أعمدة

الربوة الخضراء.. المجلات الثقافية حديثٌ متجدد

 
لم أعرف أحدا من المثقفين الكبار، إلا وقد كانت له مجلة يواظب على قراءتها في صباه.

التقيت في حياتي كثيرا من المثقفين في شتى صنوف المعرفة، وحين تأخذنا الأحاديث إلى مواطن الدهشة الأولى، الاكتشاف الأول والبدايات الثقافية المبكرة؛ كانوا يتفقون في قراءتهم للمجلات الأدبية والثقافية البارزة في عصرهم. وبينما اندرست كثير من تلك المجلات لأسباب معقولة، وأسباب أخرى غير منطقية ألبتة؛ ظلت مجلات أخرى تصارع الانحسار المعرفي أمام المد المادي للحياة المعاصرة. وبين الأمس واليوم حبل لم ينقطع، فنجد مجلة العربي الكويتية التي تأسست عام 1958م حاضرة بقوة حتى يومنا، وهو ما يبهج القلب ويبعث الأمل في كون المجلات مقروءة لا تندثر.

وأنا أطالع بعض الأعداد القديمة المتفرقة من المجلة من عام 1963م فما بعده، استقرأت هموم المثقفين في تلك الحقبة، ومدى تأثير صدمة احتلال الأراضي الفلسطينية على العرب بشكل عام، ومثقفيهم بشكل خاص.

كما أن المرء وعبر قراءته لأعداد متتالية من فترة بعينها لمجلة كمجلة العربي مثلا، والتي في جوهرها مجلة للحياة لا للأدب فحسب، يلاحظ أن بإمكانه أن يكوّن صورة عن المشهد الثقافي والاجتماعي والأدبي في تلك الفترة. كما أن المطالع لتلك الأعداد، يجد أقلاما كانت تتحسس طريق الكتابة الأولى في سِنيِّها المبكرة، والتي أضحت اليوم أقلاما بارزة لها وزنها في الثقافة والأدب.

ومما شدني في الأعداد القديمة من هذه المجلة، الباب الذي خُصِّصَ للتعريف بالأرض العربية من مشارقها إلى مغاربها، والذي حمل عنوان 'اعرف وطنك أيها العربي' وكأن الأمة العربية متوجسة من فقدان أراضٍ أخرى تلحق الفقد الأكبر، فلسطين.

وفي كل عدد من تلكم الأعداد التي ضمت هذا الباب، كان هنالك تعريف بالأرض والثقافة المجتمعية للمنطقة التي تقرر الحديث عنها.

ظلت المجلات الثقافية تتنافس في تقديم الجديد المثري، وهو ما أسهم في خروج أغلب موادها في ثوبٍ قشيبٍ حسنٍ، بعيدٍ عن الترهل الثقافي والاجترار الممل. وإن كان لنا كعمانيين أن نفخر بإنجاز ثقافي متجدد، فلا أجدر من كون مجلة نزوى الثقافية التي صدر عددها الأول في نوفمبر من عام 1994م / جمادى الآخرة 1415 هـ حاضرة مستمرة في العطاء حتى اللحظة. وكما هو الحال في مجلة العربي الكويتية؛ فإننا نقرأ في الأعداد المبكرة من مجلة نزوى لأناس رحلوا وظلت كلماتهم شاهدة على منطق جميل، وفكر مضيء، وقلم سيّال. ففي العدد الأول - على سبيل المثال - نجد قصيدة 'الأوقات' لسيد البيد، الشاعر السعودي المجيد محمد الثبيتي، الذي غيبته الأقدار عنا قبل أحد عشرة سنة. وفي الصفحة العاشرة بعد المائة نقرأ قصة 'نيقوسيا' للأديب العراقي سعدي يوسف، والذي كانت ذكرى وفاته الأولى قبل شهر من الآن. كما أن هذا العدد كذلك، ضم دراسة عنونها الشاعر والمترجم الأديب المصري الراحل إدوارد الخراط ب'نجيب محفوظ: القدرية كموقف من الكون' ص52.

من قطر، وعاصمتها الدوحة؛ نقرأ مجلة لها وزنها الثقافي كذلك، وهي مجلة الدوحة. والتي مثلت لي في مراحل مبكرة من وعيي الثقافي، كنزا واظبت على مطالعته برفقة مجلة دبي الثقافية واللتان ترفقان أعدادهما بكتاب مجاني لا يقل أهمية عن المجلة.

تنظر فئة من الناس إلى المجلة باعتبارها ترفا فكريا أدبيا لم يعد له أهمية، بينما يجد آخرون -وأنا منهم- أن أهمية المجلات لا تنحصر في مادتها الأدبية/الفكرية/الفلسفية أو لنقل المعرفية بشكل عام ؛ إنما هي تأريخ لحقبة نستقرأ منها الحال الثقافي والاجتماعي للعرب بشكل عام، وللقُطر الذي تصدر المجلة منه بشكل خاص. كما أن كثيرا من المدارس المعرفية إنْ في الأدب، أو في الفلسفة والفكر، إنما نشأت من هذا الحراك الثقافي المتمثل في الصحف والمجلات التي يشترك فيها ثُلة من المثقفين الذين لهم رؤى مشتركة. وكم جاد علينا الزمان بوجود مدرستين متناقضتين في الشكل متفقتين في المضمون، فتجدد مدرسةً القديم، وتتمرد أخرى عليه، ذلك التمرد الإيجابي الذي يطرح الشكل ويبني ويجدد في المضمون؛ كمجلة 'شعر' التي كان لها الأثر البالغ في تحديث الشعر العربي وتحريره من القافية والوزن والتفعيلة حتى، ليخرج لنا نوع أدبي جديد يتمثل في 'قصيدة النثر' وهو ما أسهم بدوره في تحديث الشعر المقفّى وإعادة اكتشافه في ثوب من الحداثة الشعرية مع الاحتفاظ بشكله العتيق.

أرى أن مجلة كمجلة نزوى الطلائعية، يمكن لها أن تخصص بابا وليكن 'الربوة الخضراء' - مثلا - ويخصص هذا الباب لطلبة الجامعات والكليات ممن لهم عناية بالأدب والترجمة. أما عن التسمية، فلا أتخيل الأديب وهو يلقي نصه، إلا وهو على ربوة تشرئب أعناق الناس إليه حين يتناثر الدر من فِيه، والاخضرار كناية عن الربيع والشباب لا يمكن أن يكون إلا أخضر نضرا.

والشيء الآخر، أتمنى أن نجد في الركن المخصص لمجلة نزوى وجريدة عمان في معرض الكتاب؛ الكتب التي صدرت مع المجلة قديمها وحديثها، خصوصا إن علمنا أن كثيرا من تلك الكتب لم تنشر إلا مرفقة بالمجلة فحسب، ولا سبيل إلى اقتنائها إلا لمن سبق له اقتناء المجلة عند صدورها.