البعد العاطفي للسرد الرحلي في « أن تفكر في فلسطين»
الأربعاء / 29 / ذو القعدة / 1443 هـ - 14:00 - الأربعاء 29 يونيو 2022 14:00
من الآمن أن نقول، مع أدام بيرسي: إن محكيات السفر، على مر العصور، كانت ذاتية تمامًا، وإنّه كلما كانت النصوص الرحلية أكثر ذاتية؛ زادت سهولة قراءتها، وزادت «قيمتها». لكن هذه الذاتية تتفاوت بين نص رحلي وآخر وبين كاتب وآخر، بحسب شخصيات الرّحالين من جهة، وبحسب السياقات الأدبية والثّقافية التي جاؤوا منها من جهة ثانية، ومن جهة أخرى بحسب وجهاتهم، وكذا أفعال السّفر وأحداثه وتجاربه وطوارئه ومفاجآته.
نظرًا لكون كُتّاب السّفر العرب المعاصرين يواجهون واقعًا جديدًا مختلفًا تمامًا عن واقع رحالي نهاية القرن التاسع وبداية القرن العشرين، فقد أعادوا النظر في مجموعة من مكوّنات النّص الرحلي كمسارات السفر ووجهاته وأغراضه ومدته الزمنية، كما أنّهم راجعوا مسألة كتابة أسْفارهم التي أصبحت في العديد من التحقّقات النّصية، مشتغلة كثيرًا بنفسها وبالذات الرحالة أكثر من اشتغالها بالناس والأماكن والعادات، وبالحس التوثيقي والاتنوجرافي وغيرها من الأمور التي كانت تشغل الرحالين.
وبالتالي فإن هذا التحوّل يُدشّن لممارسة كتابية «جديدة» إلى حد ما، في النص الرّحلي، تُراهن على الوعي بمركزية الذّات الكاتبة في النّص، وتمنحها حيّزاً مهمًا من مساحته لإبراز جوانب من شخصية الرحالة، وتسلط الضوء على أهوائه وأذواقه. وكأن الرحلة لم تعُد مشتغلة بغرض خارجي، بل أصبحت مطلبًا داخليًا متعلقًا بذات الرحالة القائمة بفعلي السفر والكتابة. ويُفسّر هذا التحوّل بكون محكي السفر أو النص الرحلي، كما أحبّذ تسميته، لا يُمكن أن يكون له تعريف ثابت شأنه شأن الرواية؛ نظرًا لفرادته التي تتيح له تضمّن العديد من الأنواع حسب الشكل والمحتوى؛ لأنه، مثل الأشكال الأخرى غير المتبلورة، يتطور وسيستمر في التطور. وينأى دائمًا بنفسه عن الثبات، ويظل غير محدود في أشكاله التعبيرية؛ نظرًا لتمتعه بخاصية مركزية وهي الحرية في التيمات والأشكال المتحققة في النصوص.
من تجليات هذا التحول الحضور اللافت لعنصر المشاركة الشخصية، أي الحضور النصي للمؤلف، لا يعني هذا أن النصوص الرحلية السابقة كانت تُخفي المؤلف، ولكن أصبح له حضورًا مركزيًا من خلال تمييز نظرة المسافر وصوته وتخيّلاته وانفعالاته وأذواقه، ورؤاه لذاته والأماكن والأشخاص والأحداث كعلامة على ولادة جديدة لمؤلف السّفر، وسيكتسب النص الرحلي تركيزًا ذاتيًا بشكل أكثر وضوحًا الذي يأتي لتمييز ما يُعرف اليوم عمومًا بمحكي السفر سواء في النصوص الرحلية العربية والكونية. بتبئير المحكيات المغرقة في الذاتية، تقدّم ذاتية الكاتب في محاولة عاطفية لتمجيد تجاربه الشخصية بسلبياتها وإيجابياتها بإيعاز من الوعي واللاوعي؛ وبالتالي يتزايد التركيز على العالم الداخلي للكاتب مقابل تقلّص مساحة العالم الخارجي؛ نظرًا لاقتناع الكاتب المعاصر بأنّه لم يعُد في العالم ما يمكن اكتشافه بعد أن حوّله التقدّم التقني إلى قرية صغيرة.
لنجدَ أنفسَنا، إن صح القول، أمام انتقال من مركزية العالم إلى مركزية الذات، أو من بلاغة الموضوعية إلى بلاغة الذاتية، وبالتالي، تحلّ محلّ الرّغبة في معرفة العالم رغبة في إفساح حيّز أكبر للذات المسافرة؛ لتكشف عن نفسها وعن أذواقها وأهوائها؛ لذلك أصبح الكاتب السارد في النص الرّحلي المعاصر يعبّر عن أناه ويُفصح عن أذواقه وانفعالاته، ويتأمّل ويعترف ويتخيّل وينتج استيهامات ويحلم أحيانًا، وينفعل حين يعجز عن الفعل أمام الأماكن والأحداث والأشخاص؛ بل لا نبالغ حين نقول: في كثير من الأحيان، تُصبح ذاتية الرحالة، وحتى خصوصيته هي الشرط الذي يشهد على «صحة» رؤيته ومشاهداته للآخر والعوالم والآفاق البعيدة.
من بين النصوص الرحلية التي تجسّد هذا التحول من مركزية العالم المرئي إلى مركزية الذات الكاتبة نص الشاعر المغربي عبد الله صديق «أن تفكر في فلسطين»، الذي يعد ثاني نص رحلي للكاتب بعد نصه الأول «طبق الغموض» الصادر سنة 2018 الذي دوّن فيه رحلته إلى لبنان. تظهر لنا قراءة هذا النص الذي اتخذ شكل يوميات (سبعة أيام متسلسلة منذ وصول الكاتب إلى مطار الملكة علياء في العاصمة الأردنية عمّان قادمًا من المغرب، وحتى لحظاته الأخيرة بأرض فلسطين التي حلّ بها ضيفًا على معرض كتابها الدولي خلال سنة 2016)، يتخلّلها اثنان وخمسون مشهدًا، يلتقط كل مشهد تجربة نفسية عاشها الكاتب، يحاول نقلها من داخل ذاته، فيصرفنا السارد عن الاهتمام بالواقعي، ويقودنا إلى دواخل الكاتب وما يعتمل فيه من مشاعر وانفعالات ولّدها فعل السفر، وحتى إن بدا أن السارد مهتم بالموضوعي، فقد كان هذا الأخير سوى فرصة لانطلاق الكاتب السارد نحو الذاتي الذي كانت بؤرته المركزية التعلّق بفلسطين والقضية الفلسطينية، وعواقب ذلك على فعل السفر ومساره وأحداثه.
التقط عبد الله صديق في نصه الرحلي هذا جملة مشاهد منتقاة بعناية استحضر فيها السارد الكاتب العديد من انفعالاته في تفاعله وانفعاله مع العالم ومع الآخر، الأمر الذي لوّن محكيه ببُعد عاطفي لافت للمتلقي، حاول فيه الكاتب تمثيل «المعاناة الإنسانية» للذات المسافرة، عبْر الكشف عن توتّراتها كذات قائمة بسرد أهم المحطات النفسية للسفر، بل يصبح البعد العاطفي، في نظرنا، سمة من السّمات المميّزة لهذا النّص الرحلي؛ لأنّه يُعيد تنشيط العلاقة بين الهوى والسرد، ويحوّل في كثير من مشاهد هذه اليوميات الأفعال إلى انفعالات («هالني»، «تألمت»،) لينقلنا من سرد أفعال السفر ووقائعه وأحداثه إلى سرد لانفعالات الذات المركزية في فعل السفر والمحولة له إلى نص رحلي.
يُشير مفهوم الهوى، إلى ظاهرة عاطفية عامة، وهو شكل من أشكال الباتوس، بلغة الفيلسوف أريسطو طاليس، التي تُبرز «انفعالية» الذّات، عبْر تبئير السرد للبُعد العاطفي لتجربتها، بتأثير من الآخر المحتل لأرض فلسطين والذي يعارضها ويراقب ويحاصر حركتها في المكان. فيكون الهوى كشكْل من أشْكال الاستجابة أو كشْف عن الأزمة القادمة من الخارج، إذ يُظهر لنا السارد أنّ المواقف التي مرّ بها كانت خطيرة وغير عادية حقّا (خاصّة أمام الحواجز الإسرائيلية وطوابير الانتظار والمراقبة) عبّر من خلالها السّارد عن مجموعة من الانفعالات يُهيمن عليها الخوف والتوتّر والمعاناة والشعور بالإهانة. كما أن الهوى هو الحيّز النفسي الذي تظهر فيه الأفعال كردّ فعل على «أزمة»، وبالتالي يصير المحكي الرّحلي كشْفا عن التوتّر الوجودي، وتجلّ لسمة عاطفية للحدث المعاش يتمّ نقلها وهي طرية إلى الحدث المروي المنقول إلى المتلقي الذي يتأثر وينفعل بها بدوره.
بدَل الاكتفاء بالاهتمام بالعلاقة الفاعلة للذّات المطّلعة بفعْل السّفر مع العالم وهي تستهدف موضوعًا ما (أماكن، محطات، أحداث...)، فإن السّرد في رحلة «أن تفكّر في فلسطين» يهتم بالعلاقة الانفعالية لذات مسافرة تتأثر بموضوع أو حدث يكون سببه، في الغالب الآخر الإسرائيلي المغتصب للأرض والفارض لقوانينه غير العادلة وسُلطته وجبروته، يُحدث تأثيره السلبي الملحوظ على الذات الساردة، بحرب نفسية يحكم ممارستها على السارد والتي تتسبّب له في مجموعة من الانفعالات السلبية كالتّوتر والانتظار والحسْرة والخوف والارتباك والدهشة والشعور بالإهانة... لا يخفّف من وطأتها سوى تعلّقه العاطفي الكبير بفلسطين الذي يُذكي انفعالات مضادة ومقاومة غاية في القوة والصدق والحماسة.
لا يقف الكاتب عبد الله صديق عنْد حدود الانفعال السلبي، بل يُطلق العنان لمجموعة من الانفعالات المقاومة لأفعال الآخر؛ إذْ يؤثر التوتّر النّفسي الذي يعيشه السارد بسبب الآخر على وصفه الانفعالي لهذا الأخير، يقول مثلًا: «ذلك كله والجندية الإسرائيلية القصيرة القامة [...] والدميمة الوجه، تروح وتجيء» (الرحلة، ص.18.) التوتّر الذي يكون مقاومة ونوعاً من ردّ الاعتبار النفسي للذات؛ يقول: «تحت نظرات متكاسلة لجنود يافعين، يهدّهم الضجر، يوشك أن يقذف به نحو الخبل. تراهم فتكاد تحسب الواحد منهم تائها بلا أمل في براري بلا ماء.» (الرحلة، ص.24-25) لتُصبح الانفعالات أداة من أدوات المقاومة أمام العجز عن الفعل؛ لأن العاطفة تظهر، كما أوضح بيرس، على وجه التحديد في إدراك هذا الفقد الجزئي للسيطرة على الأحداث. ويحتمي بالذّاكرة (عبْر إفْساح المجال لذكرياته الطفولية التي تكشف عن تعلقه بفلسطين والقضية الفلسطينية) التي تخلّصه مما أوقعه فيه الآخر من المآزق النّفسية ومن واقعه الذي خلقه كما شاء ويدبّره كما يشاء، فتستحضر الذات العديد من المحكيات، وتستنجد بروايات مضادة لروايات العدو، ممّا يجعل السرد مشْحونا ببعد عاطفي ملحوظ.
كما يحاول الكاتب عبد الله صديق أن يُقرّبنا من الفلسطيني المُستعمَر والمحاصر في أرضه بلغة عاطفية مقتصدة مطبوعة بالحب والتعاطف والدهشة والاستفهام، يقول: «أي عبء ثقيل تنوء به أرواح هؤلاء؟ أي تمزق، أي انكسار، أي غصة...؟ (الرحلة، ص.42.) ويعبر عن إعجابه بقُدرته على تحمّل أعْباء الاحتلال وصموده وإصْراره على الحياة بكل أشكاله؛ كاحتفائه بالموسيقى والشّعر، وسعادته باستقبال إخوانه العرب الذين يكسرون كل الحواجز المادية والنفسية من أجل لقائه.
لقد أظْهرنا في تحلينا أعلاه أنّ تنظيم السرد في نص الشاعر المغربي عبد الله صديق «أن تفكر في فلسطين» اعتمد استراتيجية نصية متوتّرة تهدف إلى إبراز نبضات انفعالات الرحالة مع المُعاش والمرئي والمسموع الناتج عن لقائه بالآخر، كاشفة، من جهة، عن فقدان الذات للسيطرة على الواقع الذي تتحرك فيه، وتكشف من جهة أخرى عن انفعالات معوّضة اتخذت صورة مقاومة.
بوشعيب الساوري كاتب من المغرب
نظرًا لكون كُتّاب السّفر العرب المعاصرين يواجهون واقعًا جديدًا مختلفًا تمامًا عن واقع رحالي نهاية القرن التاسع وبداية القرن العشرين، فقد أعادوا النظر في مجموعة من مكوّنات النّص الرحلي كمسارات السفر ووجهاته وأغراضه ومدته الزمنية، كما أنّهم راجعوا مسألة كتابة أسْفارهم التي أصبحت في العديد من التحقّقات النّصية، مشتغلة كثيرًا بنفسها وبالذات الرحالة أكثر من اشتغالها بالناس والأماكن والعادات، وبالحس التوثيقي والاتنوجرافي وغيرها من الأمور التي كانت تشغل الرحالين.
وبالتالي فإن هذا التحوّل يُدشّن لممارسة كتابية «جديدة» إلى حد ما، في النص الرّحلي، تُراهن على الوعي بمركزية الذّات الكاتبة في النّص، وتمنحها حيّزاً مهمًا من مساحته لإبراز جوانب من شخصية الرحالة، وتسلط الضوء على أهوائه وأذواقه. وكأن الرحلة لم تعُد مشتغلة بغرض خارجي، بل أصبحت مطلبًا داخليًا متعلقًا بذات الرحالة القائمة بفعلي السفر والكتابة. ويُفسّر هذا التحوّل بكون محكي السفر أو النص الرحلي، كما أحبّذ تسميته، لا يُمكن أن يكون له تعريف ثابت شأنه شأن الرواية؛ نظرًا لفرادته التي تتيح له تضمّن العديد من الأنواع حسب الشكل والمحتوى؛ لأنه، مثل الأشكال الأخرى غير المتبلورة، يتطور وسيستمر في التطور. وينأى دائمًا بنفسه عن الثبات، ويظل غير محدود في أشكاله التعبيرية؛ نظرًا لتمتعه بخاصية مركزية وهي الحرية في التيمات والأشكال المتحققة في النصوص.
من تجليات هذا التحول الحضور اللافت لعنصر المشاركة الشخصية، أي الحضور النصي للمؤلف، لا يعني هذا أن النصوص الرحلية السابقة كانت تُخفي المؤلف، ولكن أصبح له حضورًا مركزيًا من خلال تمييز نظرة المسافر وصوته وتخيّلاته وانفعالاته وأذواقه، ورؤاه لذاته والأماكن والأشخاص والأحداث كعلامة على ولادة جديدة لمؤلف السّفر، وسيكتسب النص الرحلي تركيزًا ذاتيًا بشكل أكثر وضوحًا الذي يأتي لتمييز ما يُعرف اليوم عمومًا بمحكي السفر سواء في النصوص الرحلية العربية والكونية. بتبئير المحكيات المغرقة في الذاتية، تقدّم ذاتية الكاتب في محاولة عاطفية لتمجيد تجاربه الشخصية بسلبياتها وإيجابياتها بإيعاز من الوعي واللاوعي؛ وبالتالي يتزايد التركيز على العالم الداخلي للكاتب مقابل تقلّص مساحة العالم الخارجي؛ نظرًا لاقتناع الكاتب المعاصر بأنّه لم يعُد في العالم ما يمكن اكتشافه بعد أن حوّله التقدّم التقني إلى قرية صغيرة.
لنجدَ أنفسَنا، إن صح القول، أمام انتقال من مركزية العالم إلى مركزية الذات، أو من بلاغة الموضوعية إلى بلاغة الذاتية، وبالتالي، تحلّ محلّ الرّغبة في معرفة العالم رغبة في إفساح حيّز أكبر للذات المسافرة؛ لتكشف عن نفسها وعن أذواقها وأهوائها؛ لذلك أصبح الكاتب السارد في النص الرّحلي المعاصر يعبّر عن أناه ويُفصح عن أذواقه وانفعالاته، ويتأمّل ويعترف ويتخيّل وينتج استيهامات ويحلم أحيانًا، وينفعل حين يعجز عن الفعل أمام الأماكن والأحداث والأشخاص؛ بل لا نبالغ حين نقول: في كثير من الأحيان، تُصبح ذاتية الرحالة، وحتى خصوصيته هي الشرط الذي يشهد على «صحة» رؤيته ومشاهداته للآخر والعوالم والآفاق البعيدة.
من بين النصوص الرحلية التي تجسّد هذا التحول من مركزية العالم المرئي إلى مركزية الذات الكاتبة نص الشاعر المغربي عبد الله صديق «أن تفكر في فلسطين»، الذي يعد ثاني نص رحلي للكاتب بعد نصه الأول «طبق الغموض» الصادر سنة 2018 الذي دوّن فيه رحلته إلى لبنان. تظهر لنا قراءة هذا النص الذي اتخذ شكل يوميات (سبعة أيام متسلسلة منذ وصول الكاتب إلى مطار الملكة علياء في العاصمة الأردنية عمّان قادمًا من المغرب، وحتى لحظاته الأخيرة بأرض فلسطين التي حلّ بها ضيفًا على معرض كتابها الدولي خلال سنة 2016)، يتخلّلها اثنان وخمسون مشهدًا، يلتقط كل مشهد تجربة نفسية عاشها الكاتب، يحاول نقلها من داخل ذاته، فيصرفنا السارد عن الاهتمام بالواقعي، ويقودنا إلى دواخل الكاتب وما يعتمل فيه من مشاعر وانفعالات ولّدها فعل السفر، وحتى إن بدا أن السارد مهتم بالموضوعي، فقد كان هذا الأخير سوى فرصة لانطلاق الكاتب السارد نحو الذاتي الذي كانت بؤرته المركزية التعلّق بفلسطين والقضية الفلسطينية، وعواقب ذلك على فعل السفر ومساره وأحداثه.
التقط عبد الله صديق في نصه الرحلي هذا جملة مشاهد منتقاة بعناية استحضر فيها السارد الكاتب العديد من انفعالاته في تفاعله وانفعاله مع العالم ومع الآخر، الأمر الذي لوّن محكيه ببُعد عاطفي لافت للمتلقي، حاول فيه الكاتب تمثيل «المعاناة الإنسانية» للذات المسافرة، عبْر الكشف عن توتّراتها كذات قائمة بسرد أهم المحطات النفسية للسفر، بل يصبح البعد العاطفي، في نظرنا، سمة من السّمات المميّزة لهذا النّص الرحلي؛ لأنّه يُعيد تنشيط العلاقة بين الهوى والسرد، ويحوّل في كثير من مشاهد هذه اليوميات الأفعال إلى انفعالات («هالني»، «تألمت»،) لينقلنا من سرد أفعال السفر ووقائعه وأحداثه إلى سرد لانفعالات الذات المركزية في فعل السفر والمحولة له إلى نص رحلي.
يُشير مفهوم الهوى، إلى ظاهرة عاطفية عامة، وهو شكل من أشكال الباتوس، بلغة الفيلسوف أريسطو طاليس، التي تُبرز «انفعالية» الذّات، عبْر تبئير السرد للبُعد العاطفي لتجربتها، بتأثير من الآخر المحتل لأرض فلسطين والذي يعارضها ويراقب ويحاصر حركتها في المكان. فيكون الهوى كشكْل من أشْكال الاستجابة أو كشْف عن الأزمة القادمة من الخارج، إذ يُظهر لنا السارد أنّ المواقف التي مرّ بها كانت خطيرة وغير عادية حقّا (خاصّة أمام الحواجز الإسرائيلية وطوابير الانتظار والمراقبة) عبّر من خلالها السّارد عن مجموعة من الانفعالات يُهيمن عليها الخوف والتوتّر والمعاناة والشعور بالإهانة. كما أن الهوى هو الحيّز النفسي الذي تظهر فيه الأفعال كردّ فعل على «أزمة»، وبالتالي يصير المحكي الرّحلي كشْفا عن التوتّر الوجودي، وتجلّ لسمة عاطفية للحدث المعاش يتمّ نقلها وهي طرية إلى الحدث المروي المنقول إلى المتلقي الذي يتأثر وينفعل بها بدوره.
بدَل الاكتفاء بالاهتمام بالعلاقة الفاعلة للذّات المطّلعة بفعْل السّفر مع العالم وهي تستهدف موضوعًا ما (أماكن، محطات، أحداث...)، فإن السّرد في رحلة «أن تفكّر في فلسطين» يهتم بالعلاقة الانفعالية لذات مسافرة تتأثر بموضوع أو حدث يكون سببه، في الغالب الآخر الإسرائيلي المغتصب للأرض والفارض لقوانينه غير العادلة وسُلطته وجبروته، يُحدث تأثيره السلبي الملحوظ على الذات الساردة، بحرب نفسية يحكم ممارستها على السارد والتي تتسبّب له في مجموعة من الانفعالات السلبية كالتّوتر والانتظار والحسْرة والخوف والارتباك والدهشة والشعور بالإهانة... لا يخفّف من وطأتها سوى تعلّقه العاطفي الكبير بفلسطين الذي يُذكي انفعالات مضادة ومقاومة غاية في القوة والصدق والحماسة.
لا يقف الكاتب عبد الله صديق عنْد حدود الانفعال السلبي، بل يُطلق العنان لمجموعة من الانفعالات المقاومة لأفعال الآخر؛ إذْ يؤثر التوتّر النّفسي الذي يعيشه السارد بسبب الآخر على وصفه الانفعالي لهذا الأخير، يقول مثلًا: «ذلك كله والجندية الإسرائيلية القصيرة القامة [...] والدميمة الوجه، تروح وتجيء» (الرحلة، ص.18.) التوتّر الذي يكون مقاومة ونوعاً من ردّ الاعتبار النفسي للذات؛ يقول: «تحت نظرات متكاسلة لجنود يافعين، يهدّهم الضجر، يوشك أن يقذف به نحو الخبل. تراهم فتكاد تحسب الواحد منهم تائها بلا أمل في براري بلا ماء.» (الرحلة، ص.24-25) لتُصبح الانفعالات أداة من أدوات المقاومة أمام العجز عن الفعل؛ لأن العاطفة تظهر، كما أوضح بيرس، على وجه التحديد في إدراك هذا الفقد الجزئي للسيطرة على الأحداث. ويحتمي بالذّاكرة (عبْر إفْساح المجال لذكرياته الطفولية التي تكشف عن تعلقه بفلسطين والقضية الفلسطينية) التي تخلّصه مما أوقعه فيه الآخر من المآزق النّفسية ومن واقعه الذي خلقه كما شاء ويدبّره كما يشاء، فتستحضر الذات العديد من المحكيات، وتستنجد بروايات مضادة لروايات العدو، ممّا يجعل السرد مشْحونا ببعد عاطفي ملحوظ.
كما يحاول الكاتب عبد الله صديق أن يُقرّبنا من الفلسطيني المُستعمَر والمحاصر في أرضه بلغة عاطفية مقتصدة مطبوعة بالحب والتعاطف والدهشة والاستفهام، يقول: «أي عبء ثقيل تنوء به أرواح هؤلاء؟ أي تمزق، أي انكسار، أي غصة...؟ (الرحلة، ص.42.) ويعبر عن إعجابه بقُدرته على تحمّل أعْباء الاحتلال وصموده وإصْراره على الحياة بكل أشكاله؛ كاحتفائه بالموسيقى والشّعر، وسعادته باستقبال إخوانه العرب الذين يكسرون كل الحواجز المادية والنفسية من أجل لقائه.
لقد أظْهرنا في تحلينا أعلاه أنّ تنظيم السرد في نص الشاعر المغربي عبد الله صديق «أن تفكر في فلسطين» اعتمد استراتيجية نصية متوتّرة تهدف إلى إبراز نبضات انفعالات الرحالة مع المُعاش والمرئي والمسموع الناتج عن لقائه بالآخر، كاشفة، من جهة، عن فقدان الذات للسيطرة على الواقع الذي تتحرك فيه، وتكشف من جهة أخرى عن انفعالات معوّضة اتخذت صورة مقاومة.
بوشعيب الساوري كاتب من المغرب