وجه آخر لجوع الذات إلى المطلق في رواية «جوع العسل»
الأربعاء / 23 / شوال / 1443 هـ - 18:05 - الأربعاء 25 مايو 2022 18:05
ليس الجوع بالمعنى المتناول بين الجسد والمادة في الحصول على ما يبقيه على قيد الحياة؛ إنه وجه آخر؛ الجوع المتشكّل من تحدّي كينونة متماهية مع الطبيعة؛ الوجه المقابل لصعوبة الذات البشرية في الاستسلام إلى المتناول القريب.
فالطبيعة البشرية تركن في المتاح العام إلى استهلاك المكرر؛ تفرض سيرورة الحياة عليها دوائر مكررة تبدأ منذ ولادتها حتى الرحيل، والعلاقة بين مادة القوت والجسد هي شكل من أشكال الاستهلاك اليوميّ؛ اليومي المكرر داخل المنظومة الطبيعية. أما ما هو خارج هذه الدائرة فهو نحت من استمراء المشقّة والاستمتاع برؤية الحياة من الداخل الغريب الذي قد تسهم فيه مجموعة من العوامل الأسرية أو البيئية أو عوامل أخرى تعود إلى الوعي أو الرغبة في الخروج على المألوف. وفي الحقيقة تشكل حياة القرية أو المكان الجبليّ الطبع الأكثر هيمنة والذي ما يكون السمة الرئيسة مع اختلاف في المواقف ووجهات النظر.
«جوع العسل» في تجربة زهران القاسمي انتماء إلى عوالم نسجها الصراع بين المدنية والبساطة العظيمة التي لا يدرك شأوها إلا من يشبهون النحل في ارتياد المسافات بحثا عن أوجه مختلفة للحياة؛ تتغير بتغير مصادر الرحيق الذي يصنع منه النحل مادة الجوع هذه. ولنا أنْ نقرأ الكثير والكثير من صفحات حياة النحل وعلاقتها بالمحيط؛ مما يسمح للمدينة أن ترصد هذا التناغم والتحدي في الوقت ذاته، وما يمنحه العسل من استمرارية حياة تشكلها العلاقة بينه وبين الناس نحالين ومستهلكين، إضافة إلى كونه علامة فاعلة في الجانب المحسوس والملموس؛ ونعني بذلك (ثيمة العسل) في الظاهرة الجمالية ومتعة اللذة ومؤشر الصفاء والحلاوة. لكن قبل ذلك - وهو ما تقوم عليه التجربة - مملكة النحل التي تقدم نماذج التحدي للجبلي القرويّ، حتى وهو يربي النحل في صناديق منحله؛ يشعر بكل ما يمنحه الاستمرار والمتعة.
التجربة هذه انعكاسات خفية ذات مقاربات نفسية بين الشخوص والمعاني التي تتولّد من الطبيعة في متغيّراتها الصلبة والحيّة؛ مادة الجبال والوعورة وأشكال المخلوقات ورخاوتها.
الأولى تفرض سيارتها على السفلي المغامر الراغب في تحدي سفوحها ومنحدراتها؛ أخرى ما تخفيه؛ فالأفق اتساع النظر ورؤية ما وراء المشاهد كما تراه البنفسجة الطموح بين الزهور عند جبران. والثانية المفردات المؤثرة في محيط المتطلّع إلى ما هو خارج المحسوس والعاقل، هذه المخلوقات بكل أشكالها غير الإنساني منها علامة فارقة تُدرك بمدّ العلاقة بها خارج المستهلك.
ثمة مسافة لا تسلّم نفسها للمطلق بسهولة؛ لأنها الأعالي والقمم والسماء والبعيد والنحل المهاجر في رواية «جوع العسل». مسافة ليست بين نقطتين واضحتين، بل من منطلقين غامضين؛ الذات في إصرارها على كسر اليوميّ والتحدي الذي لا تعلم منه سوى المسير والانطلاق إلى الهدف، والبعيد المنطلق الآخر، ليس مرسوما بأكثر من أفق جبلي وقمم حادّة ذات سفوح وعرة؛ تدفع إليها نحلة تحوم حول مكان يمتزج بتفاصيله «عسّال» عنيد لا يقبل بغير مادة الحياة وجائزة المغامرة التي لا تنتهي؛ عسل في قربة، يشير إلى الحياة والحب والاشتياق إلى غائب بعيد.
هذا البعيد لا ترسم ملامحه مؤشرات مادية فقط؛ فهذه مجرد وصلات تبني الطريق في التجربة، ما يرسم ملامح البعيد صامت ينطق بلغة الداخل المكابر بعيدا عن تفاصيل الجزء اليومي المشترك مع الناس، وما يقال أمامهم هو الخطاب الناقل لضرورات التواصل، بينما ما تشير إليه الذات فهو مجهولها في عوالم النحل والمحلقين خلفه بإصراره وذكائه.
تتشكل المسافة بعدا وفقدا بعوالم الذات الداخلية، تترك التجربة مؤشرات المكان في المتسع الضيق الذي يراه الآخر ويضيق عن فهمه، الحب والفقد والاشتياق إلى البعيد بأكثر من معنى.
يقول الكاتب: «صوت تعويبة يصدح في القمم، صوت امرأة تناجي الأعالي، صوتها يخترق الحجب ليصل إليه، بينما كانت تغني الفقد العظيم».
هذه المسافات انعكاس الجوع الذي جعلته التجربة محور الحياة ومنطلق أشكالها في القرية؛ القرية الخلية والخلية العوالم والعوالم ذوات الرواية شخوصا يشكلها الكاتب بانعكاسات الجوع والمسافة.
تعددت صور الفقد في الطفولة والصبا والكهولة، في العشق والحب والضياع، في العودة والحنين والمقاومة. النحل ثيمة التشكيل القيمي والإنساني في دائرة بين مدينة غريبة وقرية قريبة، استعار الكاتب بعض جهاتها وأسمنتها وشوارعها ليبني صراعا غائبا بعيدا عن سلطة منظومة ترسم خريطة حادة الحدود؛ فالسلطة للذوات والقيميّ والمعرّف بالمنقول والمتوارث مادة وشخوصا وانتقالا، وفي ثنايا ذلك «مَن هو الإنسان في هذا المحدود؟»؛ ملموس الجسد والطين والرغبة، ومحسوس الموقف والاختيار.
بنيت التجربة على تعدد الرؤى والمواقف التي بنت شخصياتها، وقد شكلها الكاتب أثناء السرد بتفاصيل ميّزت الدور الذي قامت به في توجيه الحدث، اختلف هذا التشكيل بين تتبع المراحل وبين تعيين للموقف، كما اختلف بين التأثير الجمعي والتأثير الفردي؛ شخوص رئيسة تنمو بردّات فعل تجاه المحيط لتكبر متماهية في تقدّم الرواية، وأخرى تؤثر في ظهور إضافي أو ظهور بنائي، لكن الرواية موقد يقوم ثلاث أثافي هي القمم في متناول الشخصيات الأكثر تأثيرا في البناء، شكلها الكاتب من انعكاس المختلف على الذوات، والفرق الواضح ليس بالتميّز الذي قد يخلق تداخلا شائكا مع شخصيات أخرى؛ لكنه من اشتغال الكاتب على صنع مزيج متّصل ومنفصل بين الشخصيات من خلال علاقتها ببعضها أو من خلال تاريخ حياتها الممتد إلى ما قبل حاضرها بعيدا عن تكهنات هذه العلاقة في الماضي.
من هي هذه الشخصيات التي ترصد الحياة من عيون النحل وغريزة مخلوقات السهل والجبل البعيدين.
يقول: «إن ذلك الضحك يبعث فيهم روح التمرّد والتوحّش، إذ يخرجون من عباءة القبيلة وتقاليد القرية إلى سلطة المكان والمطلق، هناك حيث لا تحدّك الحدود، إذ تقف في الصمت بينك وبين نفسك، لا فاصل بينكما، وإذ تستمع لترددات الزمن وتحولاته، وترى ذلك جليا على السفوح والوديان».
طفولة وصبا وعنفوان شباب وجنون لا تتسعه له حياة الآدميين المستهلكة، ذات تنظر إلى البعيد؛ والبعيد فقط، تتخلص من كل ما يثقل كاهلها منطلقة خلف النحل فوق السفوح والقمم والغيم، بعيدا عن المعنى المتناول للحياة والعلاقات البشرية.
أي حياة تلك التي يمنحها النحل اللامنتهي، الرؤى التي تستوي ومشاقّ الحياة بأكثر من معنى لا يتسنّى لهذه المقاربة منحها حقّ الاستحضار والعناية.
وأما تلك الأخرى فعلى الرغم من تنظيفها خارج عوالم الجوع البعيدة؛ فتشكل تمازج القمم المتفاوتة العلو؛ بين شيخ متعلم يربي ابنته على العلم والتراث الأدبيّ وبين متزعّم لمجموعة تقضي متنفسها في غياب عن الواقع بجلسات الشراب بعيدا وقريبا من مجتمع لأفراده مواقف مختلفة من فعلهم، لكنهم في الاقتراب من حاجة الذات إلى بعضها يشكلون ذلك النسيج القيمي للقرية الواحدة. فالصورة لا تخرج عن تعيين نظير للحياة بمادة البعيد والقمم المختلفة.
يبقى الحب والحاجة إلى الامتلاء مسار التجربة في كثير من جوانب العلاقات والتعايش من بعض ظلالها.
إنها عالم آخر يمثل واحدا من تلك المنطلقات التي شكلتْ المدن واختلافها وتطوّرها، فأبناء قرى الجبال والأودية نحْل يسرد جوع العسل أشكال حياة تبنى في المدينة.
محمود حمد شاعر عماني
فالطبيعة البشرية تركن في المتاح العام إلى استهلاك المكرر؛ تفرض سيرورة الحياة عليها دوائر مكررة تبدأ منذ ولادتها حتى الرحيل، والعلاقة بين مادة القوت والجسد هي شكل من أشكال الاستهلاك اليوميّ؛ اليومي المكرر داخل المنظومة الطبيعية. أما ما هو خارج هذه الدائرة فهو نحت من استمراء المشقّة والاستمتاع برؤية الحياة من الداخل الغريب الذي قد تسهم فيه مجموعة من العوامل الأسرية أو البيئية أو عوامل أخرى تعود إلى الوعي أو الرغبة في الخروج على المألوف. وفي الحقيقة تشكل حياة القرية أو المكان الجبليّ الطبع الأكثر هيمنة والذي ما يكون السمة الرئيسة مع اختلاف في المواقف ووجهات النظر.
«جوع العسل» في تجربة زهران القاسمي انتماء إلى عوالم نسجها الصراع بين المدنية والبساطة العظيمة التي لا يدرك شأوها إلا من يشبهون النحل في ارتياد المسافات بحثا عن أوجه مختلفة للحياة؛ تتغير بتغير مصادر الرحيق الذي يصنع منه النحل مادة الجوع هذه. ولنا أنْ نقرأ الكثير والكثير من صفحات حياة النحل وعلاقتها بالمحيط؛ مما يسمح للمدينة أن ترصد هذا التناغم والتحدي في الوقت ذاته، وما يمنحه العسل من استمرارية حياة تشكلها العلاقة بينه وبين الناس نحالين ومستهلكين، إضافة إلى كونه علامة فاعلة في الجانب المحسوس والملموس؛ ونعني بذلك (ثيمة العسل) في الظاهرة الجمالية ومتعة اللذة ومؤشر الصفاء والحلاوة. لكن قبل ذلك - وهو ما تقوم عليه التجربة - مملكة النحل التي تقدم نماذج التحدي للجبلي القرويّ، حتى وهو يربي النحل في صناديق منحله؛ يشعر بكل ما يمنحه الاستمرار والمتعة.
التجربة هذه انعكاسات خفية ذات مقاربات نفسية بين الشخوص والمعاني التي تتولّد من الطبيعة في متغيّراتها الصلبة والحيّة؛ مادة الجبال والوعورة وأشكال المخلوقات ورخاوتها.
الأولى تفرض سيارتها على السفلي المغامر الراغب في تحدي سفوحها ومنحدراتها؛ أخرى ما تخفيه؛ فالأفق اتساع النظر ورؤية ما وراء المشاهد كما تراه البنفسجة الطموح بين الزهور عند جبران. والثانية المفردات المؤثرة في محيط المتطلّع إلى ما هو خارج المحسوس والعاقل، هذه المخلوقات بكل أشكالها غير الإنساني منها علامة فارقة تُدرك بمدّ العلاقة بها خارج المستهلك.
ثمة مسافة لا تسلّم نفسها للمطلق بسهولة؛ لأنها الأعالي والقمم والسماء والبعيد والنحل المهاجر في رواية «جوع العسل». مسافة ليست بين نقطتين واضحتين، بل من منطلقين غامضين؛ الذات في إصرارها على كسر اليوميّ والتحدي الذي لا تعلم منه سوى المسير والانطلاق إلى الهدف، والبعيد المنطلق الآخر، ليس مرسوما بأكثر من أفق جبلي وقمم حادّة ذات سفوح وعرة؛ تدفع إليها نحلة تحوم حول مكان يمتزج بتفاصيله «عسّال» عنيد لا يقبل بغير مادة الحياة وجائزة المغامرة التي لا تنتهي؛ عسل في قربة، يشير إلى الحياة والحب والاشتياق إلى غائب بعيد.
هذا البعيد لا ترسم ملامحه مؤشرات مادية فقط؛ فهذه مجرد وصلات تبني الطريق في التجربة، ما يرسم ملامح البعيد صامت ينطق بلغة الداخل المكابر بعيدا عن تفاصيل الجزء اليومي المشترك مع الناس، وما يقال أمامهم هو الخطاب الناقل لضرورات التواصل، بينما ما تشير إليه الذات فهو مجهولها في عوالم النحل والمحلقين خلفه بإصراره وذكائه.
تتشكل المسافة بعدا وفقدا بعوالم الذات الداخلية، تترك التجربة مؤشرات المكان في المتسع الضيق الذي يراه الآخر ويضيق عن فهمه، الحب والفقد والاشتياق إلى البعيد بأكثر من معنى.
يقول الكاتب: «صوت تعويبة يصدح في القمم، صوت امرأة تناجي الأعالي، صوتها يخترق الحجب ليصل إليه، بينما كانت تغني الفقد العظيم».
هذه المسافات انعكاس الجوع الذي جعلته التجربة محور الحياة ومنطلق أشكالها في القرية؛ القرية الخلية والخلية العوالم والعوالم ذوات الرواية شخوصا يشكلها الكاتب بانعكاسات الجوع والمسافة.
تعددت صور الفقد في الطفولة والصبا والكهولة، في العشق والحب والضياع، في العودة والحنين والمقاومة. النحل ثيمة التشكيل القيمي والإنساني في دائرة بين مدينة غريبة وقرية قريبة، استعار الكاتب بعض جهاتها وأسمنتها وشوارعها ليبني صراعا غائبا بعيدا عن سلطة منظومة ترسم خريطة حادة الحدود؛ فالسلطة للذوات والقيميّ والمعرّف بالمنقول والمتوارث مادة وشخوصا وانتقالا، وفي ثنايا ذلك «مَن هو الإنسان في هذا المحدود؟»؛ ملموس الجسد والطين والرغبة، ومحسوس الموقف والاختيار.
بنيت التجربة على تعدد الرؤى والمواقف التي بنت شخصياتها، وقد شكلها الكاتب أثناء السرد بتفاصيل ميّزت الدور الذي قامت به في توجيه الحدث، اختلف هذا التشكيل بين تتبع المراحل وبين تعيين للموقف، كما اختلف بين التأثير الجمعي والتأثير الفردي؛ شخوص رئيسة تنمو بردّات فعل تجاه المحيط لتكبر متماهية في تقدّم الرواية، وأخرى تؤثر في ظهور إضافي أو ظهور بنائي، لكن الرواية موقد يقوم ثلاث أثافي هي القمم في متناول الشخصيات الأكثر تأثيرا في البناء، شكلها الكاتب من انعكاس المختلف على الذوات، والفرق الواضح ليس بالتميّز الذي قد يخلق تداخلا شائكا مع شخصيات أخرى؛ لكنه من اشتغال الكاتب على صنع مزيج متّصل ومنفصل بين الشخصيات من خلال علاقتها ببعضها أو من خلال تاريخ حياتها الممتد إلى ما قبل حاضرها بعيدا عن تكهنات هذه العلاقة في الماضي.
من هي هذه الشخصيات التي ترصد الحياة من عيون النحل وغريزة مخلوقات السهل والجبل البعيدين.
يقول: «إن ذلك الضحك يبعث فيهم روح التمرّد والتوحّش، إذ يخرجون من عباءة القبيلة وتقاليد القرية إلى سلطة المكان والمطلق، هناك حيث لا تحدّك الحدود، إذ تقف في الصمت بينك وبين نفسك، لا فاصل بينكما، وإذ تستمع لترددات الزمن وتحولاته، وترى ذلك جليا على السفوح والوديان».
طفولة وصبا وعنفوان شباب وجنون لا تتسعه له حياة الآدميين المستهلكة، ذات تنظر إلى البعيد؛ والبعيد فقط، تتخلص من كل ما يثقل كاهلها منطلقة خلف النحل فوق السفوح والقمم والغيم، بعيدا عن المعنى المتناول للحياة والعلاقات البشرية.
أي حياة تلك التي يمنحها النحل اللامنتهي، الرؤى التي تستوي ومشاقّ الحياة بأكثر من معنى لا يتسنّى لهذه المقاربة منحها حقّ الاستحضار والعناية.
وأما تلك الأخرى فعلى الرغم من تنظيفها خارج عوالم الجوع البعيدة؛ فتشكل تمازج القمم المتفاوتة العلو؛ بين شيخ متعلم يربي ابنته على العلم والتراث الأدبيّ وبين متزعّم لمجموعة تقضي متنفسها في غياب عن الواقع بجلسات الشراب بعيدا وقريبا من مجتمع لأفراده مواقف مختلفة من فعلهم، لكنهم في الاقتراب من حاجة الذات إلى بعضها يشكلون ذلك النسيج القيمي للقرية الواحدة. فالصورة لا تخرج عن تعيين نظير للحياة بمادة البعيد والقمم المختلفة.
يبقى الحب والحاجة إلى الامتلاء مسار التجربة في كثير من جوانب العلاقات والتعايش من بعض ظلالها.
إنها عالم آخر يمثل واحدا من تلك المنطلقات التي شكلتْ المدن واختلافها وتطوّرها، فأبناء قرى الجبال والأودية نحْل يسرد جوع العسل أشكال حياة تبنى في المدينة.
محمود حمد شاعر عماني