أفكار وآراء

قمة جدة.. تنضج الصلح مع إيران

ينبغي أن يكون الصلح بين دول الخليج العربية وجارتهم إيران من أولى الأولويات الآن، وكل المعطيات تنضجه، وتحتمه لصالح كلا الطرفين، ومن لا يزال فكره غارقا في الاعتماد على الحماية الأجنبية سواء كانت أمريكية أو صهيونية أو غيرها، فإن رسائل النضوج لم تصله، وكذلك لم يستقبل رسائل الحرب الروسية على أوكرانيا، وكيف وجدت أوروبا، وبالذات ألمانيا قدراتها العسكرية ضعيفة، واقتصادياتها هشة بسبب اعتمادها على واشنطن، فهل يراد أن يتكرر هذا المشهد في الخليج مجددا؟ وكل من يستشرف الآفاق العالمية المقبلة سيخرج بنتيجة واحدة، وهي أن منظومة الحلفاء العالمية في طريقها لإعادة التشكل بصورة راديكالية، تظهر بكين على وجه الخصوص هي الرابحة.

وهنا ينبغي أن تتغير عقلية الاعتماد على الأجنبي من منظورين، هما: الاعتماد على الذات الفردية والجماعية الخليجية، والاستفادة من الدرس الأوروبي، وذلك في خط مواز لتحقيق الصلح مع طهران، وتفتح قمة جدة وردة الفعل الإيرانية عليها، أبواب الصلح التاريخي بين الجانبين، وينبغي أن تستغل عاجلا، وأمامنا الآن الحوار السعودي الإيراني، وقد جاءت قمة جدة لتضيف عليه قوة دفع سياسية إقليمية وأمريكية، وهذا ما نجده واضحا في ترحيب الرئيس بايدن بمبادرة مصطفى الكاظمي رئيس الوزراء العراقي لعقد مباحثات بين الرياض وطهران، وتجديد يد الرياض الممدودة لطهران، وفي المقابل بادرت طهران بعيد القمة إلى الدعوة بحوار إقليمي موسع يضم القوى الإقليمية المؤثرة، كالسعودية ومصر وتركيا.

ولا يمكن تفسير تراجع بايدن عن مواقفه تجاه الرياض، والدخول معها في شراكة استراتيجية تعتد بالمصالح السعودية الاستراتيجية -كما سأوضحها لاحقا- وكذلك موقفه المشجع للحوار السعودي الإيراني، سوى أن إدارته تجد نفسها في مفصل تاريخي، عليها أن تنحني لمستقبل مصالحها في المنطقة، وهذا شأن الأمريكان دائما مع الدول والجماعات وحتى الأفراد، ودون ذلك، نجدها تفرض إملاءاتها وأجندتها بصورة أحادية، لذلك كانت في السابق دائما المنتصرة، ويبدو أن الرياض بفكرها الحديث، قد استوعبت هذه السياسة تحت ضغوطات إعادة بنائها لكي تواكب السباق التكنولوجي والثورة الصناعية الرابعة الذي تبدو فيه طهران، مستفردة فيه إقليميا حتى الآن.

لذلك، كانت الرياض على استعداد للذهاب في تعاونها مع بكين وموسكو حتى إلى كسر الاحتكار الجيوستراتيجي الأمريكي بعد الفراغ الأمني الأمريكي في المنطقة الذي يعد من بين كبرى الأخطاء الاستراتيجية الأمريكية التاريخية، ولولا تراجع إدارة بايدن عن هذا الخطأ في الوقت المناسب، لكانت قد تغيرت الخارطة الجيوستراتيجية الأمريكية في المنطقة لصالح بكين وموسكو، ولم يكن الانحناء الأمريكي خاليا من الأثمان، وإنما مدفوع الثمن من الوزن الثقيل، وهو تلبية الطموحات السعودية المستقبلية غير الاعتيادية، ويمكننا أن نحصر أبرزها في النقاط التالية:

- التكامل بين واشنطن والرياض في التعاون في مجال الطائرات بدون طيار، والذكاء الاصطناعي.

- التوقيع على إطار عمل ثنائي جديد للشراكة بشأن الجيل الخامس / السادس.

- التوقيع على إطار جديد للتعاون في مجال الطاقة النظيفة.

- التعاون في مجال الأمن السيبراني.

- التعاون الدفاعي الجوي المتكامل.

- التعاون في استكشاف الفضاء.

وهنا نجد أن إدارة بايدن قد انفتحت بإيجابية واسعة على ما كانت تسعى إليه الرياض لتجديد قوتها الإقليمية، وتطلعاتها العالمية وفق رؤيتها 2030، في وقت كانت تراهن على ربطها بطريق الحرير الصيني من أجل تحقيق أجندتها الاستراتيجية، وتجلى ذلك من خلال زيارتي ولي العهد السعودي لبكين، والرئيس الصيني للرياض، وما نجم عنها من توقيع اتفاقيات ذات طابع الشراكات الاستراتيجية النوعية والكمية، وبدا لنا المشهد أن القيادة السعودية تدير مصالحها الوطنية الآن بواقعية، وقوة قيادتها السياسية.

لذلك، فهي الآن في موقع قيادة إحداث تغيير تاريخي في العلاقات الخليجية الإيرانية بالتعاون مع مسقط التي لها علاقات تاريخية عميقة مع طهران، والتحدي الأكبر لمسقط والرياض الآن يدور حول كيفية إحباط المحاولات الأمريكية لدمج الكيان الصهيوني في المنطقة، وهذا كان واضحا في كلمة الرئيس بايدن في جدة، عندما قال إن الشراكة الأمريكية الخليجية العربية الجديدة ستضم دولا أخرى قريبا، في إشارة واضحة للكيان الصهيوني.

لذلك، ينبغي الإسراع في تحقيق الصلح التاريخي مع طهران قبل أن يتشكل النظام العالمي الجديد، ففيه، ستكون العداوات بين الدول المتجاورة من أشد وأخطر النتائج المؤثرة، فكيف بالحالة الاستثنائية بين الخليج وإيران، عندها لن يحتاج للجيوش، ولا الطائرات المسيرة.. ففي دواخلها أدوات كفيلة بتحقيق غاياتها، لذلك فتجديد الرياض اليد الممدودة لطهران، ومقابلة هذه الأخيرة بيد مماثلة، وأكثر طموحا، تنم عن وعي الأطراف بدور الجغرافيا وتأثيراتها على الدول المتجاورة في أوقات السلم والعداوات والحرب في حقبة ما بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، ونتوقع أن يكون له انعكاسات إيجابية على الوساطة العراقية بين الرياض وطهران.

ويمكن أن يشكل الحوار السعودي الإيراني مقدمة للصلح الجماعي في الخليج، إذ إن الغاية هنا، حوار خليجي جماعي وليس أحاديا، لكن يمكن تطويعه كونه بين كبرى دولتين إقليميتين في الخليج العربي، ويقودان خلافات أيديولوجية واستراتيجية، وكونه حوارا قائما الآن، فعندما تتفق الرياض وطهران فيه على مبادئ حسن الجوار والتعايش الجيوستراتيجي، فإن هذا سيكون مشروعا للصلح الجماعي في الخليج، مع التأكيد على حتمية بناء قوة عسكرية موحدة لدول مجلس التعاون الخليجي ذات طابع مؤسسي وتسليحي، لأن الصلح يحتاج لقوة تحصنه مهما كانت النوايا حسنة.

وهذا لا يغني عن الحوار الإقليمي -كما تقترحه طهران- بضم دول إقليمية مركزية كتركيا ومصر، بهدف وضع تصور لنظام أمني إقليمي جديد الذي ينبغي أن يكون خاليا من هواجس من يسيطر على الخليج العربي، عربه أم فرسه؟ فالمفهوم قد أصبح الآن متغيرا، لم يعد يرتبط بأمن الطاقة، ولا بأمن الممرات الاستراتيجية المرتبطة بمضيق هرمز فقط، وإنما بأمن الدول المطلة على كل هذه الممرات العالمية، ومصالح الدول المختلفة، لذلك لابد من إشراك أطراف دولية كالولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وروسيا والصين لضمانة حرية الملاحة الدولية.

وهذه الشراكة الإقليمية والعالمية هي قراءة استشرافية لنتائج مرحلة ما بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، وقد تكون بعض هذه الرؤى مطروحة، لكن البعد الدولي الأخير يعد إضافة موضوعية يأخذ بعين الاعتبار الحرب كمستجد جديد له استحقاقاته الإقليمية، وبنظرة فاحصة حول محاولات دمج الكيان الصهيوني في نظام أمني وعسكري خليجي ضد إيران، فإنه يظهر لنا، أن هذا الفكر يغرد خارج طبيعة المرحلة الإقليمية الجديدة، وكذلك الدولية المقبلة، وهنا نتساءل: أي نوع من المخاطر سيشكله دمج الكيان الصهيوني في تكتل أمني وعسكري مع الدول الخليجية المجاورة لطهران، وضدها؟ من المؤكد أنه سيفشل أي صلح خليجي إيراني، وفي مهده، كما أنه ليس هناك من مصلحة له سوى أنه يخدم الكيان الصهيوني، وهو الذي يقف وراءه بقوة، لكي يرسخ بين الدول الخليجية وجارتهم إيران عداوة وجودية مستدامة، ولكي يقفا في خندق واحد ضد طهران، ويضمن الاستفراد بالخليج لتحقيق أجندته في الخليج العربي، ولن يتعب كثيرا في تحقيقها، لأن المنطقة الخليجية منشغلة بتحولات داخلية، تصنعها السياسة المالية، وتثير استياءات اجتماعية عامة، وتصنع الظروف المواتية للاختراقات الأجنبية، وكل جماعة تملك المال.

من مصلحة كل الأطراف في الخليج، أن يبقوا في حالة وئام وانسجام حتى لا يكونوا جزءا من أدوات الصراع بين المعسكرين النيوليبيرالي الجديد، والاشتراكي القديم/الجديد، وسيكون صراعا غير مسبوق، نسخة للعنف الذي تؤسسه الحرب على أوكرانيا، ويتداخل فيها لاعبون دوليون كالأوربيين، ونخص هنا لندن التي توجه لها تهديدات من روسيا بتفكيك وحدتها، والمؤشرات التي رصدناها تشير إلى أن خريطة الحلفاء الدوليين ستتغير، بسبب تأثير الدول الأوروبية كألمانيا خصوصا التي تعاني من ظروف اقتصادية صعبة ومعقدة جدا، قد تحول بوصلتها نحو منظمة شنجهاي، خاصة إذا ما تفجرت أزمات بعد الأزمة الأوكرانية، أو طال أمد هذه الأزمة -وفق مرئيات خبراء مستقلين- ومن مصلحتهم في الوقت نفسه عدم الجنوح نحو أي من المعسكرين ضد الآخر، بحيث تظل المنطقة نقطة التقاء لكل المصالح الدولية والإقليمية، لا ساحة تصفية حساباتهم القديمة / الجديدة.

عبدالله باحجاج كاتب عماني مهتم بالشأن الخليجي والتغيرات الاجتماعية والسياسية التي تطرأ عليه