عمان الثقافي

من أجل فؤاد التكرلي

«1»

يحرص، كلَّ مرّةٍ يسافر فيها إلى بغداد، على السكن في أحد فنادق شارع السعدون وزيارة مكتبة التحرير القريبة من الساحة التي سُمّيت، المكتبةُ، باسمها، لا بدَّ من المكتبة والشارع مهما كان منشغلا ومهما كان وقت السفر قصيرا، وفي مرات قليلة نادرة حدث أن أقام بعيدا عن السعدون، في فنادق الرشيد أو الميدان متهاودة الأسعار، أو في الكاظمية على أبعد تقدير، لكنه ظل يترقب أية فرصة يتخفّف فيها من انشغاله ليتوجه من فوره إلى الشارع وزيارة المكتبة، وقد كانا، على الدوام، السبب الحقيقي وراء كلِّ سفر إلى بغداد، فسفره لا يكتمل ولا تتم متعته بغيرهما، كان يحدّث نفسه عابرا الشارع بخطوات واسعة حذرة، وما أن يضع قدمه على الرصيف حتى يتنفس بعمق كما لو أنه نجا من خطر مؤكد، قبل أن يتمشى ببطء وتعود إلى ذهنه صور الجِمال وهي تواصل سيرها الوئيد، والسيارات المحطمة، وعواصف التراب التي تسد منافذ الضوء وتغطي كلَّ شيء، يدفع خطواته مستمتعا بشعور السعادة الذي تمنحه إياه نسائم نهارات بغداد المنعشة، يمرُّ بواجهات المكتبات متوقفا عند كلٍّ منها، لكنه لا يدخل سوى مكتبة التحرير التي تتراءى له، من خلال الزجاج، راسخةً في عتمتها شبه مهجورة، وفي هذه اللحظة، قبل الدخول إلى المكتبة، عليه الاعتراف أنه لم يُحب الشارع ولا المكتبة إلا من أجل فؤاد التكرلي، فهو مَنْ زرع في نفسه محبتهما منذ قرأ روايته (المسرّات والأوجاع) أول مرّة، لم يكن التكرلي يتحدّث عن مسرّات الشارع ولا عن أوجاع المكتبة، ولم يتوقّف عند الباب الشرقي إلا أقل مما توقف عند أية منطقة أخرى من مناطق بغداد، لكنه يستعيد توفيق بطل الرواية، في كلِّ وقت، وهو يجدُّ في محاولاته اليائسة للمضي في طرق الحياة بمسرّاتها وأوجاعها، يتصوّره يصل بالباص إلى الباب الشرقي متعبا جائعا بعض الشيء، إلا أن شمس الساحة تجدّد نشاطه، فيدخل مكتبةً على جانب الساحة لم يشأ التكرلي أن يسمِّيها أو يحدّد موقعها، فتسعده، لحظةً، رائحةُ الكتب ومنظرُها مكدسة في كلِّ مكان، يدخل في خطى توفيق مدفوعا بالرغبة في رؤية التكرلي، ويُحسُّ بنفسه بعضا من تخيّله، يشبه توفيق الذي لم يكن غير خيال حائر من خيالاته، ويحدّث نفسه أن لا مكان للمؤلفين وأشباحهم سوى المكتبات مهما كانت مهجورةً معتمةً أو حافلةً مضيئةً، ومهما كانت كتبها حديثة أو قديمة، صحيح أن رؤية التكرلي مستحيلة وقد مات أواخر العقد الأول من الألفية الثالثة ودُفن في عمّان، بناءً على رغبته، يذكر جيدا مشهد تشييعه إلى مثواه في مقبرة سحاب، في جمع صغير من المودّعين وقد تناقلته الفضائيات، لكنه على الرغم من ذلك، يمنّي نفسه أن شيئا من حوادث الحياة غير المفهومة يمكن أن يحدث ويجعله يرى التكرلي وربما يحدّثه.

«٢»

اعتاد النظر إلى ساعته فور اكتمال عدد الركاب وتحرّك السيارة، والتأكيد مع نفسه أنه لن ينسى هذه المرّة، لكنه سريعا ما ينشغل بما يصادفه على جانبي الطريق وقد فضّل الجلوس في المقعد الأمامي كي لا يفوته شيء، كانت المشاهد المتتالية تأخذه من نفسه ومن الكتاب الذي خطط أن يكمل قراءته خلال الطريق، ولم تمر من جانبيه الكثير من المشاهد حتى لم يعد يتذكر الوقت الذي تحركت السيارة فيه على نحو دقيق، مساحات واسعة جرداء وأخرى ببقع خضراء متفرقة، تسير فيها أحيانا قطعان جمال غير عابئة بالسيارات التي تقطع الطريق بسرعة خاطفة، يحدث أحيانا أن يسهو أحد السواق ويفقد سيطرته فتنقلب سيارته على الفور في مشاهد مرعبة، وتتدحرج على الإسفلت قبل أن تستقر في الكتف الترابي على جانب الطريق، لكن الجمال تواصل سيرها الوئيد كأن شيئا لم يحدث، وكأن الأمر، إن رأته وأحسّت به، لا يستوجب التوقف أو الالتفات، ومثل هاجس بعيد يسمع، بينه وبين نفسه، صوتا نسائيا حادا ورفيعا، يثقله شعور بالأسى المرير والمفاجأة الثقيلة السوداء، كالريح يملأ الجزيرة مترامية الأطراف ويحلّق في سمائها حتى مشارق الشام، يعلو ناصعا مكتمل الوضوح لكنه سريعا ما يخبو ويتلاشى ولا يتبقى منه غير بريق السؤال:

ما للجمال مشيها وئيدا أجندلا يحملن أم حديدا؟

شغله الصوت وشتت انتباهه، ففكر بالجمال من جديد، وفي معنى أن يشبّه قطعانها بالزمن الذي لا يتوقف ولا يلتفت هو الآخر، إنه يسير أبدا لا يعبأ بشيء، قلّب الجملة في رأسه وقتا ليس بالقصير، وكانت السيارة قد تركت الجمال خلفها ولم يعد سيرها الوئيد غير فكرة حملها هاجس مبهم في اندفاع السيارة السريع، كان الصوت قد شغله أكثر من أي شيء آخر حتى لا يكاد يلمح، بين آونة وأخرى، بقايا السيارات المحطمة على جانبي الطريق وقد علاها الصدأ. في حوالي العاشرة والنصف صادفته لوحة تحذير متآكلة الحروف: منطقة كثبان وعواصف ترابية، وكما لو كانت السيارة تنزل نفقا ضيقا لا ضوء فيه، ابتلعت الطريق عاصفة ترابية وسدّت كلَّ منفذ للرؤية، ثم أخذت تزداد قوة وكثافة مع تقدم السيارة، ذراتها الترابية تضرب بدن الصفيح الأملس مثل رؤوس مسامير دقيقة، غمرت، مع ضرباتها، رائحة التراب دواخل السيارة وملأت أنفاسه، فكّر عندها بقطيع الجمال مرّة أخرى، لن تعني العواصف الترابية لها شيئا، وتخيلها تسير والعاصفة تدفعها من كل جانب، ثم أخذت العاصفة تخف شيئا فشيئا ويعود ضوء النهار ليملأ الفضاء، عبرت السيارة بساتين نخل واسعة الأرجاء، أنزل السائق الزجاجة الجانبية على يساره وأشعل سيجارة كان قد وضعها في فمه مع العاصفة الترابية، صوت الهواء البارد وهو يضرب السيارة بقوة وإصرار يأتيه من الزجاجة المفتوحة شبيها بانفجارات صغيرة تقطع عليه تفكيره ولا يعد يشغله غير ما يراه ويحسه، شغلته حركة السلسلة الفضية المتدلية من المرآة الداخلية، بسيفها الفضي الصغير ذي النهاية المشطورة وهو يضرب الزجاجة الأمامية ضربات خفيفة متوالية، الهواء يضرب السيارة من الخارج والسيف يضرب الزجاجة من الداخل، ضربات متواصلة، الهواء والسيف، السيف والهواء، ومع دخول السيارة بغداد أبطأت سرعتها وأسلمت نفسها للشوارع المتزاحمة، على يمينه رأى سيارة نقل بضائع وقد أجلس في حوضها الواسع جمل بعينين محمرتين متورمتي الأجفان، فكّر إنه ما إن يغمض أجفانه ويهدأ ألمه حتى يعاوده مشهد السيارات المقلوبة غير بعيد عنه، ويسمع ما أن يغفو قليلا صيحات ركابها تتوالى قبل أن يغمرهم السكون الأبدي، وهو يرى السيارات شبه المتوقفة في الشارع وقد انشغل ركابها بالالتفات نحوه والنظر إليه من خلف زجاج سياراتهم، حرّك فكّه الأسفل الكبير وأطلق رغاءً حادا سبقته حشرجة عالية.

«٣»

كان هواء المكتبة رطبا وكتبها قديمةً غيرَ مرتّبةٍ، صادفه بعضها خلال زياراته المتباعدة وقد عبثت بها السنوات، في كلِّ مرّةٍ يزورها يستغرق في تفحّص الكتب، ويستغرب للسعادة التي عاشها توفيق وهو يتابع الكتب على الرفوف ويقرأ عناوينها، يتذكّر أن كتبا أثارته بمواضيعها المختلفة فتوقف أمامها كما لو كان يفكّر بالعناوين، وأنه تناول كتابا عن تاريخ العالم بعد الحرب العالمية الأولى، ربما كان موضوعا على الرفِّ المترب أمامه الآن، قبل أن يعثر على رواية (موبي ديك) ويداخله شعور الفرح الغريب وهو يقلّب صفحاتها الرقيقة. يقطع صوت صاحب المكتبة أفكاره وهو يحذّره من السقوط في الفتحة السردابية وسط المكتبة التي لم يفلح لوح خشب مستطيل بتغطيتها على نحو كامل، وكان، في كلِّ مرّةٍ، يمرُّ محاذرا بجانب الحفرة لكنه سمع صوتا غريبا لم يسمعه من قبل، يردّد هامسا أنه مهما حاول، سيقع فيها هذه المرّة، وقد غطى همسه على صوت صاحب المكتبة وبدّد تحذيره في الأجواء الرطبة بروائحها الكدرة، وكما هو متوقع زلّت قدمه على الفور وتهاوى داخل الحفرة التي بدت له عميقةً ومظلمةً أكثر مما كان يتصوّر، سمع حركة صاحب المكتبة المرتبكة وأتاه صوته متقطّعا وغير مفهوم شبيها برغاء الجمل، قبل أن تصل يده إلى زر مصباح الحفرة وتضاء عتمتها، فيرى صاحبنا على الفور رجلين يجلسان متقابلين على كرسيين خشبيين وقد خفضا رأسيهما وراحا يحدّقان برقعة شطرنج بكامل أحجارها، على طاولة حديد صغيرة رفيعة الأرجل بينهما. عرف الرجل مقابله على الفور بوجهه الحليق وصلعته الظاهرة وخط شاربه المشذّب الدقيق، إنه فؤاد التكرلي بأناقته المميزة، حتى في الحفرة لم يتخل عن أناقته وحتى في لعبه لم يغادره وقاره، قال لنفسه، وكان التكرلي منشغلا بملاعبة رجل يشبهه فهمس صاحبنا «التكرلي يلاعب التكرلي»، ولأمر ما فكّر أن أحد الرجلين المنشغلين بلعب الشطرنج هو الموت ولا شيء سواه وقد تلبّس هيئة التكرلي نفسه، صار شبيهه حتى ليصعب التفريق بينهما.. منذ زمن بعيد، قبل أن يعرف التكرلي ويُنصت لهواجس أشباحه التي تأكل الغربة والخوف أرواحها، وقبل أن يقرأ (المسرّات والأوجاع)، التمعت في ذهنه فكرة أن أحدنا حين يموت لا يرى أمامه، في صمت الموت ووحشته، سوى نفسه.

لؤي حمزة عبّاس كاتب وقاص عراقي