أعمدة

تحقيق كتب التراث.. كتاب الإبانة أنموذجا

«لا بد أن نستشعر قيمة التراث الذي بين أيدينا، ونستحضر الجهود التي سبقتنا في صناعته؛ لنفهمَ الغاية التي وضع من أجلها، ونبني على الماضي صرح المستقبل، وأنّى للأحفاد أن يدركوا شأن الأجداد دون أن يتصبب منهم العرق الذي سال من جباه من سبقهم». سلطان بن مبارك الشيباني: مفتاح الباحث ص96.

كنت مأخوذا دوما بالنزر القليل الذي وصل إلينا من مؤلفات أعلام عمان العباقرة، وكان السؤال الذي يحفر العقل دوما، لماذا لا تُحقق المخطوطات وتُطبع ليقرأها الناس كافة؟ لماذا يتم إيعاز تحقيق المخطوطات إلى محققين لا علاقة لهم بعمان من قريب أو بعيد؟. وكانت الحرقة الأكبر حين قرأت كتاب الإبانة الصادر عن وزارة «التراث والثقافة»- سابقا- بطبعته الثانية لعام 2016م، وكتابَي الباحث العماني المجتهد سلطان بن مبارك الشيباني «أمالي التراث» و«مفتاح الباحث» الصادرَين عن «ذاكرة عمان». وقد ذكر الباحث في كتابيه -الأول منهما خصوصا- كثيرا من المجازر التي ارتكبت بحق الكتب التراثية من سوء تحقيق وشك في نسبة بعض الكتب إلى مؤلفيها وغيرها من المآخذ التي أوردها باستفاضة في كتبه. ومما يحز في النفس أن الكثير من المخطوطات ظلت حبيسة الخزائن، فلم يحققها أحد حتى اللحظة.

عودة إلى الإبانة؛ الذي ذكر مؤلفه في مقدمته الغاية من تأليفه حيث يقول: «وقد ألفت هذا الكتاب في أصول اللغة، وذكرت أحرفًا من دخيل غيرها فيها، وفسّرت شيئا من الكلام الجاري على ألسنتهم، لا يَعرِفُ معناه، ولا يَقِفُ على فحواه، دون الغريب- الذي لا يتكلمه إلا متفيهق، ولا يتكلفه إلا متعمق، ولا يَحْسُنُ أن يُؤتَى به إلا في الشعر والخطب. ورتبته على حروف المعجم؛ ليكون أسهل معرفة، وأقل كلاما. وسميته كتاب (الإبانة)» العوتبي: الإبانة ص5.

وحين استرسلت في قراءة الكتاب، استوقفتني تعليقات المحققين- في الجزء الأول خصوصا- حيث يشعر المرء وكأن هنالك ثأرا بين مؤلف الكتاب الذي عاش بين القرنين الرابع والسادس الهجري، وقد اختلف محققو كتبه في الفترة التي عاش فيها وفي نسبة بعض الكتب إليه كما نجد ذلك في مقدمة تحقيق موسوعته الفقهية «الضياء» الصادرة عن وزارة الأوقاف والشؤون الدينية. فنجد التقليل من مؤلف الكتاب والإشارة إن تصريحا أو تلميحا إلى أن هذا الكتاب لا يختلف عن كتاب «الزاهر» لابن الأنباري (القرن الرابع الهجري) الذي يستشهد به العوتبي كثيرا وإن لم يُشر إليه في كثير من المواضع. والقول إن على المؤلف أن يورد مصادره قول متأخر ومنهجية لم تكن عند الأوائل، ولو اقتصر العوتبي على نقله من كتاب الزاهر فحسب وكان الوحيد الذي ينقل ويضيف ويحذف اعتمادا على ما كتبه غيره، لكان لرأي محققي الكتاب مصداقية وصحة؛ ولكن العوتبي كغيره من علماء تلك الفترة أضاف وأجاد وكان يبدي رأيه في كثير من مواضع الكتاب الذي يتواشج مع مؤلفه الآخر «الضياء». ومما دعاني إلى القول بوجوب إيعاز مهمة تحقيق المخطوطات العمانية إلى العمانيين أنفسهم عدة نقاط أذكر بعضها، كوجود كلمات فصيحة كثيرة ما زالت تُستعمل- في الداخل العماني خصوصا- مثل القت والحشيش -طعام الماشية- والحصير والكمة وغيرها من الكلمات التي لا يتسع المقام لذكرها ؛ فلو أن محققا عمانيا حقق الكتاب، لربما خرج ببحث كامل شامل دسم عن الكلمات الفصيحة التي لا نزال نستعملها حتى اللحظة في حياتنا، وينطبق هذا على أسماء بعض البلدان والقرى العمانية التي قد ترد هنا وهناك. والآخر أن المحقق العماني يعرف من خلال الفترة التي عاش فيها المؤلف طبيعة الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للبلاد في تلك الحقبة، وهو ما ينعكس ويتجلى فيما يكتبه، فالمؤلف ابن بلده وإن انتقل عنها، فنعرف آراء المؤلف وتوجهاته في تلك الحقبة المعيشة. وكما يقول الشيباني في مفتاح الباحث ص56 «ولئن كان في الزوايا خبايا -كما يقال- فإن الباحث البارع الجاد هو الذي يقدر أن يجمع من نتف متفرقة في غير مواضعها مادة نفيسة في علوم لم يُعطها أجدادنا قدرها المستحق من التصنيف».

ويقول في ص57-ص58: «وإني لأرجو من كل معتن بتحقيق شيء من تراثنا العماني أن يلفت النظر إلى موضوع الكتاب المُحَقَّق، ويحاول استقصاء ما أُلِّفَ قبله في موضوعه وما أتى بعده، حتى يضع الكتاب في سياقه التاريخي أولا، ثم يرسم للقارئ صورة واضحة عن مدى اهتمام العمانيين بهذا الفن، وطَرقِهِم له في تآليفهم».

وللباحث الشيباني فصل رائع من فصول كتابه «أمالي التراث» والمعنون بـ «دعوة إلى إعادة طبع كتاب الإبانة». وقد أورد في هذا الفصل مبررات ثلاثة استند عليها في دعوته. وفي الصفحة 457 من كتابه يقول في معرض الحديث عن القطعة الثانية من مخطوطة كتاب الإبانة، «ومن خَبَرَ المخطوطاتِ العمانية أدركَ أن كاتب هذا الخط هو الشيخ عمر بن سعيد بن مع». ثم يتحدث عن مصطلح يستعمله النساخ العمانيون وهو «الرَّدَّة، وهي ورقة صغيرة يقيد فيها ما ضاقت الحواشي عن استيعابه، وتُرفق بالمخطوط في محلها، مع وضع علامة في المتن تشير إلى موضعه» ص459. وهاتان نقطتان تضافان إلى ما ذكرته من وجوب إسناد مهمة تحقيق المخطوطات العمانية إلى العمانيين.

وفي المبرر الثاني الذي ذكره الشيباني، وهو «اكتشاف نسخة مخطوطة جديدة من كتاب الإبانة، هي أقدم من المخطوطات المعتمدة في إخراج الكتاب..» ص460. ثم يضيف أن المخطوطة المنسوخة -ترجيحا- بين القرنين السابع والتاسع الهجري حسب رأيه يقول في ص461: «ولا شك.. أن المخطوطة تظل بعيدة النسخ -نوعا ما- عن زمان تأليفها، لكن ينبغي لنا أن ندرك أنها أقدم من المخطوطة المعتمدة في التحقيق، وهنا تكمن قيمتها ونفاستها». ثم يخلص إلى أنه «لو تتبعنا كثيرا مما وضعه المحققون بين معقفين [] استدراكا على المتن لألفيناه منصوصا عليه في النسخة العتيقة لا يحتاج إلى استدراك»، كما أن كثيرا «من الشواهد الشعرية التي وردت غير منسوبة في نسخة التحقيق جاءت منسوبة في النسخة العتيقة إلى قائليها..» ص462. «وبعض ما ورد مُصَحَّفا في نسخة التحقيق جاء صحيحا في النسخة العتيقة..» ص463. كما وجد أن «بعض السقط والبياض في نسخة التحقيق تامٌّ مكتمل في النسخة العتيقة..» وكما هو معلوم أن «من السقط ما هو مُخِلٌّ بالمعنى..» ص463.

ثم إن الشيباني ببراعته وحذقه وطول باعه في التحقيق وجد كثيرا مما يجدر تصحيحه، فهو لم يَسُق إلا النزر القليل مما يستدعي الوقوف عليه والنظر فيه، في شأن إعادة طبع الكتاب، حيث يقول: «وما سقته سابقا لا يعدو كونه تمثيلا فحسب، وإلا فإن الكتاب جدير بإعادة النظر فيه من خلال المخطوطة العتيقة المكتشفة. وقراءتها قراءة سليمة كفيلٌ بتصحيح كثير من عبارات الكتاب».

*ثالثا: تدارك بعض ما وقع فيه المحققون الأفاضل من هنات يسيرة. وهي هنات غير قادحة في عملهم كما قدمت، ولا ريب أن تعدد زوايا النظر إلى النص يَنتُجُ عنه تعدد القراءات، وهو من الاختلاف المحمود المثمر» ص464-465.

هكذا، نجد أن إعطاء الفرصة لمحققي التراث العمانيين، يسهم إسهاما مباشرا في إخراج كتبنا وتراثنا في أبهى حُلة وتجديد هذا التراث؛ ليظهر لنا في ثوبه القشيب الزاهي الخالي من العيوب التي يمكن تفاديها بالمعرفة الصحيحة لمرامي المؤلفين، والإحاطة بهذا الفن -تحقيق كتب التراث- لما له من خصوصية الإشارات والدلالات التي تختلف من قُطر لآخر.