أعمدة

"بناء التفكير هو بناء للإنسان"

روزنامة التفكير

 
نلقي بالملامة عن عدم مرونة عملياتنا العقلية على العقل بتركيبته الفسيولوجية، بدون الفهم على الممارسات الصحيحة للتفكير، مع أنه رغم ذلك بحاجة إلى قرار ديناميكي منبعه النفس، لينتقل عبر مراحل بسيطة، وتفاصيل متتابعة ونهج سليم، لتحقيق الهدف، ومعالجة المعلومات بالعمليات العقلية، تفاصيل أصغر، ونمنمات عديدة تفصلك عن تحقيق المعالجة المعرفية المناسبة باختيار العملية العقلية المناسبة.

وحين يقول البعض إنها عملية تلقائية، فيكون تركيزنا هذا معنيًا ليس بالعمليات العقلية التلقائية المتعلقة بشؤون الحياة اليومية، التي تستهلك الحد الأدنى من العمليات العقلية، بل أننا نقصد بذلك العمليات العقلية التي تعين المتعلم لمعالجة المعارف التي يتلقاها على نحو تراكمي، في عالم متسارع التطور، ولا نقصد بذلك التفكير البديهي، الذي لا يتطلب أي مسارات معقدة في التفكير، بل ذلك الذي يسعى للارتقاء عبر مستويات التفكير المختلفة، ابتداء من التفكير التلقائي ثم الفهم والتطبيق والتحليل، وصولًا إلى أعلى مستوياتها يكون التقويم والإبداع.

يتلقى المتعلم قدرًا وافرًا من المعارف، سواء كان ذلك بالإطلاع والبحث الذاتي، أم يستقبلها من المعلم كميسّر للعملية التعليمية، وإني أقول عنه ميسّر؛ نظرًا للتطور الحاصل في المنظومة التعليمية، حتى باتت المناهج تحدث حراكًا تفاعليًا لدى المتعلم، ليكون فاعلًا في العملية التعليمية، فنظام التلقين القائم على صب المعلومات في وعاء العقل بات من أساليب الماضي، ونظام التعليم الحالي يمضي قدمًا نحو تفعيل دور المتعلم وحراكه الفكري، للتوصل إلى المادة العلمية.

يتلقى المتعلم كل ذلك فيجد أنه على خلاف ذلك القارئ المبحر بسلاسة عبر بحار الكتب الساكنة لتكون استفادته منها انسيابية وتراكمية، لا تثقل عليه بعبء التدارس المطلوب من المتعلم الجاد القيام بها، لاجتياز مراحله التعليمية بتميز ونجاح، وليسير بالاستذكار والتعلم في اتجاهات فكرية لاستيعاب مادة التعلم في مجملها.

فهو مطالب من بعد اجتياز مرحلة الإطلاع الحر، إلى أرشفة كل تلك المعلومات وتمييز رؤوس الجبال وقممها، من قيعان أودية المعلومات ليعرف جيدًا تضاريس الخبرة المعلوماتية، ليكون قادرًا وبجدارة اختيار التنقل بحرية، والسير مزودًا بالعمليات العقلية المناسبة.

عمليات عقلية عديدة من تنظيم للتراكمية المعلوماتية، والبحث عن مفاتيح ترميزية لاستعادة المعلومات وقت الحاجة، والتأرجح ما بين شمولية الفكرة والدقة والتركيز في الجزئيات والتفاصيل وغيرها من الآليات الفكرية.

ولمن يظن حقيقة بأن ذلك من صميم عملية التفكير، التي يكون الإنسان مجبولًا عليها بفطرته السليمة، فأشير إلى أن المقصود بذلك إعمال العقل بطريقة تتجاوز قدراته وتتحداها بقفزات لتحقيق أعلى ما يمكن إنجازه.

وإن كانت حقًا عملية التفكير تلقائية لما وجدنا داخل حجرات الصفوف الدراسية من المتعلمين أصحاب القدرات العقلية العالية ممن هم ليسوا قادرين على اجتياز وتحقيق بعض العمليات العقلية، بداية من الإدراك والقدرة على استعادة المعلومات، أو تلك المهارات الأعلى كالاستنتاج والاقتباس والتصنيف والمقارنة، ووصولًا إلى تلكم القدرات العليا المعنية بالإبداع كالاختراع والبناءات الفكرية الجديدة.

أو أن يكون غير قادر على الارتقاء بمستويات تفكيره التي يتميز فيها وملكاته العقلية البارع فيها ومساندة بقية المهارات الفكرية.

ولما وجدنا وبشكل ملاحظ ومتكرر لا يمكن إغفاله وتجاهله ممن هم قادرون على اجتياز بعض المعارف ومعالجتها، وتحقيق بعض الأهداف بشكل متميز في حين يكون الإخفاق ملحوظًا في معارف وأهداف أخرى بكثرة في المؤسسات التعليمية المختلفة.

ولأن تركيبة العقل متوازنة، فإن القدرات بين الناس قد قسمت بالتساوي لكن على نحو متباين، فنجد من المتعلمين من هم ذو قدرات خارقة في معالجة عمليات معينة، كأرشفة البيانات والمحفوظات مع سهولة استدعائها متى ما شاء، ونجد هناك من يعاني من صعوبة في الحفظ، لكن قادر على خلق التراكيب واستنباط العلاقات بين المعلومات لإنتاج تراكيب جديدة، فيكون قادرًا على التوصل إلى الحلول التي تتطلب عمليات من نوع المستوى الإبداعي، وإنشاء التراكيب الجديدة من بعد الاستفادة من الخبرات السابقة.

وكان الحل السائد هو تقبل ذلك الاختلاف في القدرات والاستسلام لكونك بارعا في أمر ما وتجد صعوبة في نواحي أخرى.

ولإحداث نوعية ونقلة معرفية ثورية فأجد أن إعمال قدراتك الكامنة في خدمة جوانب القصور والنقص ونواحي التدني الأخرى التي تلحظها أنت أولا قبل الآخرين قد يشكل فارقًا كبيرًا في العملية التعليمية، حيث إن الجمع بين القدرات يزيد من الأداء العام وفاعلية الدماغ، بنحو يقارب 20% في البيئات الغنية بالمثيرات، وأصبح بذلك تعليم التفكير لا بد أن يكون ضمن التعليم المدرسي ومنذ الصغر، فهو من المهارات العظيمة التي لا تقل أهمية عن بناء الإنسان، فما الإنسان إلا مجموعة أفكاره التي تتقد بها حواسه وعواطفه وتحيط به كهالة تعبر عن هويته وكينونته. وكما يقول مارجريت ميد: 'لا بد أن يتعلم الأطفال كيف يفكرون، وليس بماذا يفكرون'.