري، تقوم البيوت الجديدة حولي «توين توين» إلا فيما ندر. ما أكثر الطلب على السكن هنا ما يدفع المستثمر لاستغلال الأرض من 600 متر لتكون أرضين وبيتين وربما ثلاثة. يتنازل الناس هنا عن الحوش الواسع، في سبيل إيجاد البيت المناسب لمقاس المحفظة أو القرض السكني، ويتخلون طائعين عن أحلام كثيرة من أجل استقرار يضمن لأطفالهم مستقبلا.
أعبر يوميا في شارع 99، وأتأمل ما يزيد فيه وما ينقص. في الثلاثين من يونيو الماضي ( (2022مر عام كامل على افتتاح فرع مستشفى «بدر السماء» الواقع على دوار الصفاء في شارع الخير. أتابع ما يَجِد في مشروع بناء هذا البيت أو الأدوار التي أضيفت إلى جسد تلك البناية، واكتشفت أن متعتي بالتجول في شوارع المعبيلة ومراقبة حركتها وسكونها انتقلت إلى أمي، فصارت كلما جاءت إلى المعبيلة تسألني أن نخرج بالسيارة في شوارع المعبيلة حتى ينتهي بنا المشوار إلى الرصيف البحري في «السيب»، ثم نقفل عائدين لنشتري في طريقنا من الباعة المتجولين بعض الخضراوات والفواكه والرطب.
أتساءل دائما عن الشوارع التي لا يزيد اتساعها مع الزيادة المضطردة في أعداد السكان والمساكن والمراكز التجارية. أتساءل عن مستقبل زحام لا يطاق في مدينة آخذة في التشكّل. وأحسب أن المعبيلة ستختنق يوما ما إذا لم تُفتح شرايينها فورا وتُوسّع، وستختنق إذا بقيت مساحاتها الخضراء في حدودها الدنيا، لأن موجة غبار واحدة قبل عام ونصف حوّلتها إلى كثيب رملي يخبرنا أن الحجر وحده لا يكفي لحياة الإنسان.
منى بنت حبراس السليمية كاتبة وباحثة عمانية
قد لا تكون الفقرة أعلاه مدخلا مثاليا للحديث عن شارع 99 في المعبيلة الجنوبية، ولكن ألا يرتبط هذا الرقم نفسه بفكرة الحلم والسعي إلى الاكتمال؟ أليس في الرقم الناقص إغراء بالوصول؟ لطالما كان الوصول مقترنا بالرقم مائة في تحقيق العلامة الكاملة. في بلوغ المعرفة العليا بالاسم الخفي من أسماء الله الحسنى. في النسبة المئوية الكاملة في الشهادة الدراسية. بل تصبح الخطوة المغرية نحو الـ100 بمثابة الطريق نحو حلم الكمال، الذي قد يبدو قصيرا ولكنه صعب غالبا إن لم يكن مستحيلا.
تمنحنا نسبية المدينة ذريعة للحديث عن مدننا باطمئنان، فهي مشاريع مدن قيد الإنجاز، مدن بدرجة ما، مدن تفصلها مسافة حلم عن الاكتمال، فلا بأس - والأمر كذلك - أن أتحدث عن المعبيلة، أو مدينة المعبيلة تجاوزا – أو كما يسميها ساكنوها تندّرا: «المعبيلة سيتي» أو «مقاطعة المعبيلة» أو «إقليم المعبيلة» - للدلالة على تمددها المستمر وتحولاتها الكثيرة وهي في سيرها لتحقيق حلم المدينة، إذا ما تمسكنا بالتفاؤل الحسن وتجاوزنا قشرة المفهوم العمراني إلى جوهر المفهوم الثقافي المدني.
يصح وصف المعبيلة بجغرافيا التنوع السكاني، ففيها مزيج من سكان عُمان قاطبة ممن تركوا ولاياتهم وقراهم البعيدة ليقطنوا في تخوم العاصمة وأطرافها، تشبه في ذلك «العامرات» ومناطق أخرى في مسقط قبل أن تتحول إلى مناطق للقادرين على شروطها المادية، فمعظم سكان المعبيلة من الطبقة المتوسطة غالبا، وهذه علامة أخرى تميز المعبيلة التي يسكن معظم سكانها في بيوت من نظام «توين فيلا»، يتقاسمون الأرض الواحدة لبناء بيتين أو شراء فلقة واحدة مما كان يفترض أن يكون بيتا واحدا، ولكن ليس للمرء في المدينة إلا نصف المساحة قياسا إلى قدرة جيبه، مع أن المبلغ نفسه الذي يشتري أو يبتني به فلقة البيت يكفيه لبناء أو شراء بيت بضعف الحجم والمساحة في قريته البعيدة. وإذا أردت أن تختصر المعبيلة في جملة صغيرة، فهي المنطقة التي تجمع عمان كلها، ويسكن أهلها في بيوت معظمها بنظام «توين فيلا»، وتتشابه هذه حد التناسخ في شوارعها الكثيرة والمتشابكة.
يقال إن مكانا تحرص على ألا تسكن فيه ستقودك الأقدار إلى أن تكون من سكانه، وشخصا لا تحبه ستضعك الأقدار نفسها في طريقه أو العكس. وبالنسبة لي بدا أن الأولى صحيحة وإن عن طريق المصادفة. ففي مطلع العقد الثاني من الألفية الجديدة آليت على نفسي ألاّ أدخل المعبيلة لا مضطرة ولا مختارة بعدما تهت في شوارعها الداخلية المتشابكة التي تشبه متاهة السيد تاكيشي في برنامج المسابقات الشهير «الحصن»، فلا الشوارع تتبع معالم واضحة، ولا اللافتات ترشد إلى شيء.
قبل عام 2018 لم يكن لشارع 99 اسم، بل ما كان لشيء في المعبيلة الجنوبية غالبا اسم دال، حتى الجسور الثلاثة المؤدية إلى المعبيلة من الطريق السريع، تتفق لافتاتها على كلمة واحدة «المعبيلة» دون أن تكلف البلدية نفسها عناء التفريق بين معبيلة وأخرى، فكلها تؤدي بك إلى المتاهة. أليست المتاهة إحدى علامات المدن أيضا؟ في 22 يوليو من عام 2017، وقبل أن تنتصب لافتة تُسمّي شارع 99، كتبتُ في الفيسبوك التالي: «في ظني أن المعبيلة منطقة ظلمها اسمها. وظَلَمها أكثر نظام الترقيم في تسمية أحيائها. ستة أشهر منذ سكنتُ المعبيلة وأنا عاجزة عن فهم من أين تبدأ المعبيلة الأولى وأين تنتهي المعبيلة التاسعة. علما أن كل الجسور والدوارات لا تزيد عن كلمة واحدة: «المعبيلة». لعل الحي الوحيد الذي نجا من هذا التيه هو «حي النور»!
ولستُ وحدي من اعتقد مندفعا أن اسم المعبيلة يستحق التغيير، ولكن الذين سبقونا إلى المعبيلة في زمن قديم وعاشوا فيها أجيالا، يرون في الاسم ذاكرة وتاريخا. فهل من الإنصاف أن يقترح «المتمعبلون» الجدد اسما غير الاسم الذي عرفه أهلها الأولون؟ أيحق لنا نحن الوافدين إليها أن نغيّر ذاكرتها؟ بيد أن عبدالله حبيب يقترح حلا وسطا عندما سمّاها «أم عُبيلة»، وقد بدا أنه اسمها في زمن سابق، قبل أن يجري تحريفه إلى «المعبيلة». ولكن من يملك الحقيقة التاريخية لهذا الاسم الذي صار اختزالا لأكثر وجوه المعبيلة براغماتية: «المعبيلة الصناعية»! يقصدها القاصي والداني، ويكاد الكثيرون منهم لا يعرفون من المعبيلة إلا صناعيتها، ولكن أليست المناطق الصناعية علامة أخرى من علامات المدن؟
غير أن للمدن وجوها أخرى أكثر طراوة وإنسانية، وأُشفق على أولئك الذين يعرفون «صناعية المعبيلة»، ولا يعرفون مقهى الكاتب حمود الشكيلي في المعبيلة الثامنة، مقهى «homeland» الذي تحوّل مع الوقت إلى وجه المعبيلة الثقافي بجلساته وأماسيه، فتتحلق وجوه الثقافة في فعالياتٍ وندواتٍ ونقاشاتٍ تُطَرّي ليالي المعبيلة، غير بعيد عن صناعيتها الصاخبة.
تجتمع في المعبيلة المتناقضات وتتجاور، وإذا كان لهذه المتناقضات من كاشف، فذلك هو شارع 99 الموازي لشارع السلام من جهة الطريق السريع، ويربط بين خمسة دوارات، كل دوار منها يؤدي مخرجه الأول إلى عالم مختلف يلتقي في نهايته بشارع السلام: أما الدوار الأول فهو دوار «النزهة»، ويسميه ساكنة المعبيلة «شارع نستو»، رغما عن أنف اللافتة التي تقول بوضوح: هذا «شارع النزهة»، وعلى الرغم كذلك من «مسقط مول» الذي قام في وقت لاحق مواجها لـ «نستو» ومتحديا له في دلالة واضحة على أن المنطقة مقبلة على تنافس تجاري محموم - إذا ما أضفنا إليهما مجمع «العريمي بوليفارد» غير بعيد عن الاثنين في مواجهتهما الوجودية - ولكن في مثل هذه الأمور يفوز الأسبق دائما وإن تفوّق الأحدث في الحجم والكفاءة. يسمّونه شارع النزهة، ولكن السائر فيه لا يتنزه من فرط الزحام، وفي مواسم التسوق والأعياد يتوقف الشارع تماما، فلا نزهة ولا هم يتنزهون.
الدوار الثاني دوار شارع «النور»، الموصل في نهايته عند شارع السلام إلى «بيت الملاحظ»، مَعلَم آخر يعرفه سكان المعبيلة ولا يخطئونه، إلى الحد الذي لا يعرف معه المرء أيحسد «الملاحظ» صاحب البيت أم يشفق عليه. وحتى الدوار المحاذي للبيت صار اسمه «دوار الملاحظ» في تجاهل واضح لمعالم أخرى بارزة جديرة بالتسمية كمستشفى «ستار كير» مثلا الواقع على الزاوية الأخرى من الدوار نفسه.
أما الدوار الثالث فهو دوار «الخير» المؤدي إلى «جامع السلطان تيمور بن فيصل» على اليسار قبل إشارات المعبيلة، معلم ثالث تبدأ منه معظم عمليات الوصف في اتجاهات المعبيلة ودروبها، يبدأ الواصف بعبارة تشبه سرد الحكايات: «تعرف هين إشارات المعبيلة؟» فإذا أجاب السالك بالإيجاب يبدأ العارف بالمكان في رسم الإحداثيات التي كثيرا ما يتوه المرء بعدها، قبل أن يتدخل جوجل ماب ويحل المشكلة إلا قليلا.
وإذا ما واصل المرء سيره مستقيما في شارع الخير بعد تجاوز الإشارات، فسيصل به الطريق إلى «سوق الحرامية»، مَعلم آخر لم يجد من يحسن إليه بتغيير اسمه إلى اسم آخر يحفظ له ما بقي من هيبته. أتكون محاولة البحث عن اسم بديل شروعا هو الآخر في تغيير ذاكرة المكان؟ على كل حال لا توجد لافتة تسمي السوق بـ «سوق الحرامية» ولله الحمد، ولكن ثبت أن ما تواضع الناس على تسميته أرسخ من أعتى اللافتات، فلن تغيّر لوحة صغيرة مفترضة اسم السوق إلى اسم آخر، فلنتجاوز الأمر إلى الدوار الرابع، وهو دوار «شارع 89»، شارع صغير لا تعرف لماذا سمي 89، ولا أين ذهبت باقي الأرقام، وقلّما يحظى باهتمامِ واصف، فهو لا يؤدي إلى معلم بارز لولا التقاؤه مع شارع الخير عند «الكلية الوطنية لتقنية السيارات» التي تقع مواجهةً للطريق السريع في الجانب الآخر، ولكنه شارع يقيم فيه عدد من مثقفي عمان. وأخيرا تقاطع دوار «الإعمار» المؤدي يمينا إلى «سوق المواشي» سابقا قبل أن يتحول إلى سوق هائلة للسيارات المستعملة، تعقبه «المعبيلة الصناعية». ويؤدي يسارا إلى مسلخ بلدية مسقط على الضفة الأخرى من الطريق السريع مرورا فوق جسر المعبيلة الثاني.
في المعبيلة تتجاور البيوت حد الالتصاق، ويصبح سماعك للأحاديث في فناء بيت الجيران أمرا معتادا، فتعرف سبب صراخ الأم على أطفالها في كل مرة، وتعرف في أية ساعة يجتمعون على السفرة. في إحدى مباريات كأس الخليج جرى تبادل للصيحات بين بيوت الجيران. كانت مباراة بين المنتخب العماني والمنتخب العراقي، يصرخ جيراننا العراقيون لهجمة عراقية على المرمى العماني، ونرد بالمثل لهجمة على المرمى العراقي. في نهاية المباراة احتفلنا جميعا بصرخة واحدة ابتهاجا بفوز المنتخب العماني.
في المعبيلة يتحرك الجميع متخففا من ثقل الحياة الاجتماعية وإكراهاتها التي تركوها في القرى لحين إجازة نهاية أسبوع أو إجازة عيد، وينصهر المزيج المتنوع في الممشى والشوارع الداخلية التي تقل فيها حركة السيارات إلى أدنى مستوياتها، وتنشط فيها حركة الأقدام لاسيما في ليالي رمضان.
في المعبيلة لا تستبعد أن تطرق باب بيت عن طريق الخطأ فيخرج لك محمود الرحبي مرحبا أو مازن حبيب أو حمود الشكيلي أو إبراهيم السالمي أو عوض اللويهي أو مبارك الجابري أو صالح زعل أو إبراهيم اليحمدي. تكتشف في المعبيلة أنك جار لعبدالله حبيب وعلي بن مسعود المعشني، وأن أمتارا يسيرة تبعدك عن بيت إسحاق الخنجري أو جابر الرواحي أو يونس علي سالم. في إحدى محاولات حصر أسماء الذين نعرفهم من ساكنة المعبيلة اقترحنا حمود الشكيلي وأنا أن نؤسس صالونا أو أسرة أدبية تجمع أدباء المعبيلة ومثقفيها، ويكون مقرها في مقهى هوملاند. ولكن فكرة كهذه لا تحتاج إلى سعي وإجراءات، لأنها متجسدة بعفوية بين حين وآخر كلما أعلن حمود الشكيلي عن فعالية يقيمها في مقهاه، فيحضرها المعبيلاويون الجدد منهم والقدامى، وغيرهم ممن عرفوا المعبيلة بمقهى هوملاند وفعالياته الثقافية كما عرفوها بصناعيتها، فيقطعون المسافات من الباطنة والداخلية لحضور هذا الحدث الثقافي أو ذاك في المعبيلة التي تدين للشكيلي بوجهها الثقافي الواعد، فوحدها الثقافة تهب مشاريع المدن وجهها الإنساني، وتعكس مرآتها المعرفية.
في المعبيلة تمضي الحياة بوتيرة أسرع، والتحوّل فيها يحدث بلمح البصر، هكذا حدثتني جارة لنا كانت من أوائل من سكنوا في حي التضامن حيث نقطن. قالت لي وقد سكنّا إلى جوارها للتو: قبل ست سنوات لم يكن في الحي غير بيتي وبيت آخر، ثم بغمضة عين أصبحت البيوت تحاذي بعضها المناكب بالمناكب، وكأنها تستعد لتأدية صلاة. لاحظت بدوري الامتلاء السريع لفراغات الأراضي البيضاء، ونبتت البيوت فيها دون ري، تقوم البيوت الجديدة حولي «توين توين» إلا فيما ندر. ما أكثر الطلب على السكن هنا ما يدفع المستثمر لاستغلال الأرض من 600 متر لتكون أرضين وبيتين وربما ثلاثة. يتنازل الناس هنا عن الحوش الواسع، في سبيل إيجاد البيت المناسب لمقاس المحفظة أو القرض السكني، ويتخلون طائعين عن أحلام كثيرة من أجل استقرار يضمن لأطفالهم مستقبلا.
أعبر يوميا في شارع 99، وأتأمل ما يزيد فيه وما ينقص. في الثلاثين من يونيو الماضي ( (2022مر عام كامل على افتتاح فرع مستشفى «بدر السماء» الواقع على دوار الصفاء في شارع الخير. أتابع ما يَجِد في مشروع بناء هذا البيت أو الأدوار التي أضيفت إلى جسد تلك البناية، واكتشفت أن متعتي بالتجول في شوارع المعبيلة ومراقبة حركتها وسكونها انتقلت إلى أمي، فصارت كلما جاءت إلى المعبيلة تسألني أن نخرج بالسيارة في شوارع المعبيلة حتى ينتهي بنا المشوار إلى الرصيف البحري في «السيب»، ثم نقفل عائدين لنشتري في طريقنا من الباعة المتجولين بعض الخضراوات والفواكه والرطب.
أتساءل دائما عن الشوارع التي لا يزيد اتساعها مع الزيادة المضطردة في أعداد السكان والمساكن والمراكز التجارية. أتساءل عن مستقبل زحام لا يطاق في مدينة آخذة في التشكّل. وأحسب أن المعبيلة ستختنق يوما ما إذا لم تُفتح شرايينها فورا وتُوسّع، وستختنق إذا بقيت مساحاتها الخضراء في حدودها الدنيا، لأن موجة غبار واحدة قبل عام ونصف حوّلتها إلى كثيب رملي يخبرنا أن الحجر وحده لا يكفي لحياة الإنسان.
منى بنت حبراس السليمية كاتبة وباحثة عمانية