عمان الثقافي

لماذا لا نستطيع دغدغة أنفسنا؟

أنا مهووسة بفيل لأنني عرفت أشخاصًا مثل فيل، وأكاد لا أصدق أن شخصية كهذه -بما فيها من تعقيد- وجدت مكانها في رواية ما، ومؤخرا على الشاشة أيضا. رواية The Power of the Dog للروائي الأمريكي توماس سافاج التي حولتها جين كامبيون مؤخرًا إلى فيلم يحمل العنوان نفسه، ما زالت تطاردني. وخصوصا شخصيتها الرئيسية فيل بوربانك.

في خاتمة الكتاب تصف آني برولكس العمل بأنه (وأنا هنا أُترجم) «دراسة سيكولوجية مشحونة بالدراما والتوتر، فريدة في تناولها لموضوع قلّما تم تناوله في ذلك الوقت: المثلية مستحيلة إلى رهاب مِثلي في العالم الذكوري لأرباب المزارع» (ص 264). في مقاله الذي يقارن بين العملين الروائي والسينمائي يعالج مُدون Supposedly Fun سلوك فيل وسماته إزاء الخلفية التي تقترحها برولكس. ما أفتقده في تحليل الاثنين هو جانب معاناة فيل المُتأتي من تفوقه الفكري. لعنة الأذكياء أنهم لا يتسامحون مع أنفسهم فيما يتعلق بالأصالة. تُروعهم احتمالية أن يكونوا مُزيفين. تُلح على فيل حاجة قهرية لأن يكون حقيقيا في كل وقت، لأن يُجانب الكلاشيهات، لأن ينفر من المُجاملات، ويروعه أن يتصرف كما يُتوقع منه أن يتصرف إن كان هذا هو الدافع الوحيد. الالتزام بالسلوك اللبق الذي يسنه المجتمع يفوق احتماله، كما يفوق احتماله رؤية من يلتزمون بالدماثة المفتعلة. بمن يُلاطفون عن ضعف. انعكاس كل هذا يظهر في نبذه للسلوك الأرستقراطي، وتبنّيه سلوكًا مُتدنيًا. إنه يتعمّد الحط من سلوكه ليستفز المُتصنعين والضعفاء. الضعف بالنسبة له لا يُقابل بالتعاطف، بل بالتعريض. التنمر كوسيلة تنبيه، كوسيلة إصلاح. غير أنها لا تأتي بنتائج حسنة في الغالب. تؤدي إلى الانتباه ربما، ولكن الانتباه الهدام يُمكن أن يُفهم من سلوك فيل المُضاد للمجتمع بأنه رفض يُقابل الرفض، بأنه احتجاج ملتوٍ يُتقصد تعسير الإشارة إلى مصدره. وأن كراهيته لنفسه نابعة من خيانته لمبدأه الأول: أن يكون حقيقيًا.

هناك تعالق بين الفطنة وبين أن تكون إنسانًا جيدًا. لعلها بقايا أيام المدرسة حين كان مهما أن تكون «شاطرًا»، وأن تكون خلوقًا. فبطريقة ما افترضت (حتى لا أقول افترضنا) أن الأمرين متوافقان، وأن المعرفة بالأشياء تُهذب. كنتيجة للتقويض المتواصل الذي يُذكي -بطبيعة الحال- اللايقين، التسامح، والتفهم.

في كتابها «اللغة وموقع المرأة» (الذي كتبتُ عنه سابقًا)، تُحدد روبن لاكوف مجموعة من السمات التي ترى أنها تُميز اللغة التي تستخدمها النساء. هذه السمات -حسب لاكوف- نابعة من وعي المرأة بأنها في مكانة أدنى. سمات مثل التعبير المتحفظ، والمهذب، والاقتصاد في الكلام، وعدم المباشرة، وما يهمني خصوصا هنا: المبالغة في دقة استخدام المفردات المتخصصة، والقواعد اللغوية. لا أتفق مع طرح لاكوف في أن هذه السمات تخص لغة المرأة، ولكني أرى كيف يمكن أن تكون لغة ضعف. وكيف أن لغة من يحتاجون لإثبات شيء ما -وللدفاع عن البورتريه الشخصي ضد ما يهدده- يمكن أن تتسم بهذه السمات. فيل -إعرابا عن تفوقه- لا يلتزم بلغة معيارية، إنه على العكس يتعمّد إساءة النطق والتهاون الواعي بأعراف اللغة. مثلًا يُشير إلى البيانو بالـ«بنانو». إنه لا يحتاج لإثبات أي شيء. إنه يعرف القواعد ويكسرها عن قصد. تاركًا اللغة الصحيحة للعقول البليدة التي تأخذها وتستخدمها بعقم خامل، فيما يختار أن تكون له سقطاته الحيوية.

تظهر سمات فيل هذه عبر تفاعله مع كل من: جورج (أخوه الذي تشارك معه الغرفة نفسها طوال حياتهما)، روز (زوجة جورج، وقد تزوجها حديثا)، وبيتر (ابنها).

فيل الذي يرى في بيتر ما لا يحبه في نفسه، يُقابل بيتر بالمقت في البداية، لكن الديناميكية بينهما تتغيَّر فور أن تتكشف لفيل جرأة بيتر. إنه لا يأسف على نفسه. إنه لا يسمح للآخرين باستضعافه، بالنيل منه. يمشي مشيته الأنثوية دون أن يأبه بالنظرات والتعليقات من حوله. إنه حقيقي.

روز تتعرَّض لتنمّر من نوع خاص. إنها -مثلا- تجلس على البيانو محاولة تعلم قطعة موسيقية لساعات، فيما تلتقط أذن فيل الموسيقية اللحن ويعزفها على البانجو ببراعة دون الحاجة إلى ورقة موسيقية. فيما يُثني جورج اللطيف على عزفها، كل ما تسمعه في رأسها هو صوت فيل الهازئ، حول كيف أن إعجاب جورج -الذي يلقى نصيبه من التنمّر أيضا- نابع من قلة معرفته، وتدني ذوقه. «كيف لرجل، كيف لرجل أن يحوز السلطة التي تجعل الآخرين يرون في أنفسهم ما يراه فيهم؟» (ص 129). كل هذا لا يُقال بصوت عالٍ بل يُترجم في النظرات، في الزفرات، وفي الإشاحات أيضا. «هل من الغرابة أن تجعلها أدوات مائدة شخص غائب مشلولة إلى هذا الحد؟» (ص 149).

الأكثر إثارة للاهتمام هو علاقة فيل بجورج. إنه -أي فيل- يُقدر الدور التكميلي الذي يؤديه أخوه. «لطالما كان فيل الحاذق بينهما، فيما جورج هو الكادح.. فيل طويل، حاد الملامح.. جورج ممتلئ، ودِيع» (ص 4). إذن فلماذا يتنمّر عليه؟ هناك مجموعة من الإجابات المُحتملة:

1. جورج هو أحد المدّعين الذين يكره فيل زيفهم. غير أن ما من شيء مُقنع يدعم هذا الاعتقاد، دعونا ننبش أبعد.

2. بما أن جورج هو المُكمّل لفيل، هذا يعني أنه كلما ظهر جورج بمظهر سيئ، بدا فيل بمظهر أفضل، غير مُقنع أيضا، لا يمكن لرجل بهذا التعقيد، رجل لا يهتم كيف يظهر، لا يمكن أن يُسيء لأخيه لإثبات تفوقه.

3. لحيازة جورج سمة يفتقدها فيل، ألا وهي التوافق التام مع المجتمع. إنه يتهندم ويتحدث باللباقة المطلوبة، إنه لا يشذ، في اتفاق تام مع قيم المجتمع الكُبرى.

4. يعتقد فيل أنه يحمي أخاه عبر التنمّر عليه، فيل يُريد من جورج أن يُستفز، أن يغضب، أن يهم بالدفاع عن نفسه، علينا الانتباه إلى أن الرجلين ينتميان إلى عائلة ثرية، وهما بذلك عُرضة للاستغلال، خصوصا من قِبل النساء اليافعات اللاتي يرين فيهما زوجين واعدين بالرفاه. فيل لا يريد أن يرى أخاه عرضة للخداع والاستغلال. إنه يُشير لكل عيوب أخيه؛ حتى يتعلم الأخ تحديد أولئك الذين يمكن أن يُسمعوه ما يضمن وصولهم لما يُريدون. إنه لا يُوفر أي خصلة. لا يتغاضى، ولا يتردد، إنه لا يرفق بأخيه، حتى يضمن ألا يجعل جورج من نفسه أضحوكة بالتصديق أنه شيء غير الذي هو عليه فعلا.

5. إنه يجعل من جورج نموذجا لقدرته على الرؤية عبر الناس، رؤية مخاوفهم، ليس بالإمكان إزعاج الناس حقًا، إلا إذا حددت ما يزعجهم.

6. فيل يريد أن يتم تحديه، رجل شديد، جذاب، ذكي، سريع البديهة، بلا مخاوف، وبلا شيء ليثبته (أو هكذا يبدو). وإن كان ثمة من يمكن أن يتحداه فهو أخوه، وهكذا يستفز أخاه بلا هوادة، بلا رحمة، آملًا أن يُواجه.

لماذا أقول كل هذا؟ لأن الفكرة تُطاردني بلا رحمة.. وأنا عاجزة تماما عن فعل أي شيء حتى أضعها على الورق، وأنا لست مُتأكدة إن كان استخدام لفظة «الورق» هنا مجازيًا يُشير إلى تدوينها، أم حرفيًا يُشير إلى النشر، لكني أُرجح الأولى. يقول روبرت سابولسكي -كاتب العلوم الذي لا يُعرّف نفسه باعتباره كاتبا بل عالما، فيما أجده كما يجده كثيرون آسرا- عن هذه الحالة في لقاء معه حول الكتابة (وأنا أُترجم هنا): «أقرأ هنا وهناك، وإذا بي أتعثر بشيء غريب أو طريف، ثم أقضي الأشهر التالية مشغولا به، قارئا كل ما يمكنني إيجاده حول الموضوع. أرسلتُ مؤخرا مقالا إلى النيويوركر، كان باعثه قراءة نصف صفحة على مجلة علم الأعصاب بعنوان «لماذا لا نستطيع دغدغة أنفسنا؟». السؤال الذي وجدته مثيرًا للاهتمام على نحو استثنائي، كما وجدت أنها ظاهرة مدروسة، وأن ثمة تفسيرات علمية لها. مجموعة بحثية قامت بتجارب باستخدام آلة دغدغة، درست المُتغيّرات التي يمكن إذا ما عُدّلت، نجاح الواحد منا في دغدغة نفسه، مجموعة أخرى -شُغلت بالموضوع نفسه- اكتشفت أن مجموعة ضمن مرضى الفصام يقدر أفرادها على دغدغة أنفسهم. وكما ترى، أصبح الموضوع لا يقاوم، بقيت مهووسًا به لشهرين، وكتبت عنه مادة أخيرًا. اغتبطتْ زوجتي لأني سأتوقف عن الاسترسال في أحاديث الدغدغة أخيرًا. والآن ها هو خارج نظامي، إذ لم أفكر بالموضوع من حينها. هذا إلى أن أعثر بالشيء الغريب التالي».

لكني أسأل أيضا: لماذا -حين نُشغل بقضية ما- لا يكفينا التفكير فيها؟ لماذا لا ينتهي الهوس بمجرد إخبار أصدقائك لما توصلت إليه في بحثك؟ ما الشيء الإضافي -الذي لا غنى عنه- والذي تمنحه الكتابة؟ دعونا نفكر.. الكتابة -ما تزال- الوسيط الأمثل لوضع وتطوير الأفكار وتبادلها. يصعب على الفيلسوف مثلا أن يكون فيلسوفا جيدا دون أن يكون كاتبا جيدا، الأحاديث حين تُشاركها تعطي بُعدا أوسع. الحوارات تحث، تحفز، وتُثير. إنها تُوسع. لا أداة لديك حين تُحاور -على الأغلب- لتُميّز الشطحات، لاستبعادها. حين تكتب -في المُقابل- فأنت المؤول الأول لأفكارك الخاصة. قليلا ما تمنح إعادة القراءة بُعدا أوسع، إنك مع كل قراءة تُضيّق وتُحكم. والشذرات الوثابة التي تعكس كيف تُفكر، تُصبح في عملية الكتابة تكليفا ثقيلا، إما أن تُطوع أو تُنحى. هكذا إلى أن تنتهي بشيء يُمثل حكمك النهائي في القضية. شيء يُمكنك الاعتماد على أنه باقٍ وإن بلت ذاكرتك. شيء -رغم عيّك- يقول ببلاغة أين تقف. وكأنها لا تكتفي بأن تكون القالب، يستحيل مع الكتابة فصل الفكرة عن طريقة تعبيرنا عنها. طريقة التعبير عن الفكرة جزء منها. الكتابة عملية بحث، لكنها ليست هذا فحسب. يُمكن لشخص يُعد لحديث عن التلفاز أو بودكاست أن يكتب النص ليقرأه لاحقا. إلا أن هذا النوع من الكتابة غير مُصمم للقراءة بل للاستماع، وبذلك يفقد شيئا من خصائص الكتابة الأولية.لطالما كنتُ عبر القراءة أحاول تحديد أي كاتب أكون. وحين أجتاز الغلاف إلى صفحاته، أذهب بعمى القطارات السريعة. بثقتها بأن الأشياء تترتب في الطريق إلى الوجهة، دون أن أفهم ما يعنيه النوع أو الأسلوب. مُحتفية بجهلي هذا الذي يُصر على أن الكتابة تُجرب قبل أن تُفهم بالضرورة، ففي النهاية «إيش ورانا؟».

في حديقة كلية الهندسة أجلس تحت شجرة أقرأ «تشظيات أشكال ومضامين» لعبدالله حبيب. إنها الثانية ظهرا، أُحاول التوقف عن قراءة حبيب، لقراءة فصل من كتاب الإحصاء استعدادا للمحاضرة بعد ساعتين. تُقرع ساعة البرج، أُدرك أنها الثالثة. أُحاول التوقف لمُراجعة بعض المُعادلات الأساسية. تتصل أميمة، أُدرك أنها الرابعة. أُحاول التوقف لأقصد قاعة المحاضرات. إنها السادسة. أنهيت كتاب حبيب. وضعته جانبا لأنظر لأعلى -كما يحدث بعد فيلم أو كتاب جيد في شعور يُشبه الصحو- حيث شجرة الظل تحجب عني الشمس بجدارة، متمنية أن أصبح هدامة مثل عبدالله حبيب، أدفع الناس لتفويت امتحانات الإحصاء، كشهادة على قدرة من نوع لا تخص الرياضيات في شيء.

نوف السعيدي كاتبة عمانية باحثة في مجال فلسفة العلوم