أفكار وآراء

الإسلام وأخلاقيات الطب «2»

رأينا في الآونة الأخيرة الجدل الدائر حول قضية الإجهاض في الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن أصدرت المحكمة العليا قرارًا بمنع الحق في الإجهاض الذي سبق أن أقرته من قبل.

ويرجع الجدل هنا إلى أن فئة واسعة من الأمريكيين تؤمن بتحريم الإجهاض على أسس دينية، حتى إن كان الحمل نتاجًا للاغتصاب أو زنا المحارم؛ ولهذا فإن قضية الإجهاض أصبحت مسألة مهمة في حسابات الانتخابات الرئاسية الأمريكية! ومع أن الحالة الأمريكية تظل حالة خاصة؛ فإن البُعد الديني -والأخلاقي عمومًا- يظل حاضرًا عند النظر إلى هذه القضية في كل مكان؛ ولهذا سوف نتناول في هذه العجالة مسألة الإجهاض من المنظور الأخلاقي عمومًا، مع تطبيق ذلك على المنظور الأخلاقي الإسلامي.

ومن المهم منذ البداية أن نحدد المعنى المقصود بالإجهاض هنا، وهو الإنهاء الإرادي المتعمد للحمل intentional abortion، وليس الإجهاض الذي يحدث وفقًا لعوامل طبيعية spontaneous abortion or miscarriage أو الإجهاض الذي يحدث وفقًا للولادة القسرية أو لعملية الوأد infanticide. وهناك أبعاد نفسية وأخلاقية واجتماعية مقترنة بهذا الإجهاض المتعمد: فهناك حالات شعور بالذنب والخطيئة لدى من اخترن الإجهاض، وهناك شريحة اجتماعية ضخمة مناهضة للإجهاض، وهناك في مقابل ذلك حركة مضادة ترى في الإجهاض تعبيرًا عن حق المرأة في اختيار معيارها الأخلاقي وطريقة استعمال جسدها.

المشكلة الأخلاقية للإجهاض يمكن صياغتها في الحجة الآتية:

1- الجنين موجود بشري حي.

2- من الخطأ قتل الموجودات البشرية الحية.

3- لذا من الخطأ قتل الجنين.

ولا شك في أن هذه الحجة تبدو قوية، ويمكن القول إن المنظور الإسلامي للمشكلة -كما سنرى- يتوافق مع منطق هذه الحجة نفسها التي يساندها العلم والدين والقانون والحس المشترك: فالعلم يدعم المقدمة الأولى؛ لأنه يقول لنا إن كلا من الجنين الإمبريوني embryo والفيتوسي fetus هما كائن حي، وحتى البويضة والحيوان المنوي اللذين يشكلان الزيجوت zygote هما أيضا كائن حي، يشهد بذلك الحمض النووي فيه. والمقدمة الثانية أيضا قوية ومدعومة بالدين والقانون والحس المشترك: فمن الخطأ وغير الأخلاقي قتل أي كائن حي إلا في حالات استثنائية: كالدفاع عن النفس على سبيل المثال. ومع ذلك، فإن هذه الحجة تواجه اعتراضًا قويًّا مفاده أن مفهوم «الموجود البشري» ليس مستخدمًا بمعنى واحد في المقدمتين: فهو في المقدمة الأولى مستخدم بمعنى «لا يكون قادرًا على أن يعمل بطريقة بيولوجية» able to function biologically؛ بينما هو في المقدمة الثانية مستخدم بمعنى «الشخص» الذي يكون له اعتباره الأخلاقي والقانوني: فالقتل هنا يحرّمه القانون والأخلاق (وقد أدّى هذا إلى وجود جدل عنيف حول مفهوم الشخص). وعلى هذا، فإننا لو أخذنا بالمعنى الأول لمفهوم الكائن الحي سنجد أنه ينطبق على كل خلية بشرية، وسيترتب على هذا القول بأنه من الخطأ قتل أي كيانات تعمل بطريقة بيولوجية! وأنه من غير الأخلاقي قتل أي خلية بشرية!!

ينبغي إذن إعادة صياغة المشكلة من خلال طرح التساؤلات التالية:

هل الإجهاض مساو للقتل؟

متى يكون الجنين موجودًا حيًّا؟

ما حق الجنين؟ ومَن الذي يحمي هذا الحق؟

هل لكلا الأبوين الحقوق نفسها فيما يتعلق بحياة الجنين؟

ما حق الأم هنا؟ وماذا لو تعارض حقها في الحياة وحريتها وموقفها النفسي مع حق الجنين في الحياة؟

ما التصرف إزاء الحمل الذي يكون نتاجا لواقعة اغتصاب؟

رغم وجاهة وأهمية التساؤلات السابقة، إلا أن السؤال الأساسي الذي ينبغي البدء به هو: متى يكون الجنين كائنا حيا، ليس بمعنى الكيان الذي يؤدي وظيفة بيولوجية، وإنما بمعنى الموجود البشري الحي (وبمنأى عن الجدل الدائر حول مفهوم الشخص)؟ هنا يبدأ الموقف أو الحل الإسلامي للمشكلة، ومفاده:

يحرّم الإسلام الإجهاض، وقد أجمع الفقهاء على تحريمه بعد الشهر الرابع من بدء الحمل؛ لأنهم يعتبرون وفقا للحديث الشريف أن الروح عندئذ توهب للجنين، وهذا يوافق من الناحية العلمية بدء الحركة. ولكن هل يكفي هذا الموقف لحل المشكلة والإجابة عن سائر التساؤلات المتضمنة فيها؟

الموقف الديني الإسلامي هنا يقدِّم لنا رؤية أخلاقية نلتزم بها كونها أمرًا إلهيًّا. هذا الموقف يصلح فقط كنقطة انطلاق لا بد من دعمها وتطويرها بتقديم الحجج والمبررات العقلية الآتية:

• من حق الأم أن تختار ما يحدث ببدنها، ولكن ليس على حساب حق الجنين الذي أصبح روحًا أو تشكَّل في صورة موجود بشري.

• إن الذين يتحدثون عن حق أو حرية الأم إزاء ما يحدث ببدنها ينسون أو يتناسون أن موقفها من الإنجاب في الأصل كان غالبًا مؤسسًا على اختيار، والاختيار مسؤولية أخلاقية تجاه الآخر ينبغي تحمُّل تبعاتها.

• إن المُرغَمة على الحمل كما في حالة الاغتصاب ما زال أمامها حق الاختيار منذ البداية، وخاصة منذ أيام الحمل الأولى التي يمكن حسمها في ظل التطوُّر العلمي الراهن.

• إن الجنين حتى في مرحلة الزيجوت وإن لم يكن موجودًا بشريًّا، إلا أنه نواة مشروع بشري؛ وقتله يعني حرمانه من مستقبله أو إمكان تطوُّره ليصبح موجودًا بشريًا حيًا. وإذا كنا نتشدق بتحريم إماتة بذرة نبات دبَّت فيها الحياة ونشعر بالإثم حيال ذلك، فما بالنا ببذرة البشر.

• يبقى الحمل وتوقيته مشيئةً إلهية ارتضيناها وسعينا إليها، فلا يجوز العدول عنها إلا بالحق.

د. سعيد توفيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة ومؤلف كتاب «ماهية اللغة وفلسفة التأويل»