"اختصارات محفوفة باليقين"
روزنامة التفكير
الاحد / 10 / ذو الحجة / 1443 هـ - 17:26 - الاحد 10 يوليو 2022 17:26
تتتابع خطى الأزمان على نحو متسارع، وبوتيرة تزداد تقاربا محموما، حتى بات للزمن معايير وحسابات أخرى واختصر وتقلص إحساسنا به.
وتلك الاختصارات لم تطال الزمن فقط، بل أن قراءات خطى سير الحضارات القديمة يجد فيها دلائل تشير إلى تقلص حجم الإنسان، وغيرها من المخلوقات والكائنات.
ويتناقص ذلك الجهد المبذول من قبل الفرد، وهو محاط بكافة الأجهزة والتقنيات، وانتشارات الرقاقات البرمجية الدقيقة التي تتحكم في أقوى الأجهزة وأكبرها، حتى اختصارات 'الإميجوي' التي انتشرت لتختصر الجمل والأحاديث بين الناس.
كل شيء بات مختصرا، ويسلك الطريق الأسرع، وعلى عمليات العقل أن تسير دوما بما يتلاءم مع تلك السرعة المتنامية.
في العملية التعليمية عامة غير مقتصرين بذلك على تعليم المدارس، نجد أن المعلم يطلب من التلميذ أيا كانت مرحلته، وأيا كانت مادته التعليمية، كأن يكون منهجا أو مادة تدريبية، أو حتى مهارة مكتسبة، فإنه يوجهه إلى طلبات بصيغة عامة، يصعب على التلميذ تطبيقها، وبدون أن يكترث إن كان الطالب قادرا على ذلك حقا أم لا.
ففي تدريب السباحة كمثال، نجد المدرب يطلب من المتدرب أن يرخي جسده كاملا، لكي يحقق الطفو، والمتدرب في الجهة المقابلة في عقله محدثا نفسه: حسنا فهمت، لكن كيف يمكنني تحقيق ذلك؟، كيف أصل بجسدي لحالة الاسترخاء تلك، فيعيق ذلك من سرعة تعلمه للمهارة.
كذلك في الفصول الدراسية يطلب المعلم من تلامذته حفظ قصيدة من عشرين بيتا بلغة فصيحة مثقلة بالرمزيات والبلاغيات والسجع، فيهز الطالب رأسه مطيعا، إلا أنه في أعماقه يتساءل كيف يمكنه من تحقيق ذلك الحفظ، فالبعض لديهم مهارة الحفظ تتم على نحو تلقائي، بينما نجد البعض لا بد أن يتم تعليمه آلية دقيقة تهتم بالتفاصيل والخطوات.
وفي مسابقة سرعة حل المسائل الإدراكية، يتساءل البعض: لقد تمكنت من الحل الصحيح، ولكن كيف لي أن أزيد من سرعتي في الحل والتفكير، كيف لي أن أختصر الوقت والمسافة.
إذا فالأمر بحاجة إلى تفاصيل أكثر عن جوهر العملية، يطول معها الشرح إلا أنها تختصر التطبيق، وهذه السطور ليست معنية سوى بعمليات العقل واختصار رحلة التفكير، ولا نقصد بذلك التفكير الذي يكون على نحو تلقائي كأعمالنا الروتينية المعتادة، بل بتلكم الأعمال التي تحتاج فيها إلى وقفة مع العقل للتفكير والبحث عن الحل، حتى أصبح ضروريا برمجة محوسبة تعين العقل على التفكير، للوصول به إلى أعلى درجات التفكير.
وأستعين بتوضيح الأمر بقصة 'جون هنري' التي خلّدت السلطات الأمريكية قصته في تمثال فولاذي في ولاية فرجينيا الغربية.
حيث كان جون هنري أقوى حفّار أنفاق للسكك الحديدية على الإطلاق، يستعين على ذلك بمطرقة فولاذية، لا تقل قوة عن ساعده الحديدي.
إلا أنه في أحد الأيام ونتيجة للتطور الذي يطال كل شيء؛ سمع جون ورفاقه عن آلة الحفر البخارية، التي تستغني عن يد الإنسان الكادحة، فسخر جون من الآلة وقرر خوض تحدّ يثبت جدارة الإنسان أمام الآلة.
وفعلا تم السباق، أيهما الأسرع، أيهما الأقوى! وسط هتافات الأصدقاء المشجعة لجون هنري، استنفذ جون كل طاقاته للفوز، وفعلا تحقق له ذلك، بفارق زمني بسيط، إلا أنه بعد ذلك خار منهك القوى وفارق الحياة، ليلقن العالم كاملا، والشعب الأمريكي على وجه الخصوص درسا لا ينسى.
فتلك الآلة تعين الإنسان على ادخار قواه، لتكون بذلك تلك القصة الفلكلورية الأشبه بالأسطورية يتم تداولها في المناهج الدراسية، والأدبيات المختلفة، وعلى البرمجيات وقواعد البيانات مساندة العقل لإتمام أعماله بذكاء يشابه الكمبيوتر.
وقد يتساءل البعض: كيف سنجد قاعدة عريضة تقف عليها كل عمليات العقل التي تصطدم بآلاف الأحداث اليومية، والتي تتطلب تفكيرا على نحو مغاير مرة بعد مرة، ليستفيق بعدها سؤال آخر: أليس من الأجدى تعلم التفاصيل الصغيرة للتوصل للقاعدة العامة، أم أن تلك القاعدة هي من سينتظم عليها كل شيء؟
فمن بعد تحديد نقطة الانطلاق والوصول، وبعد رسم الخط الفاصل بينهما، والذي هو عبارة عن مراحل تجتازها، وبعد تأمل عميق لتلك المسافة، التي قد تطول إلى أن تكون بمقياس سنين عمرك، يستفيق سؤال ويدهشك على نحو محفز للتفكير، كيف يمكنني اختصار الرحلة الطويلة ما بين الهدف والنتيجة؟
ورغم تلك الخطوات والمراحل مهما اتسعت وتعددت وتنوعت كتنوع الحياة، فيظل فيها العقل كمدينة يتربع فيها اليقين العرش، ومن حوله العمليات العقلية والآليات الخادمة للهدف.
أما تساؤلنا الذي يأتي دوما على نحو تلقائي؛ عن أيهما جاء أولا في مملكة العقل: هل اليقين هو من أحاط من حوله التفاصيل الدقيقة الصغيرة؟، أم أن التفاصيل الصغيرة هي من صنعت عرشا لليقين.
*ملاحظة: لا يحمل هذا المقال أي أبعاد سياسية.
وتلك الاختصارات لم تطال الزمن فقط، بل أن قراءات خطى سير الحضارات القديمة يجد فيها دلائل تشير إلى تقلص حجم الإنسان، وغيرها من المخلوقات والكائنات.
ويتناقص ذلك الجهد المبذول من قبل الفرد، وهو محاط بكافة الأجهزة والتقنيات، وانتشارات الرقاقات البرمجية الدقيقة التي تتحكم في أقوى الأجهزة وأكبرها، حتى اختصارات 'الإميجوي' التي انتشرت لتختصر الجمل والأحاديث بين الناس.
كل شيء بات مختصرا، ويسلك الطريق الأسرع، وعلى عمليات العقل أن تسير دوما بما يتلاءم مع تلك السرعة المتنامية.
في العملية التعليمية عامة غير مقتصرين بذلك على تعليم المدارس، نجد أن المعلم يطلب من التلميذ أيا كانت مرحلته، وأيا كانت مادته التعليمية، كأن يكون منهجا أو مادة تدريبية، أو حتى مهارة مكتسبة، فإنه يوجهه إلى طلبات بصيغة عامة، يصعب على التلميذ تطبيقها، وبدون أن يكترث إن كان الطالب قادرا على ذلك حقا أم لا.
ففي تدريب السباحة كمثال، نجد المدرب يطلب من المتدرب أن يرخي جسده كاملا، لكي يحقق الطفو، والمتدرب في الجهة المقابلة في عقله محدثا نفسه: حسنا فهمت، لكن كيف يمكنني تحقيق ذلك؟، كيف أصل بجسدي لحالة الاسترخاء تلك، فيعيق ذلك من سرعة تعلمه للمهارة.
كذلك في الفصول الدراسية يطلب المعلم من تلامذته حفظ قصيدة من عشرين بيتا بلغة فصيحة مثقلة بالرمزيات والبلاغيات والسجع، فيهز الطالب رأسه مطيعا، إلا أنه في أعماقه يتساءل كيف يمكنه من تحقيق ذلك الحفظ، فالبعض لديهم مهارة الحفظ تتم على نحو تلقائي، بينما نجد البعض لا بد أن يتم تعليمه آلية دقيقة تهتم بالتفاصيل والخطوات.
وفي مسابقة سرعة حل المسائل الإدراكية، يتساءل البعض: لقد تمكنت من الحل الصحيح، ولكن كيف لي أن أزيد من سرعتي في الحل والتفكير، كيف لي أن أختصر الوقت والمسافة.
إذا فالأمر بحاجة إلى تفاصيل أكثر عن جوهر العملية، يطول معها الشرح إلا أنها تختصر التطبيق، وهذه السطور ليست معنية سوى بعمليات العقل واختصار رحلة التفكير، ولا نقصد بذلك التفكير الذي يكون على نحو تلقائي كأعمالنا الروتينية المعتادة، بل بتلكم الأعمال التي تحتاج فيها إلى وقفة مع العقل للتفكير والبحث عن الحل، حتى أصبح ضروريا برمجة محوسبة تعين العقل على التفكير، للوصول به إلى أعلى درجات التفكير.
وأستعين بتوضيح الأمر بقصة 'جون هنري' التي خلّدت السلطات الأمريكية قصته في تمثال فولاذي في ولاية فرجينيا الغربية.
حيث كان جون هنري أقوى حفّار أنفاق للسكك الحديدية على الإطلاق، يستعين على ذلك بمطرقة فولاذية، لا تقل قوة عن ساعده الحديدي.
إلا أنه في أحد الأيام ونتيجة للتطور الذي يطال كل شيء؛ سمع جون ورفاقه عن آلة الحفر البخارية، التي تستغني عن يد الإنسان الكادحة، فسخر جون من الآلة وقرر خوض تحدّ يثبت جدارة الإنسان أمام الآلة.
وفعلا تم السباق، أيهما الأسرع، أيهما الأقوى! وسط هتافات الأصدقاء المشجعة لجون هنري، استنفذ جون كل طاقاته للفوز، وفعلا تحقق له ذلك، بفارق زمني بسيط، إلا أنه بعد ذلك خار منهك القوى وفارق الحياة، ليلقن العالم كاملا، والشعب الأمريكي على وجه الخصوص درسا لا ينسى.
فتلك الآلة تعين الإنسان على ادخار قواه، لتكون بذلك تلك القصة الفلكلورية الأشبه بالأسطورية يتم تداولها في المناهج الدراسية، والأدبيات المختلفة، وعلى البرمجيات وقواعد البيانات مساندة العقل لإتمام أعماله بذكاء يشابه الكمبيوتر.
وقد يتساءل البعض: كيف سنجد قاعدة عريضة تقف عليها كل عمليات العقل التي تصطدم بآلاف الأحداث اليومية، والتي تتطلب تفكيرا على نحو مغاير مرة بعد مرة، ليستفيق بعدها سؤال آخر: أليس من الأجدى تعلم التفاصيل الصغيرة للتوصل للقاعدة العامة، أم أن تلك القاعدة هي من سينتظم عليها كل شيء؟
فمن بعد تحديد نقطة الانطلاق والوصول، وبعد رسم الخط الفاصل بينهما، والذي هو عبارة عن مراحل تجتازها، وبعد تأمل عميق لتلك المسافة، التي قد تطول إلى أن تكون بمقياس سنين عمرك، يستفيق سؤال ويدهشك على نحو محفز للتفكير، كيف يمكنني اختصار الرحلة الطويلة ما بين الهدف والنتيجة؟
ورغم تلك الخطوات والمراحل مهما اتسعت وتعددت وتنوعت كتنوع الحياة، فيظل فيها العقل كمدينة يتربع فيها اليقين العرش، ومن حوله العمليات العقلية والآليات الخادمة للهدف.
أما تساؤلنا الذي يأتي دوما على نحو تلقائي؛ عن أيهما جاء أولا في مملكة العقل: هل اليقين هو من أحاط من حوله التفاصيل الدقيقة الصغيرة؟، أم أن التفاصيل الصغيرة هي من صنعت عرشا لليقين.
*ملاحظة: لا يحمل هذا المقال أي أبعاد سياسية.