كيف تعلمت الكتابة؟
الأربعاء / 29 / ذو القعدة / 1443 هـ - 14:17 - الأربعاء 29 يونيو 2022 14:17
أيها الرفاق!
في كل المدن التي تسنى لي فيها التحدث معكم، كان الكثيرون منكم يسألونني، شفاهية وعلى قصاصات الورق، كيف بدأت الكتابة؟ سُئلت عن هذا عبر رسائل وردتني من كل ربوع الاتحاد السوفييتي... الكثيرون اقترحوا عليَّ وضع كتاب عن كيفية تأليف القصص، وأن أصنّف نظرية أدبية، وأؤلف كتابًا تعليميًا في الأدب.
لن أقدر على تأليف كتاب تعليمي كهذا؛ تنقصني الشجاعة لذلك، ناهيكم عن أن كتبًا كهذه – حتى وإن كانت بلا جودة كبيرة، ولكنها مفيدة رغم ذلك – موجودة لدينا بالفعل.
تاريخ الأدب
لا بد للمبتدئين في الكتابة اكتساب معرفة بتاريخ الأدب. ولأجل تحقيق هذا، من المفيد قراءة كتاب «تاريخ الأدب» لفاسيلي كيلتويالا.
في كل عملٍ نقوم به علينا معرفة تاريخ تطوره. فإذا ما عرف كل عامل يخدم في وحدة إنتاجية، والأفضل، في المصنع بأكمله، كيف نشأت وحدته، وكيف تطورت تدريجيًا، وتحسّن إنتاجها، فإن العمّال سيعملون بشكل أفضل، وسيتمتعون بفهم عميق بالمعنى الثقافي – التاريخي لعملهم، وسيزداد حماسهم لأدائه.
الأدب الأجنبي
من الضروري أيضًا معرفة تاريخ الآداب الأجنبية، ذلك لأن الإبداع الأدبي، في جوهره، واحد في كل البلدان ولدى جميع الشعوب. الأمر هنا لا يتعلق فقط بالبناء والشكل الخارجي، ليس في أن بوشكين قد قدّم لجوجول فكرة كتاب «الأنفس الميتة»، في حين أن بوشكين نفسه قد أخذ هذه الفكرة، على الأرجح، من الكاتب الإنجليزي ستيرن، من كتاب «رحلة عاطفية»؛ بل إن تواشج موضوع «الأنفس الميتة» ب «مذكرات بيكويك» لديكينز ليس بذي أهمية أيضًا – المهمُ هو الإيمان بأن الشِباك التي تحاك لاصطياد الروح البشرية، منذ الأزل وفي كل مكان، ما زالت تُحاك حتى اليوم، وبالمقابل، فإن هناك، دائمًا وأبدًا، وفي كل مكان، أناس يضعون في صلب أعمالهم، هدفا لتحرير الإنسان من الخرافات والأحكام المسبقة واليقينيات. المهمُ هو معرفة أن الرغبة في طمأنة الإنسان إلى ما يسعده من تفاهات، كان وما زال في كل مكان، وبأن هناك على الدوام متمردين، كافحوا ويكافحون لاستنهاض الناس ضد الواقع القذر الدنيء.
العلم والأدب
إن التفسير الدقيق لنجاحات العلم المذهلة، وسرعة تطوره، هو أن العالِم يعرف تاريخ تطور تخصصه. وهناك قواسم مشتركة كثيرة بين العلم والأعمال الأدبية: هنا وهناك تلعب الملاحظة والمقارنة والمعاينة دورًا أساسيًا؛ والفنان، مثله مثل العالِم، يحتاج لامتلاك الخيال والتخمين – الحدس.
الخيال والتخمين يعوضان الحلقات التي لم تُكتشف بعد في سلسلة الحقائق، كما يتيحان للعالِم أن يضع فرضياته ونظرياته التي تتمخض عن اشتغال عقليّ له قدر من الصواب والنجاح؛ العقل الذي يدرس قوى وظواهر الطبيعة، ثم يقوم بعدها تدريجيا بإخضاعها لإرادة الإنسان، وعبر هذا التعاطي مع الطبيعة الأم، يقوم العقل بإنتاج ثقافتنا (أي قوتنا)، وبالتالي فإن العقل ينتج لنا طبيعة ثانية.
تخمينات مينديليف وبلزاك
أفضل برهان لذلك هاتين الحقيقتين: قام الكيميائي الشهير دميتري منديليف باكتشاف العناصر كلها على أسس بحثية – الحديد والرصاص والكبريت والزئبق وما إلى ذلك – أي الجدول الدوري للعناصر الذي يؤكد أن الطبيعة تحتوي حتمًا على الكثير من العناصر الأخرى التي لم تُكتشف بعد ولم يتسن لأحد معرفتها؛ كما أن منديليف قام بوضع دلائل (الثقل النوعي) لكلٍ من هذه العناصر المجهولة. الآن تمَّ اكتشافها جميعا، إضافة إلى اكتشاف عناصر أخرى لم يفترض منديليف وجودها، وقد اكتشفت بالطريقة التي وضعها هو نفسه.
الحقيقة الثانية تتمثل في أونوريه دي بلزاك، أحد أعظم الفنانين والروائيين الفرنسيين، فمن خلال ملاحظته لنفسيات البشر، رجّح في إحدى رواياته أن في جسم الإنسان عُصارة لها وظيفة جبارة يجهلها العلم، تقوم بالإفصاح عن الخصائص النفسانية - الفيزيائية المختلفة في الجسم. بعد مضي بضعة عقود اكتشف العلم العديد من الغدد في جسم الإنسان، وظيفتها إفراز هذه العصارة -الهرمونات- وبتأسس علم ذو أهمية كبرى في الإفراز الداخلي. هناك العديد من هذه التوافقات بين عمل العلماء والكتاب البارزين. لومانوسوف وغوته كانا شاعرين وعالمين في الوقت نفسه، ومثلهما الروائي ستريندبرج، أول من تحدث عن استخلاص النتروجين من الهواء في روايته «الكابتن كول». المقدرة على تكوين الشخصية
يتطلب فن الإبداع اللفظي، فن تكوين الشخصيات والنماذج، خيالًا وحدسًا وصنعة. يصفُ الأديبُ صاحبَ متجرٍ أو موظفًا أو عاملا يعرفه، محققًا نجاحًا متفاوتًا في رسم صورة شخص بعينه، مع ذلك فهذه مجرد صورة وحسب، خالية من الأهمية الاجتماعية والتربوية، ولن تعطي شيئًا تقريبًا لتوسيع وتعميق إدراكنا بالإنسان والحياة.
ولكن إن استطاع الكاتب أن يستخلص من كل عشرين وخمسين ومائة صاحب متجر أو موظف أو عامل، السمات الطبقية الأكثر تميزًا، والعادات، والأذواق، والإيماءات، والمعتقدات، وأنماط الكلام... إلخ – يستخلصها ويجمعها في صاحب متجر واحد، وموظف واحد، وعامل واحد... بواسطة هذا النهج، فإن الكاتب يصنع نموذجا، وهذا هو الفن. إن سعة الملاحظة وثراء التجربة الحياتية غالبا ما تسلح الفنان بقوّة يتغلب بها على ذاتيته وعلى موقفه الشخصي إزاء الحقائق... هناك الكثير من الأمثلة يكون فيها الفنان مؤرخًا موثوقًا لطبقته وعصره. في هذه الحالة يتساوى عمل الفنان بعمل عالم في العلوم الطبيعية، يبحث في ظروف تواجد الحيوانات ومراعيها، أسباب تكاثرها وانقراضها، ويرسم صورًا لصراعها الشرس من أجل البقاء.
الإدراك والخيال
في الصراع من أجل الحياة، طورت غريزة البقاء لدى الإنسان، قوتين مبدعتين جبارتين: الإدراك والخيال. الإدراك هو المقدرة على الملاحظة والمقارنة ودراسة ظواهر الطبيعة وتجارب الحياة الاجتماعية، باختصار: الإدراك هو التفكير. الخيال كذلك، في جوهره، تفكير في العالم، ولكنه في الغالب الأعم، تفكير صوري وفني؛ بالإمكان القول إن الخيال هو القدرة على إضفاء الصفات الإنسانية على المواد والظواهر الطبيعية، بما فيها صفة الأمل.
لماذا تظهر الرغبة في الكتابة؟
«لماذا تظهر الرغبة في الكتابة؟» هناك إجابتان لهذا السؤال، أحدهما مُقدمٌّ من مراسلتي البالغة من العمر خمسة عشر عامًا، وهي ابنةٌ لعامل. تقول في رسالتها: «أبلغ من العمر خمسة عشر عامًا، مع ذلك، وفي مثل هذه السن المبكرة، ظهرت لدي موهبة الكتابة، والسبب في ذلك هو «ضجر الحياة الفقيرة». جوابها سيكون وجيها لو أنها لم تقل «موهبة الكتابة» وإنما «الرغبة في الكتابة من أجل تجميل الحياة بـ«الخيال» وإثراء «الحياة المضجرة الفقيرة» بها. وهنا يطرح السؤال نفسه: ما هو الشيء الذي سيكتبه المرء وهو يعيش «حياة الفقر»؟ يجيب عن هذا السؤال شعوب الفولغا والأورال وسيبيريا. فالكثيرون منهم لم يمتلكوا لغة مكتوبة حتى الأمس القريب، لكنهم، ومنذ عشرات القرون قبل اليوم، كانوا يثرون ويجمّلون «حياتهم المضجرة الفقيرة» في الغابات العميقة والمستنقعات وسهوب الشرق المقفرة وفي تندرا الشمال، يجمّلونها بالأغاني وقصص الخيال والأساطير عن الأبطال والتخيلات حول الآلهة؛ هذه التخيلات يطلق عليها «إبداع ديني»، لكنها في جوهرها، إبداع فني أيضا.
الرغبة في مشاطرة الانطباعات
مراسل آخر لي، وهو عامل في السابعة عشرة من العمر، يستغيث بي قائلا: «لدي الكثير من الانطباعات بحيث لا أقوى على عدم كتابتها.
في هذه الحالة فإن السعي وراء الكتابة لم يعد بدافع «فقر» الحياة، بل بسبب ثرائها ووفرة الانطباعات والرغبة الداخلية في التحدث عنها. إن الغالبية العظمى من مراسليَّ الشبّان يرغبون في الكتابة لأنهم تحديدا ممتلئون بانطباعات الوجود، و «لا يستطيعون الصمت» حيال ما شاهدوه وجربوه. من المحتمل أن ينشأ من هؤلاء عدد معقول من «الواقعيين»، ولكني أعتقد أن واقعيتهم ستحمل شيئًا من سيماء الرومانسية، وهو أمر حتمي وشرعي في زمن النهضة الروحية الصحيحة، ونحن نعيش مثل هذه النهضة بالفعل.
لماذا بدأت الكتابة؟
أما بعد، أجيب عن سؤال: لماذا بدأت الكتابة؟ بالآتي: يعود السبب إلى قوة الضغط عليَّ من «ضجر الحياة الفقيرة»، وكذلك لأنني كنت أحمل الكثير من الانطباعات بحيث «لم أقو على عدم كتابتها». السبب الأول حملني لأن أُدخل على الحياة «الفقيرة» فبركات و«خيال» من قبيل «حكاية عن الصقر والثعبان»، «أسطورة القلب الملتهب»، «خطّاف البحر». أما السبب الثاني فدفعني إلى كتابة قصص بطابع «واقعي» مثل «ستة وعشرون رجلا وامرأة»، «عائلة أورلوف»، «الصعلوك».
الخوف من الحياة
لقد اختبرت جيدًا مسألة الخوف من الحياة؛ الآن أسمّي هذا الخوف، خوف عميان. كانت حياتي – مثلما ذكرت مرارًا – بالغة الصعوبة، وفي طفولتي شهدت قسوة لا مبرر لها، وعداوة لم أستوعبها من قِبل الناس، لقد أذهلني العمل المضني للبعض والاسترخاء البليد لآخرين؛ أدركت مبكرًا أنه، وكلما ظن البعض أنهم «أقرب إلى الله»، كانوا أبعد عن أولئك الذين يعملون تحت إمرتهم، وكانت مطالبهم من العمّال أشد قسوة؛ بصورة عامة فقد رأيت ألوانا من دنس الحياة أكثر بكثير مما رأيتموه أنتم، فضلا عن أنني رأيتها بأشكال أشد تقززا...
تعاسة صغيرة
في ذلك الوقت كنت قد قرأت ترجمة روايات أجنبية، عثرت بينها على كتب لكتّابٍ رائعين مثل ديكينز وبلزاك، إضافة إلى روايات تاريخية لإنسوورث وبولوير لايتون وديوم. أخبرتني هذه الكتب عن أشخاص ذوي إرادة صلبة، وطباع مصقولة، عن أناس يعيشون مسرات مختلفة، ويعانون بشكل يختلف عنا، ويتشاجرون حول قضايا مهمة. أما أنا فكنت محاطًا بصغار القوم، جشعين، حُسّاد، متنمرين، يتعاركون ويرفعون الدعاوى لأن ابن الجيران كسر ساق الدجاجة بحجر أو هشّم زجاج النافذة؛ بسبب احتراق الكعك واهتراء اللحمة في حساء الملفوف واحتماض اللبن.
بوسعهم أن يندبوا ساعات طوال لأن صاحب المتجر قد زاد على رطل السكر كوبيكا واحدًا، والنسّاج على ذراع القماش. كانت المنغصات الصغيرة لجيرانهم تثير بهجة حقيقة لديهم ولكنهم يخفونها خلف تعاطفٍ زائف. لقد شهدت مليا أن الكوبيك هو الشمس التي تسطع في سماء الحياة المادية تلك، وأنه هو ما يشعل العداوات الصغيرة والقذرة بين الناس. الأواني، السماور، الجزر، الدجاج، الفطائر، قدّاس الظهيرة، أعياد القديسين، الجنازات، الشبع حتى التخمة والشرب الوحشي حدّ التقيؤ – تلكم هي خلاصة حياة الناس الذين بدأت العيش معهم. تلكم الحياة المقززة أورثتني نوعًا من الفتور والملل المُخدّر كما دفعتني للشقاوة كيما أوقظ نفسي. ولعل ما كتبه لي مؤخرا أحد مُراسليّ، وهو امرؤ في التاسعة عشرة من عمره، كان عن هذا الملل نفسه: «بكل خفقان قلبي، أكره هذا الملل الصادر عن القناديل، والقيل والقال، والصراخ الكلبي».
المشاغبة من جرّاء الملل
أحيانًا كان هذا الملل يفجر عندي شغبًا مسعورًا؛ كنت أقوم ليلًا بتسلق السطح وأعمد إلى سدّ المداخن بالخرق والقمامة، أو أسكب الملح في حساء الكرنب المغلي، أو أنفخ الرماد من قصبة ورقية على آلية ساعة الحائط، وعمومًا فقد أتيت أفعالًا كثيرة مما تسمى شغبًا؛ قمت بها لأنني كنت أتوق إلى الإحساس بكينونتي البشرية ولم أهتد إلى سبيل آخر غير هذه الطريقة. كنت كالتائه في غابة أو وسط دغل أسقطته العاصفة أو كالعالق في كومة شِباكٍ أو في الأوحال حيث تغوص الأقدام إلى الركب.
السجناء
أتذكر مناسبة كهذه: في الشارع الذي كنت أقطن فيه كان السجناء يُساقون من السجن على مركب يحملهم عبر نهري الفولغا وكاما إلى سيبيريا؛ ولطالما أثار هؤلاء الأشخاص الرماديون في داخلي انجذابًا غريبًا لهم؛ لعلني حسدتهم، فمع أنهم تحت الحراسة، وبعضهم مُقيّد، إلا أنهم كانوا ذاهبون إلى مكان ما، في حين توجّب عليَّ العيش مثل جرذٍ وحيدٍ في سرداب، وفي مطبخ متسخ، بأرضية من الطوب. ذات يوم عبرت منهم دفعة كبيرة، وكان المدانون يقرقعون بأغلالهم؛ في الطرف، وبمحاذاة الرصيف، مشى اثنان، شُدا بالسلاسل من أيديهما وأرجلهما؛ أحدهما كان ضخما، بلحية سوداء، وعينين واسعتين كعيني حصان، وندبة عميقة حمراء على جبينه، لقد كان مرعبا. لمحته ومشيت حذو الرصيف، فإذا به يصيح بي فجأة، صيحة عالية جذلة: «هيا أيها الحمل، فلتمضي معنا!».كان بهذه الكلمات وكأنه قد قادني من يدي. وفي الحال ركضت نحوه، ولكن حارس القافلة نهرني ودفعني بعيدًا، ولو أنه لم يدفعني، لمضيت، كالسائر في نومه، خلف ذلك الرجل المرعب. نعم، كنت سأمضي خلفه لهذا السبب بالذات – لكونه شخص استثنائي، لا يشبه الناس الذين عرفتهم؛ هب أنه مرعب ومغلول بالأصفاد، ما يهمني أن أرحل إلى عالم آخر. لقد ظللت طويلا أتذكر ذلك الرجل وصوته البهيج الخيّر.
الرغبة في تصوير أناس استثنائيين
إليكم ما يفسر ميلي إلى «المُعدمين»: إنها الرغبة في تصوير أناس «استثنائيين»، وليس فقراء البرجوازية الصغيرة. من المؤكد أن تأثير الآداب الأجنبية، وفي مقدمتها الأدب الفرنسي، الأكثر زينة وبريقًا من الأدب الروسي، قد لعب دورًا في هذا الشأن. ولكن العامل الأساسي الذي أثرّ عليَّ هنا هو الرغبة في تزيين «الحياة المضجرة الفقيرة» بـ«الخيال»، الأمر الذي تحدثت عنه الفتاة ذات الخمسة عشر ربيعًا.
هذه الرغبة، وكما أشرت مسبقا، تدعى «رومانسية». بعض النقاد يعتبرون رومانسيتي انعكاس فلسفة مثالية، وأظن أن هذا غير صحيح.
الرعب من الأمية والابتذال
نعم، أيها الرفاق، لقد خبِرت جيدا الرعب من الابتذال وقسوة الحياة؛ بلغ بي الأمر أن حاولت الانتحار، بعدها بسنوات كثيرة، وحين كنت أتذكر ذلك، أشعر بالعار واحتقار الذات.
«وقد تخلصت من هذا الرعب حين فهمت أن الناس ليسوا أشرارًا بقدر ما هم جهلاء، وبأن ما كان يخيفني ليس الناس ولا الحياة، بل الجهل المجتمعي، ومعه كل أشكال الجهل؛ لقد كنت خائفا من عزلتي وعدم تسلّحي لمواجهة الحياة».
هذه هي عين الحقيقة. وأعتقد أنه حريٌّ بكم أن تفكروا مليًا في هذا، فالمخاوف والآهات والشكاوى التي تسمعونها في بيئتكم، ما هي إلا شكاوى من انعدام الحيلة إزاء الحياة، وعدم ثقة الناس بمقدراتهم في مكافحة «العالم القديم» الذي يستبد بالإنسان من الداخل والخارج.
الكتب تساعد على فهم الأقربين
كان جدي قاسيا وبخيلا، ولكني لم أره ولم أفهمه جيدًا كما رأيته وفهمته عند قراءتي رواية بلزاك «يوجينيا جراندي». كان والد يوجينيا، الشيخ غراندي، بخيلًا أيضًا وقاسيًا وبصفة عامة كان شبيهًا بجدي، ولكنه أكثر حمقًا من جدي وليس شيقًا مثله. ونتيجة للمقارنة مع الفرنسي فقد ربح شيخي الروسي وكبر في عيني. هذا لم يدفعني لتغيير علاقتي بجدي، ولكنه كان اكتشافًا كبيرًا – فالكتاب يمتلك القدرة على أن يُبيّن لي ما لا أشاهده أو أعرفه في الإنسان.
بحثا عن الكلمات الدقيقة
الأخطاء، وإن بدت صغيرة، لها أهمية كبيرة، ومن شأنها أن تقوّض صدق الفن. بشكل عام، من الصعوبة بمكان إيجاد الكلمات الدقيقة ووضعها بطريقة تجعل القليل منها يقول الكثير، بحيث «تتسع الرؤية وتضيق العبارة»، وحتى تعطينا الكلمات صورة حية، تشير باختصار إلى الملمح الأساسي للشخصية، وفي الحال ترسّخ في ذاكرة القارئ، حركة وخطى ونبرة كلام الشخصية التي تصورها.
من جهة هناك «تلوين» البشر والأشياء بواسطة الكلمات، ومن جهة أخرى، تصويرهم ب «طراوة» وحيوية بحيث تأخذك الرغبة للمس الشخصيات بيديك، مثلما يرغب المرء، غالبا، بلمس شخصيات «الحرب والسلم» لتولستوي.
كان عليّ أن أصف ببضع كلمات، مظهر بلدة في وسط روسيا، وأخالني قد جلست نحو ثلاث ساعات قبل أن أنجح في التقاط الكلمات وترتيبها على هذا النحو:
«يمتلئ السهل المتوج بالطرقات الرمادية، وكانت بلدة أوكوروف في وسطه، مثل لعبة مبهرجة على كفٍ عريضة متغضنة».
بدا لي أنني كتبت شيئًا جيدًا، ولكن، بعد أن نُشرت القصة، تبين لي أن ما صنعته شبيها بكعكة زنجبيل ملونة أو علبة ظريفة للحلوى...
عام 1928
هامش:
1-هذه المقولة المنسوبة للنفري جاءت في الأصل بين علامة التنصيص
أحمد م الرحبي كاتب ومترجم عماني
في كل المدن التي تسنى لي فيها التحدث معكم، كان الكثيرون منكم يسألونني، شفاهية وعلى قصاصات الورق، كيف بدأت الكتابة؟ سُئلت عن هذا عبر رسائل وردتني من كل ربوع الاتحاد السوفييتي... الكثيرون اقترحوا عليَّ وضع كتاب عن كيفية تأليف القصص، وأن أصنّف نظرية أدبية، وأؤلف كتابًا تعليميًا في الأدب.
لن أقدر على تأليف كتاب تعليمي كهذا؛ تنقصني الشجاعة لذلك، ناهيكم عن أن كتبًا كهذه – حتى وإن كانت بلا جودة كبيرة، ولكنها مفيدة رغم ذلك – موجودة لدينا بالفعل.
تاريخ الأدب
لا بد للمبتدئين في الكتابة اكتساب معرفة بتاريخ الأدب. ولأجل تحقيق هذا، من المفيد قراءة كتاب «تاريخ الأدب» لفاسيلي كيلتويالا.
في كل عملٍ نقوم به علينا معرفة تاريخ تطوره. فإذا ما عرف كل عامل يخدم في وحدة إنتاجية، والأفضل، في المصنع بأكمله، كيف نشأت وحدته، وكيف تطورت تدريجيًا، وتحسّن إنتاجها، فإن العمّال سيعملون بشكل أفضل، وسيتمتعون بفهم عميق بالمعنى الثقافي – التاريخي لعملهم، وسيزداد حماسهم لأدائه.
الأدب الأجنبي
من الضروري أيضًا معرفة تاريخ الآداب الأجنبية، ذلك لأن الإبداع الأدبي، في جوهره، واحد في كل البلدان ولدى جميع الشعوب. الأمر هنا لا يتعلق فقط بالبناء والشكل الخارجي، ليس في أن بوشكين قد قدّم لجوجول فكرة كتاب «الأنفس الميتة»، في حين أن بوشكين نفسه قد أخذ هذه الفكرة، على الأرجح، من الكاتب الإنجليزي ستيرن، من كتاب «رحلة عاطفية»؛ بل إن تواشج موضوع «الأنفس الميتة» ب «مذكرات بيكويك» لديكينز ليس بذي أهمية أيضًا – المهمُ هو الإيمان بأن الشِباك التي تحاك لاصطياد الروح البشرية، منذ الأزل وفي كل مكان، ما زالت تُحاك حتى اليوم، وبالمقابل، فإن هناك، دائمًا وأبدًا، وفي كل مكان، أناس يضعون في صلب أعمالهم، هدفا لتحرير الإنسان من الخرافات والأحكام المسبقة واليقينيات. المهمُ هو معرفة أن الرغبة في طمأنة الإنسان إلى ما يسعده من تفاهات، كان وما زال في كل مكان، وبأن هناك على الدوام متمردين، كافحوا ويكافحون لاستنهاض الناس ضد الواقع القذر الدنيء.
العلم والأدب
إن التفسير الدقيق لنجاحات العلم المذهلة، وسرعة تطوره، هو أن العالِم يعرف تاريخ تطور تخصصه. وهناك قواسم مشتركة كثيرة بين العلم والأعمال الأدبية: هنا وهناك تلعب الملاحظة والمقارنة والمعاينة دورًا أساسيًا؛ والفنان، مثله مثل العالِم، يحتاج لامتلاك الخيال والتخمين – الحدس.
الخيال والتخمين يعوضان الحلقات التي لم تُكتشف بعد في سلسلة الحقائق، كما يتيحان للعالِم أن يضع فرضياته ونظرياته التي تتمخض عن اشتغال عقليّ له قدر من الصواب والنجاح؛ العقل الذي يدرس قوى وظواهر الطبيعة، ثم يقوم بعدها تدريجيا بإخضاعها لإرادة الإنسان، وعبر هذا التعاطي مع الطبيعة الأم، يقوم العقل بإنتاج ثقافتنا (أي قوتنا)، وبالتالي فإن العقل ينتج لنا طبيعة ثانية.
تخمينات مينديليف وبلزاك
أفضل برهان لذلك هاتين الحقيقتين: قام الكيميائي الشهير دميتري منديليف باكتشاف العناصر كلها على أسس بحثية – الحديد والرصاص والكبريت والزئبق وما إلى ذلك – أي الجدول الدوري للعناصر الذي يؤكد أن الطبيعة تحتوي حتمًا على الكثير من العناصر الأخرى التي لم تُكتشف بعد ولم يتسن لأحد معرفتها؛ كما أن منديليف قام بوضع دلائل (الثقل النوعي) لكلٍ من هذه العناصر المجهولة. الآن تمَّ اكتشافها جميعا، إضافة إلى اكتشاف عناصر أخرى لم يفترض منديليف وجودها، وقد اكتشفت بالطريقة التي وضعها هو نفسه.
الحقيقة الثانية تتمثل في أونوريه دي بلزاك، أحد أعظم الفنانين والروائيين الفرنسيين، فمن خلال ملاحظته لنفسيات البشر، رجّح في إحدى رواياته أن في جسم الإنسان عُصارة لها وظيفة جبارة يجهلها العلم، تقوم بالإفصاح عن الخصائص النفسانية - الفيزيائية المختلفة في الجسم. بعد مضي بضعة عقود اكتشف العلم العديد من الغدد في جسم الإنسان، وظيفتها إفراز هذه العصارة -الهرمونات- وبتأسس علم ذو أهمية كبرى في الإفراز الداخلي. هناك العديد من هذه التوافقات بين عمل العلماء والكتاب البارزين. لومانوسوف وغوته كانا شاعرين وعالمين في الوقت نفسه، ومثلهما الروائي ستريندبرج، أول من تحدث عن استخلاص النتروجين من الهواء في روايته «الكابتن كول». المقدرة على تكوين الشخصية
يتطلب فن الإبداع اللفظي، فن تكوين الشخصيات والنماذج، خيالًا وحدسًا وصنعة. يصفُ الأديبُ صاحبَ متجرٍ أو موظفًا أو عاملا يعرفه، محققًا نجاحًا متفاوتًا في رسم صورة شخص بعينه، مع ذلك فهذه مجرد صورة وحسب، خالية من الأهمية الاجتماعية والتربوية، ولن تعطي شيئًا تقريبًا لتوسيع وتعميق إدراكنا بالإنسان والحياة.
ولكن إن استطاع الكاتب أن يستخلص من كل عشرين وخمسين ومائة صاحب متجر أو موظف أو عامل، السمات الطبقية الأكثر تميزًا، والعادات، والأذواق، والإيماءات، والمعتقدات، وأنماط الكلام... إلخ – يستخلصها ويجمعها في صاحب متجر واحد، وموظف واحد، وعامل واحد... بواسطة هذا النهج، فإن الكاتب يصنع نموذجا، وهذا هو الفن. إن سعة الملاحظة وثراء التجربة الحياتية غالبا ما تسلح الفنان بقوّة يتغلب بها على ذاتيته وعلى موقفه الشخصي إزاء الحقائق... هناك الكثير من الأمثلة يكون فيها الفنان مؤرخًا موثوقًا لطبقته وعصره. في هذه الحالة يتساوى عمل الفنان بعمل عالم في العلوم الطبيعية، يبحث في ظروف تواجد الحيوانات ومراعيها، أسباب تكاثرها وانقراضها، ويرسم صورًا لصراعها الشرس من أجل البقاء.
الإدراك والخيال
في الصراع من أجل الحياة، طورت غريزة البقاء لدى الإنسان، قوتين مبدعتين جبارتين: الإدراك والخيال. الإدراك هو المقدرة على الملاحظة والمقارنة ودراسة ظواهر الطبيعة وتجارب الحياة الاجتماعية، باختصار: الإدراك هو التفكير. الخيال كذلك، في جوهره، تفكير في العالم، ولكنه في الغالب الأعم، تفكير صوري وفني؛ بالإمكان القول إن الخيال هو القدرة على إضفاء الصفات الإنسانية على المواد والظواهر الطبيعية، بما فيها صفة الأمل.
لماذا تظهر الرغبة في الكتابة؟
«لماذا تظهر الرغبة في الكتابة؟» هناك إجابتان لهذا السؤال، أحدهما مُقدمٌّ من مراسلتي البالغة من العمر خمسة عشر عامًا، وهي ابنةٌ لعامل. تقول في رسالتها: «أبلغ من العمر خمسة عشر عامًا، مع ذلك، وفي مثل هذه السن المبكرة، ظهرت لدي موهبة الكتابة، والسبب في ذلك هو «ضجر الحياة الفقيرة». جوابها سيكون وجيها لو أنها لم تقل «موهبة الكتابة» وإنما «الرغبة في الكتابة من أجل تجميل الحياة بـ«الخيال» وإثراء «الحياة المضجرة الفقيرة» بها. وهنا يطرح السؤال نفسه: ما هو الشيء الذي سيكتبه المرء وهو يعيش «حياة الفقر»؟ يجيب عن هذا السؤال شعوب الفولغا والأورال وسيبيريا. فالكثيرون منهم لم يمتلكوا لغة مكتوبة حتى الأمس القريب، لكنهم، ومنذ عشرات القرون قبل اليوم، كانوا يثرون ويجمّلون «حياتهم المضجرة الفقيرة» في الغابات العميقة والمستنقعات وسهوب الشرق المقفرة وفي تندرا الشمال، يجمّلونها بالأغاني وقصص الخيال والأساطير عن الأبطال والتخيلات حول الآلهة؛ هذه التخيلات يطلق عليها «إبداع ديني»، لكنها في جوهرها، إبداع فني أيضا.
الرغبة في مشاطرة الانطباعات
مراسل آخر لي، وهو عامل في السابعة عشرة من العمر، يستغيث بي قائلا: «لدي الكثير من الانطباعات بحيث لا أقوى على عدم كتابتها.
في هذه الحالة فإن السعي وراء الكتابة لم يعد بدافع «فقر» الحياة، بل بسبب ثرائها ووفرة الانطباعات والرغبة الداخلية في التحدث عنها. إن الغالبية العظمى من مراسليَّ الشبّان يرغبون في الكتابة لأنهم تحديدا ممتلئون بانطباعات الوجود، و «لا يستطيعون الصمت» حيال ما شاهدوه وجربوه. من المحتمل أن ينشأ من هؤلاء عدد معقول من «الواقعيين»، ولكني أعتقد أن واقعيتهم ستحمل شيئًا من سيماء الرومانسية، وهو أمر حتمي وشرعي في زمن النهضة الروحية الصحيحة، ونحن نعيش مثل هذه النهضة بالفعل.
لماذا بدأت الكتابة؟
أما بعد، أجيب عن سؤال: لماذا بدأت الكتابة؟ بالآتي: يعود السبب إلى قوة الضغط عليَّ من «ضجر الحياة الفقيرة»، وكذلك لأنني كنت أحمل الكثير من الانطباعات بحيث «لم أقو على عدم كتابتها». السبب الأول حملني لأن أُدخل على الحياة «الفقيرة» فبركات و«خيال» من قبيل «حكاية عن الصقر والثعبان»، «أسطورة القلب الملتهب»، «خطّاف البحر». أما السبب الثاني فدفعني إلى كتابة قصص بطابع «واقعي» مثل «ستة وعشرون رجلا وامرأة»، «عائلة أورلوف»، «الصعلوك».
الخوف من الحياة
لقد اختبرت جيدًا مسألة الخوف من الحياة؛ الآن أسمّي هذا الخوف، خوف عميان. كانت حياتي – مثلما ذكرت مرارًا – بالغة الصعوبة، وفي طفولتي شهدت قسوة لا مبرر لها، وعداوة لم أستوعبها من قِبل الناس، لقد أذهلني العمل المضني للبعض والاسترخاء البليد لآخرين؛ أدركت مبكرًا أنه، وكلما ظن البعض أنهم «أقرب إلى الله»، كانوا أبعد عن أولئك الذين يعملون تحت إمرتهم، وكانت مطالبهم من العمّال أشد قسوة؛ بصورة عامة فقد رأيت ألوانا من دنس الحياة أكثر بكثير مما رأيتموه أنتم، فضلا عن أنني رأيتها بأشكال أشد تقززا...
تعاسة صغيرة
في ذلك الوقت كنت قد قرأت ترجمة روايات أجنبية، عثرت بينها على كتب لكتّابٍ رائعين مثل ديكينز وبلزاك، إضافة إلى روايات تاريخية لإنسوورث وبولوير لايتون وديوم. أخبرتني هذه الكتب عن أشخاص ذوي إرادة صلبة، وطباع مصقولة، عن أناس يعيشون مسرات مختلفة، ويعانون بشكل يختلف عنا، ويتشاجرون حول قضايا مهمة. أما أنا فكنت محاطًا بصغار القوم، جشعين، حُسّاد، متنمرين، يتعاركون ويرفعون الدعاوى لأن ابن الجيران كسر ساق الدجاجة بحجر أو هشّم زجاج النافذة؛ بسبب احتراق الكعك واهتراء اللحمة في حساء الملفوف واحتماض اللبن.
بوسعهم أن يندبوا ساعات طوال لأن صاحب المتجر قد زاد على رطل السكر كوبيكا واحدًا، والنسّاج على ذراع القماش. كانت المنغصات الصغيرة لجيرانهم تثير بهجة حقيقة لديهم ولكنهم يخفونها خلف تعاطفٍ زائف. لقد شهدت مليا أن الكوبيك هو الشمس التي تسطع في سماء الحياة المادية تلك، وأنه هو ما يشعل العداوات الصغيرة والقذرة بين الناس. الأواني، السماور، الجزر، الدجاج، الفطائر، قدّاس الظهيرة، أعياد القديسين، الجنازات، الشبع حتى التخمة والشرب الوحشي حدّ التقيؤ – تلكم هي خلاصة حياة الناس الذين بدأت العيش معهم. تلكم الحياة المقززة أورثتني نوعًا من الفتور والملل المُخدّر كما دفعتني للشقاوة كيما أوقظ نفسي. ولعل ما كتبه لي مؤخرا أحد مُراسليّ، وهو امرؤ في التاسعة عشرة من عمره، كان عن هذا الملل نفسه: «بكل خفقان قلبي، أكره هذا الملل الصادر عن القناديل، والقيل والقال، والصراخ الكلبي».
المشاغبة من جرّاء الملل
أحيانًا كان هذا الملل يفجر عندي شغبًا مسعورًا؛ كنت أقوم ليلًا بتسلق السطح وأعمد إلى سدّ المداخن بالخرق والقمامة، أو أسكب الملح في حساء الكرنب المغلي، أو أنفخ الرماد من قصبة ورقية على آلية ساعة الحائط، وعمومًا فقد أتيت أفعالًا كثيرة مما تسمى شغبًا؛ قمت بها لأنني كنت أتوق إلى الإحساس بكينونتي البشرية ولم أهتد إلى سبيل آخر غير هذه الطريقة. كنت كالتائه في غابة أو وسط دغل أسقطته العاصفة أو كالعالق في كومة شِباكٍ أو في الأوحال حيث تغوص الأقدام إلى الركب.
السجناء
أتذكر مناسبة كهذه: في الشارع الذي كنت أقطن فيه كان السجناء يُساقون من السجن على مركب يحملهم عبر نهري الفولغا وكاما إلى سيبيريا؛ ولطالما أثار هؤلاء الأشخاص الرماديون في داخلي انجذابًا غريبًا لهم؛ لعلني حسدتهم، فمع أنهم تحت الحراسة، وبعضهم مُقيّد، إلا أنهم كانوا ذاهبون إلى مكان ما، في حين توجّب عليَّ العيش مثل جرذٍ وحيدٍ في سرداب، وفي مطبخ متسخ، بأرضية من الطوب. ذات يوم عبرت منهم دفعة كبيرة، وكان المدانون يقرقعون بأغلالهم؛ في الطرف، وبمحاذاة الرصيف، مشى اثنان، شُدا بالسلاسل من أيديهما وأرجلهما؛ أحدهما كان ضخما، بلحية سوداء، وعينين واسعتين كعيني حصان، وندبة عميقة حمراء على جبينه، لقد كان مرعبا. لمحته ومشيت حذو الرصيف، فإذا به يصيح بي فجأة، صيحة عالية جذلة: «هيا أيها الحمل، فلتمضي معنا!».كان بهذه الكلمات وكأنه قد قادني من يدي. وفي الحال ركضت نحوه، ولكن حارس القافلة نهرني ودفعني بعيدًا، ولو أنه لم يدفعني، لمضيت، كالسائر في نومه، خلف ذلك الرجل المرعب. نعم، كنت سأمضي خلفه لهذا السبب بالذات – لكونه شخص استثنائي، لا يشبه الناس الذين عرفتهم؛ هب أنه مرعب ومغلول بالأصفاد، ما يهمني أن أرحل إلى عالم آخر. لقد ظللت طويلا أتذكر ذلك الرجل وصوته البهيج الخيّر.
الرغبة في تصوير أناس استثنائيين
إليكم ما يفسر ميلي إلى «المُعدمين»: إنها الرغبة في تصوير أناس «استثنائيين»، وليس فقراء البرجوازية الصغيرة. من المؤكد أن تأثير الآداب الأجنبية، وفي مقدمتها الأدب الفرنسي، الأكثر زينة وبريقًا من الأدب الروسي، قد لعب دورًا في هذا الشأن. ولكن العامل الأساسي الذي أثرّ عليَّ هنا هو الرغبة في تزيين «الحياة المضجرة الفقيرة» بـ«الخيال»، الأمر الذي تحدثت عنه الفتاة ذات الخمسة عشر ربيعًا.
هذه الرغبة، وكما أشرت مسبقا، تدعى «رومانسية». بعض النقاد يعتبرون رومانسيتي انعكاس فلسفة مثالية، وأظن أن هذا غير صحيح.
الرعب من الأمية والابتذال
نعم، أيها الرفاق، لقد خبِرت جيدا الرعب من الابتذال وقسوة الحياة؛ بلغ بي الأمر أن حاولت الانتحار، بعدها بسنوات كثيرة، وحين كنت أتذكر ذلك، أشعر بالعار واحتقار الذات.
«وقد تخلصت من هذا الرعب حين فهمت أن الناس ليسوا أشرارًا بقدر ما هم جهلاء، وبأن ما كان يخيفني ليس الناس ولا الحياة، بل الجهل المجتمعي، ومعه كل أشكال الجهل؛ لقد كنت خائفا من عزلتي وعدم تسلّحي لمواجهة الحياة».
هذه هي عين الحقيقة. وأعتقد أنه حريٌّ بكم أن تفكروا مليًا في هذا، فالمخاوف والآهات والشكاوى التي تسمعونها في بيئتكم، ما هي إلا شكاوى من انعدام الحيلة إزاء الحياة، وعدم ثقة الناس بمقدراتهم في مكافحة «العالم القديم» الذي يستبد بالإنسان من الداخل والخارج.
الكتب تساعد على فهم الأقربين
كان جدي قاسيا وبخيلا، ولكني لم أره ولم أفهمه جيدًا كما رأيته وفهمته عند قراءتي رواية بلزاك «يوجينيا جراندي». كان والد يوجينيا، الشيخ غراندي، بخيلًا أيضًا وقاسيًا وبصفة عامة كان شبيهًا بجدي، ولكنه أكثر حمقًا من جدي وليس شيقًا مثله. ونتيجة للمقارنة مع الفرنسي فقد ربح شيخي الروسي وكبر في عيني. هذا لم يدفعني لتغيير علاقتي بجدي، ولكنه كان اكتشافًا كبيرًا – فالكتاب يمتلك القدرة على أن يُبيّن لي ما لا أشاهده أو أعرفه في الإنسان.
بحثا عن الكلمات الدقيقة
الأخطاء، وإن بدت صغيرة، لها أهمية كبيرة، ومن شأنها أن تقوّض صدق الفن. بشكل عام، من الصعوبة بمكان إيجاد الكلمات الدقيقة ووضعها بطريقة تجعل القليل منها يقول الكثير، بحيث «تتسع الرؤية وتضيق العبارة»، وحتى تعطينا الكلمات صورة حية، تشير باختصار إلى الملمح الأساسي للشخصية، وفي الحال ترسّخ في ذاكرة القارئ، حركة وخطى ونبرة كلام الشخصية التي تصورها.
من جهة هناك «تلوين» البشر والأشياء بواسطة الكلمات، ومن جهة أخرى، تصويرهم ب «طراوة» وحيوية بحيث تأخذك الرغبة للمس الشخصيات بيديك، مثلما يرغب المرء، غالبا، بلمس شخصيات «الحرب والسلم» لتولستوي.
كان عليّ أن أصف ببضع كلمات، مظهر بلدة في وسط روسيا، وأخالني قد جلست نحو ثلاث ساعات قبل أن أنجح في التقاط الكلمات وترتيبها على هذا النحو:
«يمتلئ السهل المتوج بالطرقات الرمادية، وكانت بلدة أوكوروف في وسطه، مثل لعبة مبهرجة على كفٍ عريضة متغضنة».
بدا لي أنني كتبت شيئًا جيدًا، ولكن، بعد أن نُشرت القصة، تبين لي أن ما صنعته شبيها بكعكة زنجبيل ملونة أو علبة ظريفة للحلوى...
عام 1928
هامش:
1-هذه المقولة المنسوبة للنفري جاءت في الأصل بين علامة التنصيص
أحمد م الرحبي كاتب ومترجم عماني