وفاء الترجمة وخيانة النص
الأربعاء / 29 / ذو القعدة / 1443 هـ - 14:53 - الأربعاء 29 يونيو 2022 14:53
«قول الشيء نفسه بلغة أخرى»
هكذا يبدأ أمبرتو إيكو تعريف الترجمة في كتابه (أن نقول الشيء نفسه تقريبًا)؛ إلا أنه يبدأ في تحليل هذا التعريف ومراجعته، للوصول إلى إعادة الصياغة، والاستبدالات المرادفة التي يعتقد المترجمون أنها تدل على (قول الشيء نفسه).
ولهذا فإن إيكو في هذا الكتاب يناقش الترجمة باعتبارها (تفاوضًا) يحاول خلاله المترجم التفاوض مع اللغة للوصول إلى (النص) المترجَم، وسيعتمد في هذه المناقشة على ما يسميه (الوفاء) بالنص؛ ذلك لأن (الوفاء) شرط أساسي بين النص والمؤلف من ناحية، وبينه وبين المترجم من ناحية أخرى، فمفهوم الوفاء يدخل «ضمن الاقتناع بأن الترجمة هي أحد أشكال التأويل وأن غايته يجب أن تكون دائما مع انطلاقها من مشاعر القارئ وثقافته» –بحسب إيكو-.
إن (الوفاء) في الترجمة (يكون للنص لا للمؤلف)؛ ولهذا فإن قصد النص هو ما يعكسه المترجم من خلال اللغة التي يكتبها للتعبير عن هذا القصد إضافة إلى السياق الثقافي الذي سيشكل مستوى علائقيًا بين ثقافة النص وبيئته وثقافة لغة الترجمة، وهو استعداد لغوي يحتاج إلى (وفاء) في التأويل، الأمر الذي حدا بإيكو أن يقرر في فصله المعنون بـ(مِن النظام إلى النص) إلى التقرير بأن «الترجمة لا تتم بين نظامين، إنما بين نصين...».
ولعل هذا ما دفع ريكور في كتابه (عن الترجمة) للحديث عن (محنة الغريب) وهو بحث لأنطوان بيرمان عن الثقافة والترجمة في ألمانيا الرومانطقية، حيث ناقش ريكور (الصعوبات الكبرى والانتصارات الصغرى) التي يواجهها المترجم، وذلك من خلال تناقض جملتي (ربط القارئ بالنص)، و(ربط الكاتب بالقارئ). والحال أن هذا التناقض أو التبادل يُدخل الترجمة في جدل لغوي أساسي على مستوى السياق والتأويل، الأمر الذي يجعل الصراع اللغوي والثقافي محتدما بين النص الأصلي والمترجَم.
يعرض لنا ريكو في كتابه هذا الصراع الذي يمر به النص خلال ترجمته إلى لغة أخرى، الذي نجده في ظواهر متعددة منها؛ ظواهر التناص المتخفية في النص، التي تبدو على السطح في شكل إعادة أو تحويل من قِبل المترجم، والحقول الدلالية التي لا تتطابق في تراكيبها، ولا في أساليب الجمل التي (لا تحمل نفس الموروثات الثقافية)، وكذلك ما أطلق عليه (الدلالات الحافة نصف الخرساء)، التي تتأسس على المعاني المعجمية، وتطفو بين العلامات والجمل، ولكل تلك الظواهر والصراعات التي تتشكل ضمنها، فإن النص في تأويله وتشكُّل سياقاته الجديدة يأخذ شكلًا مغايرًا، وهذا ما جعل ريكو يقول إن «المشكلة في الحقيقة هي أن نقول الشيء نفسه أو أننا نعتقد قول الشيء نفسه لكن بطريقتين مختلفتين».
إن هدف الوصول إلى التوافق أو التطابق بين نصين في الترجمة يمثل إشكالا لغويا وثقافيا وفلسفيا ليس على مستوى (نص الانطلاق) و(نص الوصول) –بحسب اصطلاح ريكور– أو (النص المبتدى) و(النص المنتهى) –حسب اصطلاح ألجيرداس جريماس-، ولكن أيضًا على مستوى الترجمة المتعاقبة؛ فالنص لن يقف عند ترجمة المترجم وإنما يتعداه إلى ترجمة القارئ. فللقارئ دور مهم في تلقي النص المترجَم وتفاعله معه، واشتراكه في توليد الأفكار وتأويل النص، وهذا قد نراه صراحة في إعادة ترجمة النصوص المترجمة، وقد أشار ريكور إلى ذلك فيما أسماه بـ(إعادة الترجمة اللامتناهية للأعمال الكبرى). الأمر الذي يحيل إلى إشكالات أكبر وأكثر عمقا، وهي تلك المتعلقة بثقافة المتلقي التي لا تقبل بعض الترجمات إما بسبب عدم وفاء (نص الوصول) لثقافة (نص الانطلاق) أو عدم وفائه لثقافة القارئ.
ولأن الترجمة «نشاط معرفي» كما يقول جريماس، فإنها ترتبط بفعل أيديولوجي من جهة الكاتب وموضوع أكسيولوجي من جهة القارئ/المترجم، قائم على قدرته على الفهم المعرفي وتأويله، إلاَّ أن الأمر يختلف عند ترجمة (النص الديني)؛ ذلك لأن هذه الترجمات تخضع قراءتها للنسق الثقافي للعصر والفكر الذي يريده النص، فالنص (المبتدى) هنا يختلف عن النصوص الأخرى كونه قابل للتأويل المعرفي بشكل أكثر انفتاحًا عن غيره، لكن الذي سيحكمه هو القدرة المعرفية للمترجم، وبالتالي فإنه – أي المترجم – سيستند إلى تلك «المسافة الفاصلة بين الملفوظ والمتلفظ»، لتقديم ترجمة قادرة –حسب رؤيته– على تحقيق الغاية.
إنَّ الصراع بين ثقافة النص الأصلي والنص المترجم يحتدم عندما يصطدم بثقافة المتلقي خاصة إن كان النص الأول يتأسس على ثقافة غير معروفة لدى المتلقي، وهو ما يجعل الكثير من المترجمين في قلق بين المواءمة أو التخصيص، الأمر الذي يزداد إشكالًا في النصوص الأدبية؛ لما تتميز به من خصوصية في البناء اللغوي والثقافة، وبالتالي فإن المعول عليه هنا سيكون قدرة المترجم على إعادة بناء النص وفق معطيات تكوينية يقدِّرها المترجم فيما أسماه ريكور بـ(الضيافة اللغوية)، التي تتمثل في جعل مهمة المترجم أكثر دراماتيكية في التوفيق بين الثنائيتين اللغويتين؛ فهو «نظام تطابق دون معادلة» –بتعبير ريكور-.
ولعل هذا التوفيق اللغوي والثقافي للنص يدفع المترجمين إلى الاعتماد على جوهر النص وغايته من وجهة نظر النص لا المؤلف؛ من حيث طبيعة النص نفسه وتكويناته، إذ يكتسب النص المترجم المضمون الخطابي المتعلق بجوهر النص، الذي يظهر في شكل علاقات معتمدة على الأسلوب اللغوي والخطوط التعبيرية التي يتأسس عليها النص الأصلي، ولهذا فإن مهمة مترجم الشعر ستكون أكثر تعقيدًا باعتبار أن الترجمة هنا لا تعتمد على جوهر الخطاب في معناه وثقافته، بل أيضا في لغته وأنساقه وإمكانات نظامه اللغوي لإنتاج رسائل ليست دلالية وحسب بل أيضا صوتية. الأمر الذي سيحتاج إلى مجموعة من الإمكانات التوافقية بين النصين على مستوى المواءمة والتخصيص من ناحية، والقدرة على إعادة تشكيل النص وفق أنظمة شعرية جديدة على مستوى اللغة والثقافة من ناحية أخرى.
يستند مختار زواوي في كتابه (سيميائيات ترجمة النص القرآني) على خطاطة جريماس عن الترجمة التي قدمها في (الملتقى المنعقد بنانسي في فرنسا في أكتوبر 1977)، والتي كانت بعنوان (ترجمة التوراة. مسألة سيميائية)، ونُشرت في مجلة (السيميائيات والتوراة) الصادرة عن مركز تحليل الخطاب الديني بليون الفرنسية، وهي خطاطة ناقش فيها (علاقة السيميائيات بالترجمة)، من خلال مجموعة من المعطيات منها طبيعة الفعل (الترجمي) وتصنيفه، ووصف آلياته، وبالتالي فإن زواوي قدَّم على غرار ذلك دراسة عن (ترجمة النص القرآني) آخذا على عاتقه التأكيد على «ضرورة التكفل بمجموع عمليات الإنتاج» –بحد تعبيره-.
ولأن (المترجم قارئ) كما يقول جريماس، فإن هذه القراءة من قبيل (الفعل التفسيري)، ولهذا فقد اعتمد زواوي في بحثه على إثارة جملة من القضايا التي ترتبط بهذا الفعل، خاصة عند تناول ترجمة (النص القرآني)، إذ تتعلق الترجمة هنا بـ (تسوير) النص، وتفسيره، وأسماء سوره، وغير ذلك من علوم القرآن. واعتمادًا على (الفعل التفسيري) فإن ترجمة (النص القرآني) تستند إلى مجموعة من الأدوات الإجرائية والمفاهيم التي تشكل ما تسميه السيميائيات بـ(اللغة الواصفة)، إلاَّ أن (التفسير) لا يُشكِّل هنا سوى إجراء أولي لفعل الترجمة؛ ذلك لأن التفسير غير قادر على تأسيس مفاهيم وأنساق يمكن الاعتماد عليها في إعادة صياغة نص من لغة إلى أخرى؛ ولهذا فإن شارل بورس (مؤسس السيميائيات الأمريكي) أثناء عمله في تحديد مفهوم (التأويل) لجأ إلى مفهوم (الترجمة)، واعتبر أن التأويل ترجمة. وعلى الرغم مما أثاره ذلك من مناقشات عدة من قِبل اللسانيين آن ذلك، إلاَّ أنهم يقرُّون أن التأويل باعتباره (فعلا) أوسع من الترجمة وأشمل، حتى اعتبر رومان جاكبسون أن الترجمة (نوع من جنس التأويل)، الأمر الذي دفعه إلى الاعتماد على مفهوم الترجمة في دراسته لعلاقات التواصل.
يحدثنا إيكو عن ثلاثة أنواع من الترجمة هي الترجمة (الضمنلغوية)، و(البين لغوية)، و(البينسيميائية)؛ ولكل منها إجراءاته وأنساقه التي يعمل عليها؛ فالترجمة (الضمنلغوية) هي ما يُطلق عليه بـ(إعادة الصياغة)، وتنشغل بـ«تأويل علامات لغوية بواسطة علامات أخرى من اللغة»، بينما تقوم الترجمة البينلغوية بنقل «نص من لغة إلى لغة أخرى». أما الترجمة التي يشكل فيها بناء النص المُترجَم إشكالًا وتحديًا للمترجِم، فهي(الترجمة البينسيميائية)؛ أي تلك الترجمة التي تكون بين نصين مختلفين من حيث النوع الأدبي؛ كأن «نترجم رواية لنجعل منها فيلما سينمائيا، أو قصيدة ملحمية إلى صور متحركة أو أن نستوحي لوحة من موضوع قصيدة» – بحسب إيكو -. إنها ترجمة نص لغوي إلى نص غير لغوي؛ أي إلى أنظمة سيميائية مختلفة، حيث ستعتمد الترجمة هنا على أنماط سياقية مختلفة تمامًا، وبالتالي فإن الاعتماد على جوهر النص سيعتمد على قدرة المترجم على ابتكار أنماط معرفية ومضامين ذات كُتل قابلة للرؤية والتشكل، مما يعني أن ترجمة النص اللغوي إلى نظام سيميائي بصري أو سمعي سيحتاج إلى أنماط بديلة وتعويضات للأنساق الخطابية التي تأسس عليها (نص الانطلاق)، وبالتالي فإن (الوفاء) هنا سيشكل تحديًا على المستوى النسقي والمعرفي.
إنَّ الترجمة بأنواعها الثلاثة تعتمد على التأويل لنقل أو تحويل (نص الانطلاق) إلى (نص الوصول). إنها محاول الوصول بالنص إلى المدلول، فما يريده المترجم هو أن تكون لغة الوصول من حيث الدلالة، قادرة على فتح معانٍ يمكن أن يصل إليها (المتلقي للترجمة)، وتكون مطابقة أو تكاد تكون مساوية لما وصل إليه (متلقي النص الأصلي) من معانٍ، وهذا يعني أننا نتحدث عن الترجمة (المثالية) أو ما يسميه إيكو بـ(الجهد التأويلي الشاق)، وهو جهد يعتمد على فكرة (الانتقال) من علامة إلى أخرى سواء أكانت لغوية أو غير لغوية، غير أن الوصول من منطقة العبور تلك يحتاج على الدوام إلى (الجوهر)؛ ذلك لأن إعادة صياغة أو تحويل نص إلى آخر يقوم على صنع جوهر مختلف، وبالتالي فإنه لا يمكن التوقع بأن عملية التلقي ستكون متطابقة؛ لأن النصين لم يعودا متطابقين من الناحية السيميائية.
إنَّ الترجمة تتأسس على المعادلات النسقية والخطابية، التي تعكس قدرة المترجم على التفاوض مع النص الأصلي، وقدرته على تأويله وإعادة صياغته، وفتح آفاقه للقارئ الجديد، وفق معطيات ثقافته، ليستطيع النص المترجم –بصرف النظر عن نظامه اللغوي أو السيميائي- أن يتحاور مع القارئ المتلقي، وينشئ خطابًا قادرًا على فتح تأويلات جديدة، وتحقيق مجموعة من التوليفات الخطابية التي ستنتج في مستقبلها ترجمات جديدة، ليبقى النص (غارقا في التفكير) –باصطلاح رولان بارت– مفتوحا للتأمل، فالنصوص وإن حاولنا إخضاعها للغة ستبقى دوما محافظة على وضعها الحر، دالة على «ما لا يُمكن التعبير عنه، وليس على ما لم يُعبَّر عنه» –بحسب بارت-، هكذا ستبقى الترجمة تأويلا يحاول الوصول إلى تأويلات مفتوحة، وسيبقى الوفاء غاية لا يمكن تحقيقها، فالنص ينفلت منه إلى نص آخر معلنا فتحا جديدا إلى ما لا نهاية.
عائشة الدرمكي أكاديمية عمانية متخصصة في السيميائيات
هكذا يبدأ أمبرتو إيكو تعريف الترجمة في كتابه (أن نقول الشيء نفسه تقريبًا)؛ إلا أنه يبدأ في تحليل هذا التعريف ومراجعته، للوصول إلى إعادة الصياغة، والاستبدالات المرادفة التي يعتقد المترجمون أنها تدل على (قول الشيء نفسه).
ولهذا فإن إيكو في هذا الكتاب يناقش الترجمة باعتبارها (تفاوضًا) يحاول خلاله المترجم التفاوض مع اللغة للوصول إلى (النص) المترجَم، وسيعتمد في هذه المناقشة على ما يسميه (الوفاء) بالنص؛ ذلك لأن (الوفاء) شرط أساسي بين النص والمؤلف من ناحية، وبينه وبين المترجم من ناحية أخرى، فمفهوم الوفاء يدخل «ضمن الاقتناع بأن الترجمة هي أحد أشكال التأويل وأن غايته يجب أن تكون دائما مع انطلاقها من مشاعر القارئ وثقافته» –بحسب إيكو-.
إن (الوفاء) في الترجمة (يكون للنص لا للمؤلف)؛ ولهذا فإن قصد النص هو ما يعكسه المترجم من خلال اللغة التي يكتبها للتعبير عن هذا القصد إضافة إلى السياق الثقافي الذي سيشكل مستوى علائقيًا بين ثقافة النص وبيئته وثقافة لغة الترجمة، وهو استعداد لغوي يحتاج إلى (وفاء) في التأويل، الأمر الذي حدا بإيكو أن يقرر في فصله المعنون بـ(مِن النظام إلى النص) إلى التقرير بأن «الترجمة لا تتم بين نظامين، إنما بين نصين...».
ولعل هذا ما دفع ريكور في كتابه (عن الترجمة) للحديث عن (محنة الغريب) وهو بحث لأنطوان بيرمان عن الثقافة والترجمة في ألمانيا الرومانطقية، حيث ناقش ريكور (الصعوبات الكبرى والانتصارات الصغرى) التي يواجهها المترجم، وذلك من خلال تناقض جملتي (ربط القارئ بالنص)، و(ربط الكاتب بالقارئ). والحال أن هذا التناقض أو التبادل يُدخل الترجمة في جدل لغوي أساسي على مستوى السياق والتأويل، الأمر الذي يجعل الصراع اللغوي والثقافي محتدما بين النص الأصلي والمترجَم.
يعرض لنا ريكو في كتابه هذا الصراع الذي يمر به النص خلال ترجمته إلى لغة أخرى، الذي نجده في ظواهر متعددة منها؛ ظواهر التناص المتخفية في النص، التي تبدو على السطح في شكل إعادة أو تحويل من قِبل المترجم، والحقول الدلالية التي لا تتطابق في تراكيبها، ولا في أساليب الجمل التي (لا تحمل نفس الموروثات الثقافية)، وكذلك ما أطلق عليه (الدلالات الحافة نصف الخرساء)، التي تتأسس على المعاني المعجمية، وتطفو بين العلامات والجمل، ولكل تلك الظواهر والصراعات التي تتشكل ضمنها، فإن النص في تأويله وتشكُّل سياقاته الجديدة يأخذ شكلًا مغايرًا، وهذا ما جعل ريكو يقول إن «المشكلة في الحقيقة هي أن نقول الشيء نفسه أو أننا نعتقد قول الشيء نفسه لكن بطريقتين مختلفتين».
إن هدف الوصول إلى التوافق أو التطابق بين نصين في الترجمة يمثل إشكالا لغويا وثقافيا وفلسفيا ليس على مستوى (نص الانطلاق) و(نص الوصول) –بحسب اصطلاح ريكور– أو (النص المبتدى) و(النص المنتهى) –حسب اصطلاح ألجيرداس جريماس-، ولكن أيضًا على مستوى الترجمة المتعاقبة؛ فالنص لن يقف عند ترجمة المترجم وإنما يتعداه إلى ترجمة القارئ. فللقارئ دور مهم في تلقي النص المترجَم وتفاعله معه، واشتراكه في توليد الأفكار وتأويل النص، وهذا قد نراه صراحة في إعادة ترجمة النصوص المترجمة، وقد أشار ريكور إلى ذلك فيما أسماه بـ(إعادة الترجمة اللامتناهية للأعمال الكبرى). الأمر الذي يحيل إلى إشكالات أكبر وأكثر عمقا، وهي تلك المتعلقة بثقافة المتلقي التي لا تقبل بعض الترجمات إما بسبب عدم وفاء (نص الوصول) لثقافة (نص الانطلاق) أو عدم وفائه لثقافة القارئ.
ولأن الترجمة «نشاط معرفي» كما يقول جريماس، فإنها ترتبط بفعل أيديولوجي من جهة الكاتب وموضوع أكسيولوجي من جهة القارئ/المترجم، قائم على قدرته على الفهم المعرفي وتأويله، إلاَّ أن الأمر يختلف عند ترجمة (النص الديني)؛ ذلك لأن هذه الترجمات تخضع قراءتها للنسق الثقافي للعصر والفكر الذي يريده النص، فالنص (المبتدى) هنا يختلف عن النصوص الأخرى كونه قابل للتأويل المعرفي بشكل أكثر انفتاحًا عن غيره، لكن الذي سيحكمه هو القدرة المعرفية للمترجم، وبالتالي فإنه – أي المترجم – سيستند إلى تلك «المسافة الفاصلة بين الملفوظ والمتلفظ»، لتقديم ترجمة قادرة –حسب رؤيته– على تحقيق الغاية.
إنَّ الصراع بين ثقافة النص الأصلي والنص المترجم يحتدم عندما يصطدم بثقافة المتلقي خاصة إن كان النص الأول يتأسس على ثقافة غير معروفة لدى المتلقي، وهو ما يجعل الكثير من المترجمين في قلق بين المواءمة أو التخصيص، الأمر الذي يزداد إشكالًا في النصوص الأدبية؛ لما تتميز به من خصوصية في البناء اللغوي والثقافة، وبالتالي فإن المعول عليه هنا سيكون قدرة المترجم على إعادة بناء النص وفق معطيات تكوينية يقدِّرها المترجم فيما أسماه ريكور بـ(الضيافة اللغوية)، التي تتمثل في جعل مهمة المترجم أكثر دراماتيكية في التوفيق بين الثنائيتين اللغويتين؛ فهو «نظام تطابق دون معادلة» –بتعبير ريكور-.
ولعل هذا التوفيق اللغوي والثقافي للنص يدفع المترجمين إلى الاعتماد على جوهر النص وغايته من وجهة نظر النص لا المؤلف؛ من حيث طبيعة النص نفسه وتكويناته، إذ يكتسب النص المترجم المضمون الخطابي المتعلق بجوهر النص، الذي يظهر في شكل علاقات معتمدة على الأسلوب اللغوي والخطوط التعبيرية التي يتأسس عليها النص الأصلي، ولهذا فإن مهمة مترجم الشعر ستكون أكثر تعقيدًا باعتبار أن الترجمة هنا لا تعتمد على جوهر الخطاب في معناه وثقافته، بل أيضا في لغته وأنساقه وإمكانات نظامه اللغوي لإنتاج رسائل ليست دلالية وحسب بل أيضا صوتية. الأمر الذي سيحتاج إلى مجموعة من الإمكانات التوافقية بين النصين على مستوى المواءمة والتخصيص من ناحية، والقدرة على إعادة تشكيل النص وفق أنظمة شعرية جديدة على مستوى اللغة والثقافة من ناحية أخرى.
يستند مختار زواوي في كتابه (سيميائيات ترجمة النص القرآني) على خطاطة جريماس عن الترجمة التي قدمها في (الملتقى المنعقد بنانسي في فرنسا في أكتوبر 1977)، والتي كانت بعنوان (ترجمة التوراة. مسألة سيميائية)، ونُشرت في مجلة (السيميائيات والتوراة) الصادرة عن مركز تحليل الخطاب الديني بليون الفرنسية، وهي خطاطة ناقش فيها (علاقة السيميائيات بالترجمة)، من خلال مجموعة من المعطيات منها طبيعة الفعل (الترجمي) وتصنيفه، ووصف آلياته، وبالتالي فإن زواوي قدَّم على غرار ذلك دراسة عن (ترجمة النص القرآني) آخذا على عاتقه التأكيد على «ضرورة التكفل بمجموع عمليات الإنتاج» –بحد تعبيره-.
ولأن (المترجم قارئ) كما يقول جريماس، فإن هذه القراءة من قبيل (الفعل التفسيري)، ولهذا فقد اعتمد زواوي في بحثه على إثارة جملة من القضايا التي ترتبط بهذا الفعل، خاصة عند تناول ترجمة (النص القرآني)، إذ تتعلق الترجمة هنا بـ (تسوير) النص، وتفسيره، وأسماء سوره، وغير ذلك من علوم القرآن. واعتمادًا على (الفعل التفسيري) فإن ترجمة (النص القرآني) تستند إلى مجموعة من الأدوات الإجرائية والمفاهيم التي تشكل ما تسميه السيميائيات بـ(اللغة الواصفة)، إلاَّ أن (التفسير) لا يُشكِّل هنا سوى إجراء أولي لفعل الترجمة؛ ذلك لأن التفسير غير قادر على تأسيس مفاهيم وأنساق يمكن الاعتماد عليها في إعادة صياغة نص من لغة إلى أخرى؛ ولهذا فإن شارل بورس (مؤسس السيميائيات الأمريكي) أثناء عمله في تحديد مفهوم (التأويل) لجأ إلى مفهوم (الترجمة)، واعتبر أن التأويل ترجمة. وعلى الرغم مما أثاره ذلك من مناقشات عدة من قِبل اللسانيين آن ذلك، إلاَّ أنهم يقرُّون أن التأويل باعتباره (فعلا) أوسع من الترجمة وأشمل، حتى اعتبر رومان جاكبسون أن الترجمة (نوع من جنس التأويل)، الأمر الذي دفعه إلى الاعتماد على مفهوم الترجمة في دراسته لعلاقات التواصل.
يحدثنا إيكو عن ثلاثة أنواع من الترجمة هي الترجمة (الضمنلغوية)، و(البين لغوية)، و(البينسيميائية)؛ ولكل منها إجراءاته وأنساقه التي يعمل عليها؛ فالترجمة (الضمنلغوية) هي ما يُطلق عليه بـ(إعادة الصياغة)، وتنشغل بـ«تأويل علامات لغوية بواسطة علامات أخرى من اللغة»، بينما تقوم الترجمة البينلغوية بنقل «نص من لغة إلى لغة أخرى». أما الترجمة التي يشكل فيها بناء النص المُترجَم إشكالًا وتحديًا للمترجِم، فهي(الترجمة البينسيميائية)؛ أي تلك الترجمة التي تكون بين نصين مختلفين من حيث النوع الأدبي؛ كأن «نترجم رواية لنجعل منها فيلما سينمائيا، أو قصيدة ملحمية إلى صور متحركة أو أن نستوحي لوحة من موضوع قصيدة» – بحسب إيكو -. إنها ترجمة نص لغوي إلى نص غير لغوي؛ أي إلى أنظمة سيميائية مختلفة، حيث ستعتمد الترجمة هنا على أنماط سياقية مختلفة تمامًا، وبالتالي فإن الاعتماد على جوهر النص سيعتمد على قدرة المترجم على ابتكار أنماط معرفية ومضامين ذات كُتل قابلة للرؤية والتشكل، مما يعني أن ترجمة النص اللغوي إلى نظام سيميائي بصري أو سمعي سيحتاج إلى أنماط بديلة وتعويضات للأنساق الخطابية التي تأسس عليها (نص الانطلاق)، وبالتالي فإن (الوفاء) هنا سيشكل تحديًا على المستوى النسقي والمعرفي.
إنَّ الترجمة بأنواعها الثلاثة تعتمد على التأويل لنقل أو تحويل (نص الانطلاق) إلى (نص الوصول). إنها محاول الوصول بالنص إلى المدلول، فما يريده المترجم هو أن تكون لغة الوصول من حيث الدلالة، قادرة على فتح معانٍ يمكن أن يصل إليها (المتلقي للترجمة)، وتكون مطابقة أو تكاد تكون مساوية لما وصل إليه (متلقي النص الأصلي) من معانٍ، وهذا يعني أننا نتحدث عن الترجمة (المثالية) أو ما يسميه إيكو بـ(الجهد التأويلي الشاق)، وهو جهد يعتمد على فكرة (الانتقال) من علامة إلى أخرى سواء أكانت لغوية أو غير لغوية، غير أن الوصول من منطقة العبور تلك يحتاج على الدوام إلى (الجوهر)؛ ذلك لأن إعادة صياغة أو تحويل نص إلى آخر يقوم على صنع جوهر مختلف، وبالتالي فإنه لا يمكن التوقع بأن عملية التلقي ستكون متطابقة؛ لأن النصين لم يعودا متطابقين من الناحية السيميائية.
إنَّ الترجمة تتأسس على المعادلات النسقية والخطابية، التي تعكس قدرة المترجم على التفاوض مع النص الأصلي، وقدرته على تأويله وإعادة صياغته، وفتح آفاقه للقارئ الجديد، وفق معطيات ثقافته، ليستطيع النص المترجم –بصرف النظر عن نظامه اللغوي أو السيميائي- أن يتحاور مع القارئ المتلقي، وينشئ خطابًا قادرًا على فتح تأويلات جديدة، وتحقيق مجموعة من التوليفات الخطابية التي ستنتج في مستقبلها ترجمات جديدة، ليبقى النص (غارقا في التفكير) –باصطلاح رولان بارت– مفتوحا للتأمل، فالنصوص وإن حاولنا إخضاعها للغة ستبقى دوما محافظة على وضعها الحر، دالة على «ما لا يُمكن التعبير عنه، وليس على ما لم يُعبَّر عنه» –بحسب بارت-، هكذا ستبقى الترجمة تأويلا يحاول الوصول إلى تأويلات مفتوحة، وسيبقى الوفاء غاية لا يمكن تحقيقها، فالنص ينفلت منه إلى نص آخر معلنا فتحا جديدا إلى ما لا نهاية.
عائشة الدرمكي أكاديمية عمانية متخصصة في السيميائيات