عمان الثقافي

الفلسفة والترجمة

ما العلاقة بين الترجمة والفلسفة؟ هل يُترجَم النصّ ليغدو فيما بعد موضع إعمال فكر، أم أنه يكون في الوقت ذاته موضع الممارستين معًا؟ هل تؤسِّس إحدى هاتين الممارستين الأخرى وتمهّد لها، أم أنها تُواقتها؟ نستطيع أن نُجمل الأجوبة عن هذا السؤال في موقفين أساسين:

الموقف الأول ينظر إلى ترجمة النصوص الفلسفية على أنّها مجرد عملية تمهيدية، وأنها نوع من تهيئ النّصوص الكبرى كي تغدو متيسّرة للقارئ الذي ينوي الاشتغال بالفلسفة، الذي يعتزم إعمال الفكر في نصوصها. هنا تطرح مسألة الترجمة بمعزل عن المخاض الفكري، وتُدرك بوصفها، مثل التحقيق، سعيًا لإعداد النصّ لمن يعتزم إعمال الفكر فيه، ومحاولة لتوفير أمّهات النصوص ووضعها «بين يدي» القارئ. حينئذ ستكون الترجمة لحظة سابقة ممهّدة لكل تفلسف. وما تهدف إليه لا يعدو توفير النصّ، حتى وإن تطلّب الأمر أن يقبع في قاعة انتظار إلى أن يحين وقت استخدامه، والاشتغال به وعليه، والتفكير معه أو ضده.

الموقف الثاني يرى، على العكس من ذلك، أنّ نصف عملية التفلسف والتنقيب عن المعنى ومحاولة حصره، يكمن في فعل الترجمة ذاته. فالترجمة هي أساسا إعمال فكر. وإذا كانت الفلسفة حوارا، فهي بالأوْلى حوار بين نصوص، وبين لغات. هذا، فضلا على أن النص ما يفتأ يترجم وتعاد ترجمته. لذا لا يمكن الفصل، حسب هذا الموقف، بين لحظتين: لحظة إعداد النصّ وترجمته و«توفيره»، ثم لحظة استخدامه وإعمال الفكر فيه.

سنسعى إلى توضيح مبرّرات كل موقف من هذين الموقفين، ومن أجل ذلك سننظر لتلك العلاقة من وجهة نظر كل طرف من الزوج الذي يشكّل عنواننا.

1-العلاقة بين الفلسفة والترجمة من وجهة نظر الفلسفة:

لنبدأ بهذا السؤال: هل يمكن تصوّر كتاب في الفلسفة، مهما كانت لغته، لا يتضمّن كلمات أجنبية؟ لا أعتقد أن الجواب عسير، إذ يكفي تصفّح أيّ كتاب في هذا المضمار تأكيدًا للجواب. وبطبيعة الحال، الأمر يصدق بالأوْلى على النّصوص المكتوبة بلغة الضّاد. لا أعني فحسب نصوصنا الحالية، وإنّما أيضا المتون الكلاسيكية. علينا إذًا أن نتساءل لماذا تَعْلَق اللغةُ المنقولة بالنصّ المترجِم؟ لماذا لا تكفّ الكتابة الفلسفية عن التعلّق بلغة الأصول عندما تنقلها؟ ما سرّ المصاحبة الدائمة للّغة المنقولة للنّصّ الناقل؟

ما دمنا قد تحدثنا عن المتون الكلاسيكية، لنتساءل ما هي العلاقة التي أقامتها الفلسفة العربية الكلاسيكية بالنصوص التي نقلتها؟ نعثر على جواب ممكن لتفسير عجز اللغة الناقلة عن نقل نهائي لمعاني الأصل ضمن المناظرة الشهيرة التي نقلها أبو حيان التوحيدي في الإمتاع والمؤانسة، التي جرت بين المنطقي متى بن يونس، والنحويّ أبي سعيد السيرافي (1).

يعتمد هذا النصّ تأويلين يُفسّران عجز النسخة المترجِمة عن نقل «أمين» ونهائي للأصل، أو، لكي نبتعد عن مفهوم الأمانة، عجزها عن التحرّر مما يسميه التوحيدي «الإخلال بالمعاني»، أقول إنه يعتمد تأويلين: تأويلا يقف عند التوسُّط اللغوي والزّمني، وما يسميه التحوّلَ بالنقل من لغة إلى أخرى، وتأويلًا آخر لا يظهر جليًا في هذا النص، ويمرّ مع جملة اعتراضية يُرجع فيه التوحيدي «الإخلال بالمعاني» إلى ما يسميه «طبائع اللغات ومقادير المعاني». ولعلّ نصّا للمؤلف نفسه، غير هذا، مأخوذا هذه المرة من المقابسات، يوضّح توضيحا أكثر هذه المسألة. يقول فيه التوحيدي: «إنّ الترجمة من لغة يونان إلى العبرانية، ومن العبرانية إلى السريانية، ومن السريانية إلى العربية، قد أخلَّت بخواصّ المعاني في أبدان الحقائق، إخلالا لا يَخفَى على أحد. ولو كانت معاني يونان تهجس في أنفس العرب مع بيانها الرائع وتصرّفها الواسع، وافتتانها المعجز، وسعتها المشهورة، لكانت الحكمة تصل إلينا صافية بلا شوب وكاملة بلا نقص، ولو كنّا نفقه عن الأوائل أغراضهم بلغتهم كان ذلك أيضا ناقعا للغليل، وناهجا للسبيل، ومُبلّغا إلى الحدّ المطلوب. ولكن، لا بد في كل علم وعمل من بقايا لا يقدر الإنسان عليها، وخفايا لا يهتدي أحدٌ من البشر إليها»(2). بهذا المعنى تغدو حكمة يونان منطوية على خفايا لم تغب عن الذين نقلوها إلى لغتهم فحسب، وإنّما غابت عن يونان أنفسهم. هذا ما يؤكده التّوحيدي نفسه: «إنّا لا نظنّ أن كل من كان في زمان الفلاسفة بلغ غايةَ أفاضلهم، وعرفَ حقيقة أقوال متقدّميهم». فكأن الإخلال بالمعاني في النصّ الفلسفي من صميم المعاني حتى قبل أن تُنقل إلى لغة أخرى.

لعلّ هذا النصّ يُبرز بشكل أكثر وضوحًا سبب تعلّق النصّ الناقل بالنصّ المنقول، ومصاحبةَ لغة النصّ الأصلي للّغة المترجِمة. فهو على عكس التأويل الأول الذي يعتمد التوسط اللغوي، أي ما يمكن أن نطلق عليه بلغتنا المعاصرة التفسير التاريخاني، الذي تعجز الترجمةُ بمقتضاه عن نقل المعاني بخواصّها لكون تلك المعاني مرغمة على أن تهاجر، وتستغرق الزمن، وتُقحَم في مسلسل التاريخ، وتُنقل عبر وسائط متعدّدة ومتنوعة. وربما لإبراز هذا العامل يصرّ التوحيدي على الوقوف على المسافة الزمنية التي قطعتها حكمة يونان، وذكْر مختلف المحطات التي استقرت بها، والقنوات التي مرت عبرها، كي تصل إلى اللغة العربية، مما حال دون حلول حكمة يونان في جسم البيان العربي، وما ترتّب عن ذلك من إخلال بخواص المعاني، حرَم اللغة العربية من أن تصلها الحكمة «صافية بلا شوب، وكاملة بلا نقص».

يردّ هذا التفسير إذاً تذبذب نقل المعاني إلى تعدّد الوسائط، بحيث لو كان في استطاعتنا أن «نفقه عن الأوائل أغراضهم بلغتهم»، من غير قطع كل تلك المسافة الزمنية والانتقال عبر توسّطات، لكنّا بلغنا «الحدّ المطلوب» ونهجنا الطريق الصحيح، من غير تيه ولا ضلال و«إخلال» بالمعاني. ولَصارَت النصوص المنقولة خالية من ألفاظ أجنبية، متحررة من اللغة الأصل، غير محتاجة إليها، ولانفَصلَ التفلسف عن الترجمة.

بيد أن التوحيدي لا يبدو مقتنعا بهذا التأويل «التاريخي»، إذ سرعان ما ينتقل إلى تأويل آخر هو الذي يهمّنا هنا، لأنه لا يكتفي بتفسير ضياع المعاني بـ«السقطة» التاريخية، وإنما بردّه إلى طبيعة المعنى بما هو كذلك، طبيعة النصّ الفلسفي بما هو كذلك.

ما يحول دون بلوغ المعنى «كما هو»، ما يحول دون بلوغ «خواصّ» المعاني في هذا التأويل الثاني، ليس هو التوسّط واللامباشرة، وإنما المباشرة ذاتها. هنا ينطوي المعنى على كثافة ذاتية تحول بيننا وبين الوقوف على خواصّه جميعِها، تحول بيننا وبين الإحاطة بمضامينه. هذه الكثافة هي ما سندعوها فيما بعد، مع بعض المفكرين المعاصرين، «الطاقات التأويلية» للنص.

حينئذ لا يكون التوسّط هو سببَ الضياع، ما دام في كل علم «بقايا لا يقدر الإنسان عليها، وخفايا لا يهتدي أحد من البشر إليها». بهذا المعنى تغيب المعاني حتى عن مؤلفيها. الظاهر إذًا أنه إن كان للتوسط مساوئُه، فإن للمباشرة عيوبَها ونواقصَها. هنا يغدو الإخلال بالمعاني، من صميم المعاني حتى إن كانت مباشرة، وسنقول نحن اليوم، مع من يُدْعون بفلاسفة التوجّس les philosophes du soupçon، خصوصًا إن كانت مباشرة.

لن يرجع تستّر المعنى، والحالة هذه، بالأساس إلى أخطاء المترجِم، ولا إلى عجزه عن إدراك ما يجول بذهن المؤلف، وعدم تمكّنه من بلوغ نواياه، والوقوف على مقاصده، وإنّما إلى طبيعة ذلك النسيج العنكبوتي الذي هو النص الفلسفي. كل نصّ ينطوي على كثافة سيميولوجية تجعل، حتى صاحبَه، عاجزًا أن يحصرها من غير انفلات «بقايا لا يقدر عليها». فلا سبيل إلى استرجاع تامّ للنص الأصلي. ولا تُسعف المباشرة المؤلفَ نفسه حتى يتمكّن من بسط سلطته على النصّ لحصر معانيه وضبطها، والتحكّم في المتلقّي مهما تنوّعت مشاربه اللغوية والثقافية. إنها ترسّب بقايا تنفلت من كل رقابة شعورية، وتجعل النصّ يفلت من قبضة صاحبه، وتجعل المعنى ينفلت ويمتدّ في اختلافه عن ذاته، لا يحضر إلا مبتعدا عنها مباينا لها En differance على حد تعبير ج. دريدا، خصوصا إن كان مرغما على التنقل بين الأحقاب والتجوّل بين اللغات.

هذه إذن هي خاصية النصّ الفلسفي، فما الدور الذي تلعبه الترجمة لإبراز هذه الخاصية؟

2-العلاقة بين الفلسفة والترجمة من وجهة نظر الترجمة:

كتب أومبرتو إيكو في كتابه في الترجمة (3)، الذي يحمل عنوانا لا يخلو من دلالة: «أن تقول الشيء نفسه على وجه التقريب»، كتب متحدثا عن علاقته كمؤلف بما تُرجم له من نصوص: «كنت أشعر أن النصّ يكشف، في حضن لغة أخرى، عن طاقات تأويلية ظلت غائبة عني، كما كنت أشعر أن بإمكان الترجمة أن ترقى به في بعض الأحيان»(4).

لعل أهمّ ما في هذا الاعتراف لإيكو هو حديثه عن «الطاقات التأويلية» التي ينطوي عليها النصّ، التي تظل غائبة عن صاحبه مغمورة في لغته، والتي لا تنكشف إلا في حضن لغة أخرى، ولا تظهر إلا إذا لبست حلة جديدة، وكُتبت من جديد. ربما كان هذا هو المعنى ذاته الذي يعنيه جاك دريدا حينما يقول إن النصّ، عندما يُنقل إلى لغات أخرى، فإنه يحيا «فوق مستوى مؤلفه»(5)، فوق مستواه، يعني أساسا خارج رقابته وخارج سلطته autorité من حيث هو مؤلف وauteur، فوق مستواه، يعني أنه لا يملك أمامه حيلة. ذلك أن المؤلِّف سرعان ما يتبيّن عند كل ترجمة، أنه عاجز عن بسط سلطته على النصّ لحصر معانيه وضبطها، والتحكّم في المتلقي مهما تنوعت مشاربه اللغوية والثقافية. وهو يتأكد من ذلك كلما حاول هو نفسه نقل أحد نصوصه إلى لغة أخرى، إذ سرعان ما يصطدم بالصعوبات التي يطرحها نصّه، فيتبين اشتراك ألفاظه، ولبس معانيه، وتعدّد تأويلاته. والغريب أنّه يُحسّ أنه لم يكن ليتبين هذه الصعوبات، ولا ليدرك ذلك الاشتراك واللبس، لولا سعيه إلى نقله إلى لغة أخرى. فكأنّ عملية الترجمة هي التي تسلّط الأضواء على النصّ الأصلي، فتكشف، حتى للمؤلف نفسه، ما تضمره اللغة الأصلية، بل إنّها تُبِين في بعض الأحيان عن نواقص الأصل. فكأن كشف خصائص الأصل لم يكن له أن يتمّ لولا الترجمة، وكأن اللغة، بفعل الترجمة، لا تكتفي بأن «تجذب الأخرى وتأخذ منها وتعترض عليها»، كما كتب جاحظنا، وإنما تسعى أيضا لأن «تفضحها». لا ينبغي أن نفهم الفضح هنا على أنّه دائمًا فضح عورات وعيوب، بقدر ما هو كشف وتعرية une mise à nu.

لا بأس أن نسوق هنا ما كان هايدغر كتبه تقديما لإحدى ترجمات نصوصه إلى الفرنسية: «بفعل الترجمة يجد الفكر نفسه وقد تقمّص روحًا لغة أخرى. وبذلك فهو يتعرّض لتحوّل لا محيد عنه. إلا أنّ هذا التحوّل قد يغدو خصبًا؛ لأنه يبرز الطرح الأساس للسؤال في ضوء نور جديد»(6). كأنّ الفيلسوف الألماني، الذي كتب هذه المقدمة سنة 1932 لترجمة الجزء الأول من أسئلته، يتنبأ هنا بما سيعرفه فكره في ترجماته الفرنسية، أقول الترجمات؛ لأن نصوص هايدغر ما فتئت تُترجم وتعاد ترجمتها.

يظهر إذًا أن الترجمة فعّالة في النصّ الفلسفي، ومُولّدة لمعانيه، وكاشفة لخباياه. فهي لا تكتفي بتوفيره وتهييئه للقارئ الذي سيُعمل فيه فكره، وإنما تشرع هي، ومنذ البداية، في تأويله، بل في توليده، وإبراز طاقاته ومكنوناته.

والأهم من ذلك أنها غالبا ما لا ترضى عن عملها، فلا تفتأ تعيد فيه النظر. بين النص وترجماته مصاحبة دائمة. هذا ما جعل أحد كبار المنظرين للترجمة، فالتر بنيامين، يقول عنها بأنها تشكل حياة النص وما يضمن بقاءه Sa survie. فهي ما تفتأ تعيد النظر فيه، وهذا حتى داخل اللغة الواحدة.

على هذا الأساس، إذا كان معظم الفلاسفة المعاصرين مترجمين، فليس ذلك سعيًا منهم إلى توفير نصوص، وإنما وعيا منهم أن ترجمة النصوص الفلسفية وإعادة ترجمتها من صميم الممارسة الفلسفية، وأن فعل الترجمة جزء من ممارسة التفلسف. لا أعني بذلك فحسب أن هايدغر وفوكو وألتوسير ولاكان ودريدا وبوفري وريكور، لا أعني فحسب أن كل واحد من هؤلاء يرتبط اسمه بمصنف نَقلَه إلى لغته، وإنما بأن كلا منهم لم يفتأ يعدّل ترجمات النصوص التي كان يستثمرها، تلك التعديلات التي يُشار إليها عادة في الكتابات الفلسفية باستعمال عبارة: «التعديل من عندنا». معنى ذلك أن هؤلاء الفلاسفة لا يعتبرون الترجمة مرحلة يعرفها النصّ ثم يتخطاها كي ينتقل إلى مرحلة الفهم والتفسير، كما لا يعتبرون أن مهمة الترجمة تكمن في إعداد النصوص، ونقل كتب واقتراح مصطلحات، وإنما في إعمال فكر، وإعادة تأويل، فإعادة ترجمة.

ولا تخفى الأهمية الكبرى التي اتخذتها إعادات الترجمة هاته، والهزات الفكرية التي أحدثتها، بدءا من الترجمة الألمانية للكتاب المقدس، إلى إعادة ترجمة نصوص ماركس وفرويد والقائمة طويلة.

وعلى رغم ذلك، فان اعتبار الترجمة مجرّد مرحلة تنتهي لتبدأ مرحلة إعمال الفكر قضية يبدو أنها متجذّرة في ثقافتنا. هذا، على أيّ حال، هو التفسير الذي يبدو أن فريديريش شليجل كان يفسّر به ما رآه سبب تعثر الفلسفة في الثقافة العربية الإسلامية. فقد كتب: «يتسم العرب بطبع مجادل إلى أبعد الحدود. فهم، من بين الأمم جميعِها، أكثر الأمم قدرة على النفي والإتلاف. ما يميّز فلسفتهم في روحها، هو ولعهم المرَضي بإتلاف الأصول والقضاء عليها بمجرد أن تتمّ الترجمة»(7).

لن نخوض هنا في ما قد يكون بعدا إيديولوجيا لهذا الاقتباس. ويكفي أن نستخلص النتائج التي تتولّد عنه فيما يتعلق بعلاقة الفلسفة بالترجمة. قبل تحديد تلك النتائج لنتساءل في البداية عما يعنيه شليغل بـ«إتلاف الأصول»، أو كما يقول هو: «إتلافها والإلقاء بها جانبا»؟ إنه يعني أن الثقافة العربية الكلاسيكية كانت، عندما تنقل النصّ إلى لغتها، تؤقلمه وتضمه إليها، كانت ترضخه وتقضي على عنصر الغرابة فيه، فتبتلعه وتدخله في دائرة الأنا شعورا منها أنه لم يعد آخر. لذا سرعان ما تستغني عنه كأصل بعد أن «ترقى» به إلى لغتها.

لعل هذا الانغلاق هو ما يفسّر كون كبار فلاسفتنا لم ينتبهم الشعور مطلقا بالربط بين إعادة التأويل والشرح، وبين إعادة الترجمة، والرجوع من جديد إلى الأصول. يتعذر علينا نحن الآن أن نتفهّم عدم شعور فيلسوف مثل ابن رشد، وهو يقرأ (أو لنقل بتعبير معاصر: وهو يعيد قراءة) المعلّم الأول، عدم شعوره بضرورة إعادة الترجمة على غرار ما نلحظ اليوم عند كبار المفكرين. لكن ما يثير استغرابنا أكثر هو استمرار هاته العلاقة عند بعضنا حتى اليوم. أليست هاته هي العلاقة التي لا نزال نقيمها مع النصوص الإغريقية؟ فمن منّا يشعر، وهو يعيد قراءة جمهورية أفلاطون أو أورغانون أرسطو، بضرورة الرجوع إلى هاته النّصوص في أصولها؟ (ولعلّ هذا هو ما يفسر الغياب التامّ لشعبة اللغة اليونانية القديمة في معاهدنا، عدا بعض الجامعات المصرية)، بل إننا نلاحظ امتداد هاته العلاقة المُلْغية للآخر حتى مع النصوص المعاصرة. ويكفي أن نتذكر بعض النصوص التي نقلت إلى العربية، ومنذ عهد غير قريب، كـزرادوشت نيتشه أو رسالة فتغنشتاين، دون أن تعرف امتدادا أو تثير انتباها، أو تطرح إشكالا، أو تلج شبكات جديدة من العلائق، أو تدخل في حوار مع الثقافة المنقولة إليها؟ إنها نصوص نقلت إلى العربية نقلا ولم تترجم إليها.

إن الثقافة العربية كانت ولا تزال تعتبر الترجمة مرحلة تمهيدية تسبق تأويل النصوص وتكتفي بوضعها في يد القارئ عسى أن يستنطقها. ومن أجل ذلك فقد اكتفت بأن تسند مهمة الترجمة إلى مؤسسات أخذت على عاتقها توفير ما تطلق عليه أمهات أو «نصوصا مؤسسة»، حتى إذا ما احتاج الباحثون في مجال الفلسفة أن يُعملوا فكرهم فيها، وجدوها بين أيديهم. لا أريد أن تفوتني الفرصة هنا لأدعوكم إلى التوقّف قليلا للنظر في شأن هذه المؤسسات التي أوكلت إلى نفسها السَّهر على ترجمة النصوص المؤسِّسة. فقد اعتبرت تلك المؤسسات أن قضية الفلسفة عندنا هي غياب النصوص الكبرى، وأن ترجمة النصوص وتوفيرها بلغة عربية تُنقل عن اللغة الأم هو أضمن سبيل لحلّ تلك المعضلة.

لا بأس أن نؤكد هنا أن هذه الترجمات، رغم كل مزاياها، لم تكن لتأتي دومًا استجابة لدواعي فكرية. فهناك منها ما تولّد نتيجة قرار مؤسسي، ومنها ما جاء استجابة لحدث ثقافي كموت مؤلف، أو حصوله على جائزة. وقبل أن نتوقف عند مفهوم الأمهات الذي أومأنا إليه، لننظر أولا إلى تجربة ما سُمّي النقل عن لغات وسيطة، فالظاهر أنه مهما قلنا عما كان يشوب تلك الترجمات، التي نقلت عن غير لغاتها الأصلية، من عيوب، إلا أننا لا نستطيع، على رغم ذلك، أن ننفي أنها كانت تتمّ في خضمّ مخاض فلسفي، فاختيار النصوص وانتقاء المصطلحات، كل ذلك لم يكن ليتم بمعزل عن جدال ثقافي عام. بعبارة موجزة فإن الترجمة لم تكن آنئذ لتتمّ بعيدًا عن الانشغال الفلسفي. صحيح أننا كنا ننقل في الأغلب عن غير اللغات الأم، عن لغات وسيطة كما يقال، إلا أنّ نقلنا ذاك كان لا ينفصل عن مخاض فلسفي أو همّ فكري على الأقل. كانت الترجمات، على علاتها، تواكب جدالًا ثقافيًا عامًا. ترجمنا بعض نصوص ديكارت، لا عن اللاتينية، وإنما عن الفرنسية، إلا أنّ ذلك كان يدخل في سياق انشغال ثقافي لم يكن ينحصر في مجال الفلسفة، وإنما كان يطال ميدان الأدب ومنهج دراسته. نقلنا بعض نصوص ماركس وفرويد، لا عن الألمانية، وإنما عن الفرنسية والانجليزية، إلا أننا تجادلنا كثيرا وترددنا طويلا في توظيف كلمات، وفي ترجمة مفهومات، ونقل مصطلحات. لنذكر على سبيل المثال تردُّدَنا في استعمال ألفاظ مثل التجاوز والتشيؤ والاغتراب والاستلاب والوعي الزائف بالنسبة لبعض نصوص هيغل وماركس، أو مفهومات الكبت والدافع والنكوص والإنكار بالنسبة لبعض نصوص فرويد... لا نلمس اليوم نوعا من هذا الجدال عند نقل نصوص هيغل أو هوسرل أوهايدغر. أو لنقل على الأصح، إن نقل هؤلاء إلى اللغة العربية لا يتمّ دوما في سياق استثمار فكري لمتونهم.

ثم إن مسألة ترجمة النصوص الفلسفية لا تقتصر على ندرة ما نقل إلى العربية من الأمهات، وإنما تتعدّى ذلك إلى ما عبّر عنه أحد مترجمينا الكبار، وهو المرحوم عبد الغفار مكاوي، عندما اشتكى بـ«أن ترجماته ولدت ميتة». لقد سبق لبعض مترجمينا أن نقلوا نصوصًا أساسيةً في مجال الفلسفة، وهذا الذي أومأنا إليه كان ينقل عن اللغات الأم، إلا أن تلك النصوص لم تلق استجابة في سوق التبادل المعرفي، فلم تدخل في شبكات فكرية وعلائق

أخرى، ولم تُثِر انتقادا ولم تُستثمر، ولم توظّف. وليست قليلة الأمثلة التي تؤكد ذلك. ويكفي أن نذكر ترجمات بعض مؤلفات فرويد على يد صفوان وزيور وسامي علي، وترجمة بعض مؤلفات لوك وروسو، إلى غير ذلك من الترجمات المهمة كرسالة سبينوزا وحفريات فوكو. وهي ترجمات أصبح من المتعذّر حتى الحصول عليها شعورًا من ناشريها ربّما بلا جدوى إعادة النّشر.

لنعد الآن بشيء من التّفصيل إلى قضية الأمهات التي يبدو أنها في حاجة إلى إعمال نظر. ولنتساءل: هل النصوص الأمهات هي تلك التي عملت في مجال معين على تأسيس ذلك المجال وضبط إيقاع تطوره؟ كأن نقول، في مجال الفلسفة، على سبيل المثال، «الأمهات» هي النصوص التي أسست للفلسفة الأوروبية مثل قصيدة بارمينيدس وجمهورية أفلاطون ومنطق أرسطو وتأملات ديكارت وإيتيقا سبينوزا ومونادولوجيا لايبنتز ونقد العقل لكنط وظاهريات هيجل إلى أن نصل إلى حفريات فوكو وهوامش دريدا.. هنا تتحدّد «الأمهات» داخل المجال وحده. فماذا لو كانت «الأمهات» تتعين أيضا نسبة إلى الثقافة التي تنتمي إليها، كأن نقول، على سبيل المثال، إن رسالة الشافعي من أمهات النصوص الإسلامية، لكنها ليست كذلك بالنسبة للثقافة الأوروبية. على هذا النحو ستتحدد «الأمهات» أيضًا نسبةً إلى الثقافة التي عملت فيها كنصّ مؤسّس. بهذا المعنى يمكننا أن نؤكد أن نصّ بارمينيدس لم يعمل قط كنصّ مؤسس للفلسفة الإسلامية شأن جمهورية أفلاطون أو منطق أرسطو. على هذا النحو سيتحدّد مفهوم «الأمهات» كأصل جينيالوجي يتخذ معناه وأهميته بما سيترتب عنه داخل ثقافة معينة، وفي إطار مجال بعينه. هنا يغدو السؤال المتعلق بتحديد النصوص-الأمهات مرتبطًا بما نتوخاه من المجال الذي نتحدث عنه في ثقافتنا، كأن نتساءل، في مجال الفلسفة، ما هي النصوص التي سنجعل منها أسسا لفكر عربي حديث؟ بهذه الكيفية سننفتح على نصوص كانت تبدو، إلى وقت قريب، أقل أهمية من مثيلاتها في ذلك المجال عند ثقافة أخرى، مثل النصوص التي أسست لنظريات النقد الأدبي، وتلك التي أسست للكتابة التاريخية، وفلسفات الحقوق... إلخ.

يضعنا هذا المفهوم الجنيالوجي لـ«الأمهات» أمام ما يمكن أن ندعوه تشابك الحقول المعرفية المعاصرة. ذلك أننا عندما نريد اليوم أن نؤسس لفكر عربي جديد في مجال الفلسفة، على سبيل المثال، سرعان ما نجد أنفسنا منفتحين على مجالات أخرى أصبحت تعمل اليوم في الفلسفة مثلما أصبحت الفلسفة تعمل فيها. أخصّ بالذكر هنا نظرية الأدب، وإبيستمولوجيا التاريخ والفلسفة السياسية... إلخ. إن مراعاة هذا التشابك بين الحقول من شأنه وحده أن يجعل الترجمة لا وسيلة انفتاح فحسب، وإنّما أيضا أداة تحديث لا تقتصر مهمتها على إعداد الأمهات كي تجعل منها موضع تفكير.

على هذا النحو فإن ترجمة النّصوص الفلسفية لا يمكن إلا أن تتلبس الممارسة الفلسفية ذاتها. ولن تعود الترجمة مجرد فعل في تلك النصوص، وإنما تغدو تفاعلا معها، لن تعود تفكيرا في تلك النصوص، وإنما تفكيرا بها. لعل هذا هو ما يفسر كون الترجمة الفلسفية تظل عملية لامتناهية حتى داخل اللغة الواحدة. فما دام النصّ الفلسفي موضع فكر، فهو يُترجم وتعاد ترجمته كما سبق أن أشرنا. تتمخض عن ذلك نتيجتان:

أولاهما أن الترجمة ليست مرحلة تقترح مصطلحات وتهيئ نصوصا، ثم إنها ليست أساسا مسألة مؤسسة فحسب. لا يمكن للترجمة، وترجمة الأمهات الفلسفية، أن تُسند فقط إلى منظمات وقطاعات وزارية، و«بيوت حكمة» تُراكم النصوص الكبرى في رفوف المكتبات. «بيوت الحكمة» في مجال الفلسفة هي، أولا وقبل كل شيء، الممارسة اليومية لمن يشتغل بالفلسفة، ومن يشغل باله بها. الترجمة الفلسفية، مثل الفلسفة، همّ فكري ومعاناة من «يفلح» النصوص، ويعشق اللغة، ويرعى صقلها وصفاءها. ربما لا يمكنها أن تستغني ماديا عن المؤسسات والمنظّمات، إلا أنّها لا يمكن البتة أن تتمّ خارج «مختبرات» الفكر، وبعيدا عن قاعات الدرس، وفضاءات «الإنتاج» الفلسفي.

النتيجة الثانية تتجاوز مسألة الترجمة كي تطال قضية الفلسفة ذاتها، وشكْل ممارستها في عالمنا العربي. فإذا سلمنا بأن قضية الفلسفة ليست مسألة معرفة، وبأن علاقتها بنصوصها ليست أساسا علاقة اطلاع وتحصيل، فإننا يمكن أن نجزم أنه ما دامت علائقنا بالنصوص الكبرى علائق لا تتعدى الفضول المعرفي، فإننا سنظل نتوهم أن تملّك تلك النصوص يتحقق بمجرد نقلها إلى لغتنا دون بذل جهد متواصل لانفصالنا عنها، وإذكاء حدة التوتّر بيننا وبينها.

هوامش:

1- أبو حيان التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، تحقيق أحمد أمين وآخرين، المكتبة المصرية، بيروت، 1953، ص. 116.

2- أبو حيان التوحيدي، المقابسات، المقابسة 63.

3-U. Eco, Dire presque la même chose, Expériences de traduction, Grasset, Tr. française, 2006.

4- المرجع نفسه، ص14.

5- Jacques Derrida, « Des tours de Babel », in Psyché- Inventions de l’autre, éd. Galilée, Paris, 1987, p214.

6- Martin Heidegger, Questions I et II, Gallimard, coll. « Tel », 1990, p. 10.

7-Friedrich Schlegel, Fragments de L’Athenaeum (fragment 229), in Philippe Lacoue-Labarthe/Jean-Luc Nancy, L’Absolu littéraire, Seuil, 1978, p. 131

عبد السلام بنعبد العالي مفكر وأستاذ جامعي مغربي