الاقتصاد واللغة.. النقود والكلمات علاقة وثيقة من زمن الذهب إلى البيتكوين!
الأربعاء / 23 / شوال / 1443 هـ - 18:05 - الأربعاء 25 مايو 2022 18:05
بدأت التفكير في العلاقة بين الاقتصاد والثقافة فتذكرت كتابا قرأته منذ فترة حول علاقة النقود باللغة، حاولت استدعاء فكرته العامة في محاولة لتطبيقها على ما يثار اليوم حول العامية والفصحى، وكيف يمكن تأمل قيمة الكلمة في أصلها الفصيح ودلالاتها مقابل الكلمة في منطوقها الشفهي المستخدم في العامية. سألت نفسي ما هو تأثير ذلك على دقة الفكرة المعبر عنها وقيمتها بناء على الكلمة المستخدمة مقارنة بالعملة النقدية حين يتم تشبيهها بالكلمة باعتبارها معيار القيمة لمكونات الفكرة؟
لم أجد نسخة الكتاب الورقية في مكتبتي، وفي محاولات عشوائية للبحث عن الكتاب على الإنترنت، تبين لي حجم الفقر الفكري والمعلوماتي والبحثي في مكتباتنا العربية. وتبين لي بالتالي أن ثمة علاقة واضحة ساطعة تربط بين الاقتصاد ومدى تطوره مع مدى تطور الوضع الثقافي لمجتمع ما.
فبشكل عام أتابع أو أقرأ رسائل ماجستير عربية، مما أهتم بمتابعته في موضوعات تتعلق بدراسات تاريخية ثقافية، وكثيرا ما تلفت انتباهي الإشارات المتكررة، التي أجدها مدونة كملاحظة لدى أغلب الباحثين، إلى «قلة عدد المراجع المتاحة في الموضوع»، أكان الموضوع عن النقد أو دراسة عن جانب من تاريخ الأندلس، أو شخصية تاريخية أو غير ذلك. وهو مؤشر لافت ودال على مستوى البحث الأكاديمي العربي والثقافي بشكل خاص، يشير فيما يشير إلى قلة الأبحاث والدراسات الأكاديمية المتاحة على النطاق البحثي العربي بشكل عام.
ولست أظن أن البحث في مجال الاقتصاد وعلاقته بالثقافة سيكون استثناء عن قاعدة ندرة الدراسات العربية، للأسف! فلعل البحث عن مادة حول هذه العلاقة ستكشف فقرا كبير في أدبياتنا مقارنة بمكتبات ضخمة تتكون من مؤلفات الفكر الغربي حول الجوانب المختلفة لموضوع كهذا؛ بداية من تحليل الأثر الاجتماعي الأدبي لتطور الاقتصاد، ودور العولمة في التأثير على المنتج الفني والأدبي العالمي، مرورا بتحليل علاقة النقود باللغة، وبحث تناول الأدب للتطور الاقتصادي في المجتمع، وتحليل الاقتصاد والسياسة على المجتمع من خلال القراءات الأدبية وغيرها. وهو ما يجعلنا ندور في حلقة مفرغة من التكرارات البلاغية من دون أفكار جديدة، بينما الغرب يجد متسعا في فتح أفق جديد كل يوم لابتكار أفكار جديدة، يمكنه بها ملاحقة التطورات الفكرية من جهة وربطها بالمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في الغرب.
الحداثة رأس مال الثقافة
قبل عدة سنوات اهتممت بمتابعة أفكار باحث ومفكر أمريكي مهم هو «ديفيد هارفي» في تأمله لانعكاسات مفاهيم ما بعد الحداثة على الفكر والأدب والنقد الغربي، وهو ما تطلب منه العودة لتأصيل بدايات مفاهيم الحداثة وعلاقتها بتشكل القيم الرأسمالية في المجتمعات الغربية وفي الولايات المتحدة. وقد أتيح لي الاطلاع على كتاب له صدرت ترجمته العربية بعنوان «حالة ما بعد الحداثة» عن مركز دراسات الوحدة العربية. وهو من الكتب المهمة في ربط تطور الثقافة بالتغيرات الاقتصادية في العالم. ومن ترجمة محمد شيا.
هذا الكتاب يقدم تأريخا وتحليلا لمفهوم ما بعد الحداثة، ولأجل ذلك كان عليه بداية أن يؤرخ لفكرة الحداثة نفسها والظروف التي أدت إليها، والسياقات التي فرضت مفاهيم الحداثة وظهورها من ثم في العمارة والفنون والمنتج الثقافي، مع توضيح علاقة هذا بالظروف الاقتصادية للمجتمعات الغربية التي أنتجت الفكرة الحداثية.
كان بين ما يوضحه ديفيد هارفي أن تسليع السوق وفتحه تجاريا أمام المنتجات الثقافية خلال القرن التاسع عشر (على وقع زوال فكرة الأبوة الأرستقراطية من الدولة والمؤسسات) ألزم المنتجين الثقافيين بدخول شكل من تنافس السوق عزز بدوره عملية التدمير الخلاق داخل الحقل الجمالي بالذات. هذا يعكس بدقة السقف السياسي الاقتصادي الآخذ بالتشكل أو الذي يدفع إليه أحيانا. كان الفنان، كل فنان يرغب في تغيير قواعد الذوق الجمالي في الاتجاه الذي يخدم مبيعات لوحاته. لم يكن ذلك ممكنا، كذلك، لولا تشكل طبقة من مستهلكي الثقافة. فهو يوضح كيف أن الحداثة خلقت مفاهيم لتسليع الثقافة وربطها بالمنظومة الرأسمالية التي خلقت سوقا لكل شيء بما فيه الثقافة والفنون.
عصر الإنتاج الميكانيكي
يتأمل هارفي، في رحلته الشيقة، الكيفية التي أدى بها التطور الاقتصادي إلى ثورات عصر الميكانيكا الآلي، أي العصر الذي أحدث ثورة في آلات الطباعة وأسفر عن ظهور مواد مصورة وكتب مصورة، ثم ظهور الراديو والتلفزيون وتأثيرهما على المنتج الثقافي من حيث النوع والحجم معا.
وطبعا يمكننا إن نضيف اليوم إلى ما طرحه هارفي وسائط جديدة بشروط جديدة، لكنها تخص عالم ما بعد الحداثة، وهي وسائط مثل اليوتيوب والتطبيقات التي تستخدم اليوم لاستهلاك خدمات ثقافية وفنية مثل الأغنيات والموسيقى، أو مقاطع الفيديوهات، أو تطبيقات مشاهدة الأفلام، وغيرها.
كانت إعادة تصفح كتاب هارفي وسيلة لتأمل كيفية خلق الحداثة لـ «سوق المنتج الثقافي» الغربي، لكن ما أشعر بالرغبة في تأمله فعلا هو الكيفية التي تتأثر بها اللغة الأدبية بتأثير من عوامل اجتماعية أساسها اقتصادي يقول:
وهو لديه إشارة لهذا الشأن في جزء من الكتاب يذكر فيه ما يلي: «لقد لجأ أحد أجنحة الحداثية إلى شكل من العقلانية المتجسد في الآلة، في المصنع، في قوة التكنولوجيا المعاصرة أو في المدينة باعتبارها آلية حية، وقد تقدم عزرا باوند بفرضية تقول: إن اللغة يجب أن تستجيب لفاعلية الآلة، وكما يلاحظ تيشي فقد عدل كتاب حداثيون متنوعو المشارب أمثال دوس بوسوس، وهيمنغواي، ووليام كارلوس وليامس، من أشكال كتاباتهم للتوافق مع الفرضية تلك. وعبر ويليامس تحديدا عن فكرة أن القصيدة ليست أكثر أو أقل من «آلة صنعت من كلمات». وغدت الفرضية عينها موضوع دييغو ريفيرا (الفنان المكسيكي الرائد وأيقونة فن الجداريات) الذي جسدها بقوة في عمله الاستثنائي «جدارية ديترويت»؛ التي تحولت إلى حافز للعديد من رسامي الجداريات التقدميين في خلال حقبة الركود.
«عولمة الثقافة العربية»
والعالم العربي لم يكن بعيدا عن هذا كله، ليس باعتباره مشاركا في الحداثة، فأغلب الدول العربية كانت لا تزال تحت سيطرة القوى الاستعمارية، لكن هذا تحديدا له علاقة بالارتباط الذي حدث بين الاقتصاد والثقافة في العالم العربي، باعتبار الحداثة مشروعا مستوردا من الغرب الاستعماري.
«كان الإيمان بالتقدم الخطي، والحقائق المطلقة، والتخطيط العقلاني لنظم اجتماعية مثالية في ظل شرطي المعرفة والإنتاج لا يزال قويا، والحداثة التي تحققت كانت في النتيجة وضعية، وتكنوقراطية، وعقلانية، في حين أنها كانت تحسب على خانة نخب طليعية من المصممين والفنانين والمعماريين والنقاد وآخرين من حراس الذوق الرفيع. كان «تحديث» الاقتصادات الأوربية يتقدم بسرعة بينما السياسات والتجارة العالمية تجد تبريرها تحت حجة جلب الازدهار وإجراءات التحديث إلى عالم ثالث يقبع في الظل».
ولعل ما لم يقل هنا بالوضوح الكافي أن الغرب في محاولته لفتح أسواق جديدة لمنتجه الثقافي الناتج عن رأسمال ضخم أراد أن يقدم للعالم الثالث منتج الغرب باعتباره النموذج الأمثل الذي يجب تعلم اللغات التي ينتج بها، وصناعة أفلام تشبه ما ينتجه، وفتح دور السينما لعرض أفلامه، وترجمة ما ينتج عنه، وكل ما نراه اليوم في واقعنا العربي من مظاهر التغريب التي هي في جوهرها «جلب الازدهار وإجراءات التحديث».
أما الطريقة التي تم بها صياغة حقبة الرأسمالية العالمية فيشير إليها بقوله:
مركزة الثقافة الغربية
إن إزاحة الجانب السياسي من الحداثة إنما طرأت مع صعود التعبيرية المجردة، وفي جو المؤسسة الثقافية والسياسية، وباعتباره سلاحا إيديولوجيا أثناء الحرب الباردة. وكما يكتب غوتليب وورثكو أنه «وبعدما انتزعت أمريكا الاعتراف باعتبارها المركز الذي يجب أن يلتقي فيه الفن والفنانون من مختلف أنحاء العالم، فقد آن الأوان لتقبلنا القيم الثقافية وبمعايير عالمية» وهكذا جرت صياغة خرافة كانت في الواقع مأساوية وخارج حدود الزمن.
وحتى يتميز الإنجاز الأمريكي من حداثوية أمكنة أخرى (باريس) خصوصا، كان لا بد من صعود جمالية جديدة عملية بمواد خام أمريكية بامتياز يجب أن يتحول إلى ماهية للثقافة الغربية وهو ما حدث مع التعبيرية المجردة، ومعها الليبرالية والكوكاكولا والشيفروليه ومنازل الضواحي المفتوحة على الاستهلاك الكثيف.
وهو ما تم الثورة عليه في ربيع 1968 في أمريكا وأغلب أوروبا وصولا لطوكيو والمكسيك.
سك العملة وسك الكلمة!
كنت أتمنى أن أجد في حقل الدراسات العربية، ولعل هناك من يرشدنا إلى ذلك إن وجد، دراسات تتتبع التأثيرات الاقتصادية في الغرب وأثرها على الثقافة والفن عربيا، من جهة، ودراسة الوضع الاقتصادي العربي وأثره على الثقافة. فمن مثل هذه الدراسات يمكن تتبع خيوط لأفكار مبتكرة من مثل ما قدمه فلوريان كولماس مثلا في كتابه «اللغة والاقتصاد» الذي ترجمه أحمد عوض ونشر في سلسلة عالم المعرفة قبل عدة سنوات. وهذا هو الكتاب الذي أشرت إليه سابقا.
يقول كولماس إن الكلمات تُسك كما تسك العملات، وتظل متداولة ما دامت سارية المفعول. فهي، أي الكلمات، عملة التفكير ونحن نمتلك منها أرصدة سائلة، بقدر ما نمتلك ناصية لغة معينة. وعندما نتفاهم مع أحد فإننا نتفق على ثمن يجب دفعه، وعندما لا نكون مخلصين فإننا لا ندفع إلا كلاما زائفا. وعندما نصف اللغة والنقود معا بأنهما رصيدان، فإنما لنلفت النظر إلى دوريهما في تحقق الفرد. فهما قدرة كامنة تجعل تحقيق الفردية ممكنا عن طريق توسيع نطاق الفعل عند من يمتلكونها، وبالتالي تعيينهم على التكيف مع المجتمع.
وبالطبع فإن ما يشير إليه صاحب اللغة والثقافة يجعلنا نفكر في قيمة الكلمات من حيث كونها مضمونا فكريا عميقا، وبين كونها مجرد ثرثرة أو لغو أو تفاهة بلا قيمة.
فكثيرا ما نظر إلى تشابه النقود واللغة المعبر عنه بالترميز في اللغة ذاتها باعتباره مجرد زخرفة أسلوبية، وهو يشير لذلك بقوله إنه في بدايات القرن السابع عشر على سبيل المثال استعمله ستيفانو جواتسو في تعاليمه البلاغية للإشارة إلى أننا يجب أن نفصل في كلام عامة الناس بين الكلام القيم والمقيد والكلام التافه عديم القيمة:
«التعبيرات والكلمات الأخرى ذات القيمة العظمى وذات القيمة الدنيا تخرج من فم المتكلم تماما مثلما تصدر من الخزانة الذهبية والفضية والنحاسية».
على أن تشبيه الكلمة بالعملة له أيضا تقليد ممتد زمنيا باعتباره دليلا على الارتباط الأصيل بينهما. فجون لوك في كتابه «مقال في التفاهم الإنساني» يصف الكلمات باعتبارها القاسم المشترك للتجارة والاتصال، وهو قاسم لا يمثل ملكية خاصة لأي إنسان كما أن النهج الذي تسير عليه الكلمات لا يخضع تغيره لمشيئة أي شخص. ومن دون تفعيل لهذه النقطة يصف لوك ماهية اللغة بأوصاف يمكنها أن تنطبق على ماهية النقود بدرجة لا تقل إقناعا.
يتناول الكاتب إشارات مثيلة فيشير أنه في الفترة نفسها تقريبا ظهر في كتابات ليبنز Libniz مجاز التبادل الذي يربط بين النقود واللغة ففي مقال له بعنوان حول استخدام اللغة الألمانية وتحسينها يشبه ليبنتز العمليات الحسابية بالعمليات الذهنية التي تعتمد على اللغة وتفيد منها. فاللغة عند ليبنتز عبارة عن مرآة للعقل بمعني أن اللغة عظيمة الرقي تعكس الإنجازات الفكرية لمتكلميها وتعززها.
وثمة إشارة أيضا إلى الفيلسوف الألماني يوهان جورج هامان الذي عاصر المفكر الاقتصادي آدم سميث يرى أن العلاقة بين النقود واللغة قوية، إذ أنهما مرتبطان أحدهما بالآخر بشكل اقوى مما هو متصور، ونظرية أحدهما تفسر نظرية الآخر، ويبدو أنهما يقومان على أسس مشتركة فثروة المعرفة الإنسانية كلها تقوم على تبادل الكلمات، ومن ناحية أخرى فإن كل كنوز الحياة المدنية والاجتماعية مرتبطة بالنقود بوصفها معيارها العام.
لكن هذا التشبيه لم يكن مقبولا على طول الخط، فماركس مثلا لم يقبل هذه العلاقة، انطلاقا من أن اللغة ليست مجرد أداة لجعل الأفكار قابلة للتداول أو الانتقال بين البشر بل هي التجسيد المادي للأفكار والصورة الوحيدة لوجودها في واقع الأمر.
أما الملاحظة الأخيرة التي نبهتني إليها أفكار هذا الباحث فتتعلق بالعملة الافتراضية والوسائط الفنية الافتراضية، فمع الانهيار الضخم الذي تعرض له البيتكوين خلال الأسبوع الماضي، يتأمل المرء أحيانا الأمر كما لو أن بعض الوسائط الافتراضية الفنية أو الأدبية قد يبدو وجودها مخاتلا لأنه مرتبط بوسيط يعتمد على شاشات إلكترونية وعلى طاقة كهربية لو تعطلت لأي سبب تصبح هذه الوسائط مثل العدم، كما لو أنها فقاعات ثقافية أو فنية. وهو موضوع يحتاج مقالا موسعا وربما دراسات أيضا.
إبراهيم فرغلي كاتب وروائي مصري
لم أجد نسخة الكتاب الورقية في مكتبتي، وفي محاولات عشوائية للبحث عن الكتاب على الإنترنت، تبين لي حجم الفقر الفكري والمعلوماتي والبحثي في مكتباتنا العربية. وتبين لي بالتالي أن ثمة علاقة واضحة ساطعة تربط بين الاقتصاد ومدى تطوره مع مدى تطور الوضع الثقافي لمجتمع ما.
فبشكل عام أتابع أو أقرأ رسائل ماجستير عربية، مما أهتم بمتابعته في موضوعات تتعلق بدراسات تاريخية ثقافية، وكثيرا ما تلفت انتباهي الإشارات المتكررة، التي أجدها مدونة كملاحظة لدى أغلب الباحثين، إلى «قلة عدد المراجع المتاحة في الموضوع»، أكان الموضوع عن النقد أو دراسة عن جانب من تاريخ الأندلس، أو شخصية تاريخية أو غير ذلك. وهو مؤشر لافت ودال على مستوى البحث الأكاديمي العربي والثقافي بشكل خاص، يشير فيما يشير إلى قلة الأبحاث والدراسات الأكاديمية المتاحة على النطاق البحثي العربي بشكل عام.
ولست أظن أن البحث في مجال الاقتصاد وعلاقته بالثقافة سيكون استثناء عن قاعدة ندرة الدراسات العربية، للأسف! فلعل البحث عن مادة حول هذه العلاقة ستكشف فقرا كبير في أدبياتنا مقارنة بمكتبات ضخمة تتكون من مؤلفات الفكر الغربي حول الجوانب المختلفة لموضوع كهذا؛ بداية من تحليل الأثر الاجتماعي الأدبي لتطور الاقتصاد، ودور العولمة في التأثير على المنتج الفني والأدبي العالمي، مرورا بتحليل علاقة النقود باللغة، وبحث تناول الأدب للتطور الاقتصادي في المجتمع، وتحليل الاقتصاد والسياسة على المجتمع من خلال القراءات الأدبية وغيرها. وهو ما يجعلنا ندور في حلقة مفرغة من التكرارات البلاغية من دون أفكار جديدة، بينما الغرب يجد متسعا في فتح أفق جديد كل يوم لابتكار أفكار جديدة، يمكنه بها ملاحقة التطورات الفكرية من جهة وربطها بالمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في الغرب.
الحداثة رأس مال الثقافة
قبل عدة سنوات اهتممت بمتابعة أفكار باحث ومفكر أمريكي مهم هو «ديفيد هارفي» في تأمله لانعكاسات مفاهيم ما بعد الحداثة على الفكر والأدب والنقد الغربي، وهو ما تطلب منه العودة لتأصيل بدايات مفاهيم الحداثة وعلاقتها بتشكل القيم الرأسمالية في المجتمعات الغربية وفي الولايات المتحدة. وقد أتيح لي الاطلاع على كتاب له صدرت ترجمته العربية بعنوان «حالة ما بعد الحداثة» عن مركز دراسات الوحدة العربية. وهو من الكتب المهمة في ربط تطور الثقافة بالتغيرات الاقتصادية في العالم. ومن ترجمة محمد شيا.
هذا الكتاب يقدم تأريخا وتحليلا لمفهوم ما بعد الحداثة، ولأجل ذلك كان عليه بداية أن يؤرخ لفكرة الحداثة نفسها والظروف التي أدت إليها، والسياقات التي فرضت مفاهيم الحداثة وظهورها من ثم في العمارة والفنون والمنتج الثقافي، مع توضيح علاقة هذا بالظروف الاقتصادية للمجتمعات الغربية التي أنتجت الفكرة الحداثية.
كان بين ما يوضحه ديفيد هارفي أن تسليع السوق وفتحه تجاريا أمام المنتجات الثقافية خلال القرن التاسع عشر (على وقع زوال فكرة الأبوة الأرستقراطية من الدولة والمؤسسات) ألزم المنتجين الثقافيين بدخول شكل من تنافس السوق عزز بدوره عملية التدمير الخلاق داخل الحقل الجمالي بالذات. هذا يعكس بدقة السقف السياسي الاقتصادي الآخذ بالتشكل أو الذي يدفع إليه أحيانا. كان الفنان، كل فنان يرغب في تغيير قواعد الذوق الجمالي في الاتجاه الذي يخدم مبيعات لوحاته. لم يكن ذلك ممكنا، كذلك، لولا تشكل طبقة من مستهلكي الثقافة. فهو يوضح كيف أن الحداثة خلقت مفاهيم لتسليع الثقافة وربطها بالمنظومة الرأسمالية التي خلقت سوقا لكل شيء بما فيه الثقافة والفنون.
عصر الإنتاج الميكانيكي
يتأمل هارفي، في رحلته الشيقة، الكيفية التي أدى بها التطور الاقتصادي إلى ثورات عصر الميكانيكا الآلي، أي العصر الذي أحدث ثورة في آلات الطباعة وأسفر عن ظهور مواد مصورة وكتب مصورة، ثم ظهور الراديو والتلفزيون وتأثيرهما على المنتج الثقافي من حيث النوع والحجم معا.
وطبعا يمكننا إن نضيف اليوم إلى ما طرحه هارفي وسائط جديدة بشروط جديدة، لكنها تخص عالم ما بعد الحداثة، وهي وسائط مثل اليوتيوب والتطبيقات التي تستخدم اليوم لاستهلاك خدمات ثقافية وفنية مثل الأغنيات والموسيقى، أو مقاطع الفيديوهات، أو تطبيقات مشاهدة الأفلام، وغيرها.
كانت إعادة تصفح كتاب هارفي وسيلة لتأمل كيفية خلق الحداثة لـ «سوق المنتج الثقافي» الغربي، لكن ما أشعر بالرغبة في تأمله فعلا هو الكيفية التي تتأثر بها اللغة الأدبية بتأثير من عوامل اجتماعية أساسها اقتصادي يقول:
وهو لديه إشارة لهذا الشأن في جزء من الكتاب يذكر فيه ما يلي: «لقد لجأ أحد أجنحة الحداثية إلى شكل من العقلانية المتجسد في الآلة، في المصنع، في قوة التكنولوجيا المعاصرة أو في المدينة باعتبارها آلية حية، وقد تقدم عزرا باوند بفرضية تقول: إن اللغة يجب أن تستجيب لفاعلية الآلة، وكما يلاحظ تيشي فقد عدل كتاب حداثيون متنوعو المشارب أمثال دوس بوسوس، وهيمنغواي، ووليام كارلوس وليامس، من أشكال كتاباتهم للتوافق مع الفرضية تلك. وعبر ويليامس تحديدا عن فكرة أن القصيدة ليست أكثر أو أقل من «آلة صنعت من كلمات». وغدت الفرضية عينها موضوع دييغو ريفيرا (الفنان المكسيكي الرائد وأيقونة فن الجداريات) الذي جسدها بقوة في عمله الاستثنائي «جدارية ديترويت»؛ التي تحولت إلى حافز للعديد من رسامي الجداريات التقدميين في خلال حقبة الركود.
«عولمة الثقافة العربية»
والعالم العربي لم يكن بعيدا عن هذا كله، ليس باعتباره مشاركا في الحداثة، فأغلب الدول العربية كانت لا تزال تحت سيطرة القوى الاستعمارية، لكن هذا تحديدا له علاقة بالارتباط الذي حدث بين الاقتصاد والثقافة في العالم العربي، باعتبار الحداثة مشروعا مستوردا من الغرب الاستعماري.
«كان الإيمان بالتقدم الخطي، والحقائق المطلقة، والتخطيط العقلاني لنظم اجتماعية مثالية في ظل شرطي المعرفة والإنتاج لا يزال قويا، والحداثة التي تحققت كانت في النتيجة وضعية، وتكنوقراطية، وعقلانية، في حين أنها كانت تحسب على خانة نخب طليعية من المصممين والفنانين والمعماريين والنقاد وآخرين من حراس الذوق الرفيع. كان «تحديث» الاقتصادات الأوربية يتقدم بسرعة بينما السياسات والتجارة العالمية تجد تبريرها تحت حجة جلب الازدهار وإجراءات التحديث إلى عالم ثالث يقبع في الظل».
ولعل ما لم يقل هنا بالوضوح الكافي أن الغرب في محاولته لفتح أسواق جديدة لمنتجه الثقافي الناتج عن رأسمال ضخم أراد أن يقدم للعالم الثالث منتج الغرب باعتباره النموذج الأمثل الذي يجب تعلم اللغات التي ينتج بها، وصناعة أفلام تشبه ما ينتجه، وفتح دور السينما لعرض أفلامه، وترجمة ما ينتج عنه، وكل ما نراه اليوم في واقعنا العربي من مظاهر التغريب التي هي في جوهرها «جلب الازدهار وإجراءات التحديث».
أما الطريقة التي تم بها صياغة حقبة الرأسمالية العالمية فيشير إليها بقوله:
مركزة الثقافة الغربية
إن إزاحة الجانب السياسي من الحداثة إنما طرأت مع صعود التعبيرية المجردة، وفي جو المؤسسة الثقافية والسياسية، وباعتباره سلاحا إيديولوجيا أثناء الحرب الباردة. وكما يكتب غوتليب وورثكو أنه «وبعدما انتزعت أمريكا الاعتراف باعتبارها المركز الذي يجب أن يلتقي فيه الفن والفنانون من مختلف أنحاء العالم، فقد آن الأوان لتقبلنا القيم الثقافية وبمعايير عالمية» وهكذا جرت صياغة خرافة كانت في الواقع مأساوية وخارج حدود الزمن.
وحتى يتميز الإنجاز الأمريكي من حداثوية أمكنة أخرى (باريس) خصوصا، كان لا بد من صعود جمالية جديدة عملية بمواد خام أمريكية بامتياز يجب أن يتحول إلى ماهية للثقافة الغربية وهو ما حدث مع التعبيرية المجردة، ومعها الليبرالية والكوكاكولا والشيفروليه ومنازل الضواحي المفتوحة على الاستهلاك الكثيف.
وهو ما تم الثورة عليه في ربيع 1968 في أمريكا وأغلب أوروبا وصولا لطوكيو والمكسيك.
سك العملة وسك الكلمة!
كنت أتمنى أن أجد في حقل الدراسات العربية، ولعل هناك من يرشدنا إلى ذلك إن وجد، دراسات تتتبع التأثيرات الاقتصادية في الغرب وأثرها على الثقافة والفن عربيا، من جهة، ودراسة الوضع الاقتصادي العربي وأثره على الثقافة. فمن مثل هذه الدراسات يمكن تتبع خيوط لأفكار مبتكرة من مثل ما قدمه فلوريان كولماس مثلا في كتابه «اللغة والاقتصاد» الذي ترجمه أحمد عوض ونشر في سلسلة عالم المعرفة قبل عدة سنوات. وهذا هو الكتاب الذي أشرت إليه سابقا.
يقول كولماس إن الكلمات تُسك كما تسك العملات، وتظل متداولة ما دامت سارية المفعول. فهي، أي الكلمات، عملة التفكير ونحن نمتلك منها أرصدة سائلة، بقدر ما نمتلك ناصية لغة معينة. وعندما نتفاهم مع أحد فإننا نتفق على ثمن يجب دفعه، وعندما لا نكون مخلصين فإننا لا ندفع إلا كلاما زائفا. وعندما نصف اللغة والنقود معا بأنهما رصيدان، فإنما لنلفت النظر إلى دوريهما في تحقق الفرد. فهما قدرة كامنة تجعل تحقيق الفردية ممكنا عن طريق توسيع نطاق الفعل عند من يمتلكونها، وبالتالي تعيينهم على التكيف مع المجتمع.
وبالطبع فإن ما يشير إليه صاحب اللغة والثقافة يجعلنا نفكر في قيمة الكلمات من حيث كونها مضمونا فكريا عميقا، وبين كونها مجرد ثرثرة أو لغو أو تفاهة بلا قيمة.
فكثيرا ما نظر إلى تشابه النقود واللغة المعبر عنه بالترميز في اللغة ذاتها باعتباره مجرد زخرفة أسلوبية، وهو يشير لذلك بقوله إنه في بدايات القرن السابع عشر على سبيل المثال استعمله ستيفانو جواتسو في تعاليمه البلاغية للإشارة إلى أننا يجب أن نفصل في كلام عامة الناس بين الكلام القيم والمقيد والكلام التافه عديم القيمة:
«التعبيرات والكلمات الأخرى ذات القيمة العظمى وذات القيمة الدنيا تخرج من فم المتكلم تماما مثلما تصدر من الخزانة الذهبية والفضية والنحاسية».
على أن تشبيه الكلمة بالعملة له أيضا تقليد ممتد زمنيا باعتباره دليلا على الارتباط الأصيل بينهما. فجون لوك في كتابه «مقال في التفاهم الإنساني» يصف الكلمات باعتبارها القاسم المشترك للتجارة والاتصال، وهو قاسم لا يمثل ملكية خاصة لأي إنسان كما أن النهج الذي تسير عليه الكلمات لا يخضع تغيره لمشيئة أي شخص. ومن دون تفعيل لهذه النقطة يصف لوك ماهية اللغة بأوصاف يمكنها أن تنطبق على ماهية النقود بدرجة لا تقل إقناعا.
يتناول الكاتب إشارات مثيلة فيشير أنه في الفترة نفسها تقريبا ظهر في كتابات ليبنز Libniz مجاز التبادل الذي يربط بين النقود واللغة ففي مقال له بعنوان حول استخدام اللغة الألمانية وتحسينها يشبه ليبنتز العمليات الحسابية بالعمليات الذهنية التي تعتمد على اللغة وتفيد منها. فاللغة عند ليبنتز عبارة عن مرآة للعقل بمعني أن اللغة عظيمة الرقي تعكس الإنجازات الفكرية لمتكلميها وتعززها.
وثمة إشارة أيضا إلى الفيلسوف الألماني يوهان جورج هامان الذي عاصر المفكر الاقتصادي آدم سميث يرى أن العلاقة بين النقود واللغة قوية، إذ أنهما مرتبطان أحدهما بالآخر بشكل اقوى مما هو متصور، ونظرية أحدهما تفسر نظرية الآخر، ويبدو أنهما يقومان على أسس مشتركة فثروة المعرفة الإنسانية كلها تقوم على تبادل الكلمات، ومن ناحية أخرى فإن كل كنوز الحياة المدنية والاجتماعية مرتبطة بالنقود بوصفها معيارها العام.
لكن هذا التشبيه لم يكن مقبولا على طول الخط، فماركس مثلا لم يقبل هذه العلاقة، انطلاقا من أن اللغة ليست مجرد أداة لجعل الأفكار قابلة للتداول أو الانتقال بين البشر بل هي التجسيد المادي للأفكار والصورة الوحيدة لوجودها في واقع الأمر.
أما الملاحظة الأخيرة التي نبهتني إليها أفكار هذا الباحث فتتعلق بالعملة الافتراضية والوسائط الفنية الافتراضية، فمع الانهيار الضخم الذي تعرض له البيتكوين خلال الأسبوع الماضي، يتأمل المرء أحيانا الأمر كما لو أن بعض الوسائط الافتراضية الفنية أو الأدبية قد يبدو وجودها مخاتلا لأنه مرتبط بوسيط يعتمد على شاشات إلكترونية وعلى طاقة كهربية لو تعطلت لأي سبب تصبح هذه الوسائط مثل العدم، كما لو أنها فقاعات ثقافية أو فنية. وهو موضوع يحتاج مقالا موسعا وربما دراسات أيضا.
إبراهيم فرغلي كاتب وروائي مصري