مئزرُ أبي يدمي
الأربعاء / 23 / شوال / 1443 هـ - 18:00 - الأربعاء 25 مايو 2022 18:00
يشحذ أبي سكينا كبيرة، وينظرُ إليّ من طرف عينه الضيقة، بمئزرٍ يدْمي على الدوام، يُلطخ بيتي الجديد الذي لم يدخله يوما، يلطخُ الصوفا، والستائر، والمفارش، وأغطية المخدات، وأرضية المطبخ، وغالبا ما ينتهي الأمر بإيقاع مُتسارع لصوت شحذ سكينه على قضيب المِسّن.. فأصحو غارقة في عرق بارد.
..
حثني عامل الحديقة الباكستاني «أديب» بوجه مخطوف وفزع بائن، كي أقترب لأرى شيئا، بالتأكيد هو لا يعرف «كريس» كما نعرفه نحن، ولكنه أدرك - في كلّ يوم اثنين يأتي ليشذب الحديقة- أنّ «كريس» يعني لنا شيئا ما. شاهد ركض ابني الصغير خلفه مرارا في الفناء، شاهد بحث البقية عنه ما إن يغيب عن الأنظار.
انتفض جسدي وأنا أتبع المكان الذي تشيرُ إليه سبابة أديب، كان «كريس» يبسط جسده، وافر الشعر فوق العشب الاصطناعي في الحديقة، كان مبلولا جرّاء ليلة ماطرة، ظلتِ المياه تقطر من شاربيه الرفيعين، شعره الكثيف فرقته جداول الماء الصغيرة التي عبرته طوال الليل، بقي مستلقيا على جنبه دون حراك، فاتحا عينيه اللامعتين، عيناه مفتوحتان بهلع، كأنّه كان في نزالٍ طويل مع الموت، ذقنه مُبقع بآثار قيء. نظرتُ إليه، بسطتُ أصابعي على صدري، وتأوهتُ بجزع. حثني أديب على التقاط صورة، «ينبغي على أبنائكِ أن يتأكدوا أنّه مات حقا»، وأخذ يومئ برأسه بشكل متكرر، ولا أدري أيّ حركة آلية دفعتني للتصوير، صورته من عدة زاويا، ولكنه لم ينهض ليتعلق بقدميّ.
دلفتُ سيارتي كأني أحتمي من شيء ما، كانت لديّ رغبة جادة في أن أجهش بالبكاء. ماذا سأقول للأبناء الآن؟ لكن أديب جاء مُجددا وطرق زجاج النافذة، أفزعني الرفش الطويل الذي يقبض عليه، أنزلتُّ زجاج النافذة، «أين ينبغي أن أدفنه مدام؟ أخشى لو أنني دفنته في الحديقة أن تخرجه القطط الضالة، إنّها تتبع الرائحة دائما»، ثم أشاح بوجهه وشخصت عيناه بعيدا، «ما رأيكِ مدام أن نحفر له حفرة خارج الفناء؟ إنّه يستحق أن يدفن». قال كلاما كثيرا مولحا بالرفش، مُتحدثا بجدية بينما تدور في رأسي الأفكار. أومأتُ برأسي موافقة عندما أشار بسبابته إلى مكان رآه ملائما. بدأتْ قطرات المطر تتراشق بنعومة على الزجاج الأمامي لسيارتي، تذكرتُ الماء الذي ملأ شعر «كريس» الكثيف فالتصق بلحمه، وعاد السؤال الموجع: «ماذا سأقول للأولاد الآن؟!».
كانوا في بيت الجدة في القرية البعيدة، كنتُ أفكر كثيرا في الكلام الذي سأقوله لهم، «الخطأ أننا نأتي بحيوانات لتربيتها، ينبغي ألا نفعل ذلك إن كنا غير مسؤولين كفاية». فكرتُ أنّ كلاما كهذا سوف يجعل أجساد أولادي الأربعة ترتجف تحت وقع كلماتي. غصصتُ بالدمع ولم أتمكن من الاتصال بهم. فكرتُ مجددا بجملة أخرى «فضلتم قضاء العطلة في القرية، وتركتم كريس يموت هنا.. هاااه».
ولكن هذه ليست الحقيقة. أنا أبعدتُ الأولاد لأنّني رغبتُ في صيانة البيت، أنا طلبتُ منهم الذهاب لبيت الجدة، ولم أتمكن من العناية بكريس كما ينبغي، أنا أتحمل وحدي مسؤولية موته!
عندما دخل كريس حياتنا كان صغيرا جدا، اصطحبناه إلى العيادة وأخذ الحقن، كان نظيفا ويقضي حاجته في المكان المخصص، ويحب اللهو كثيرا مع الأولاد. كان يتلقى محبة كبيرة، ورغم ذلك كان يرغب بشدة أن يمرر جسده قرب ساقيّ. كنتُ أتحاشاه كثيرا، وأتحدثُ معه: «أنا أطعمك وأسأل عنك في غيابك فقط.. لا أحضان لا تلامس لا لعب»، ولكنه بقدر ما كان يتعلم الحيل والألعاب يوما بعد يوم، لم يكن يفهم صدي له أبدا. كان أولادي يرغبون بقوة أن أحمله يوما بين يديّ، أن أحضنه، أن أسمح لجسده أن يستلقي فوق حجري. لقد تمازحوا معي مرارا بهذا الشأن، ألقوا به عليّ، سمحوا لمخالبه أن تخمش شحمة أذني. كنتُ مشغولة بضحكات أولادي أكثر من انشغالي بكريس، لا أهتم به، لا أسأل عنه إلا إذا خرج من البيت ولم يعد بعد مرور ساعات، ألقي اللوم على الأبناء الذين لا يهتمون بواجب صغير كهذا.
كنتُ أقلق من قطة الشارع المتوحشة السوداء التي تتحرش به من حين لآخر، قضمتْ مرّة ساقه، وتركته يدمي، وكان أصغر من أن يدافع عن نفسه، شعرتُ بغضبٍ بالغ، كأن أحدهم ضرب ابني. أخذته من فوري إلى العيادة كأمّ قلقة، ثمّ أعطيتُ ابني الأكبر مراهم ورباطًا، ليعتني ببقية المهمة. لم أقترب منه، لم أنحنِ عليه، لم أنظر لعينيه المتوسلة.
عندما غرس ابني الأصغر يديه في شعره الكثيف، قال: «ينبغي أن يكون له اسم»، وعلى غير العادة اتفق الجميع أن يكون اسمه «كريس». لكن هل كان على كريس أن يموت ليفتح ملفا قديما للرعب الخفي؟!
والدي كان جزارا تقليديا، ورث مهنته أبا عن جد، وكنتُ أنا أصغر إخوتي، اصطحبني أبي مرّة معه إلى مكان عمله، بعد أن قالت أمّي: «ابنتك لينة القلب» وكان ذلك في سياق الشتيمة وليس الإطراء.
أركض في الحقل خلف الفراشات، وأحمل النمل على يديّ كي لا تدعسه الأرجل المُتعجلة. كنتُ أصادق النعاج الصغيرة، وأرضع التيوس التي ترفض أمهاتها إرضاعها في قناني رضاعة إخوتي القديمة. قال أبي بصرامته المعتادة: «ستذهبين معي». رافقه إخوتي مرّات عديدة من قبل، وأنا لم أكن لأفعل.
في المزرعة تتحلق حظائر الدجاج والماعز والأبقار والعجول حول غرفة الذبح. جرّ العاملان المساعدان لأبي عجلا صغيرا وطلب مني أن أسقيه الماء. سقيته الماء ومسحتُّ جسده حتى اطمأن لي، ثم أشهر أبي سكينه، وطلب مني أن أنظر إليه. قبض العاملان قوائم العجل الأربعة، وظلت عيناه المتلألئة تستنجد بي.
جزّ والدي عنق العجل، بعد أن سمّى وكبّر. شعرتُ وكأن أحدهم جمدني في مكاني فلم أقدر على غلق عينيّ، شلال دماء انبثق من كل مكان، حتى لم أعد أرى شيئا وسقطتُ مغشيا عليّ. كان آخر ما أتذكره، عيني العجل المرعوبتين المستنجدتين وخواره الأخير، الرفسات التي ما لبثت أن تباطأت. منعني أبي أن أغلق عينيّ، طلب مني أن أشاهد فوران الدماء الساخنة. كانت عيناي تحرقني، وأشعر بوخز كثيف يُنمل جفنيّ، ولكني لم أغمضهما أبدا.
في الأسابيع التالية لم يخرج صوتي، لم أتحدث لأحد، وما إن يكلمني أحدهم حتى أنتحب. قالت أمّي كلاما عجيبا. سألتني أسئلة، من قبيل إن كان هنالك من لمس جسدي، جسدي الهش المنهار بالبكاء، ولم أكن أجيب. وتجاذبت أمّي الخياطة، التي تحيك ملابس نساء القرية، وأبي الجزار قصّة. ألفا قصة عني أفزعتهما كثيرا، فأحاطاني برقابة شديدة بسبب ما توهماه عني. تقول القصّة: «هناك من مسّ البنت». كنتُ صغيرة وجسدي نحيل. اصطحبتني أمّي إلى طبيبة القرية المجاورة، كيلا يعرف أهالي قريتنا عن الخطب الذي أصابني. طلبت فحصي. ولم أكن أفهم أيّ نوع من الفحوصات ذاك. أردتُ أن أخبر أحدهم أنّ العجل الجافل يركض كل ليلة في أحلامي، وأنّ دمعته تغرقني، وأنّ صوت سكاكين أبي، وهي تُشْحذ فوق المسن تنمو كضجيج في رأسي، وأنّ مئزر أبي يُلوثُ كلّ شيء.
اطمأن والديّ عقب ظهور نتيجة الفحص، من هزّة رأس الطبيبة التي أفصحت عن النفي.. «لم يقترب أحدهم من الابنة النقية».
بعدها لم أتذوق اللحوم. كان أبي كلما عاد حاملا فخذ نعجة، أو أكباد العجول ورؤوسها أتقيأ، وأبقى أتقيأ لوقت طويل. كنتُ أزداد نحافة، وجسدي لا يبزغ، كلما كبرتُ ضمرتُ أكثر، وجه ممصوص، عظام بارزة.
قبل ليلة من موته، كان كريس يتقيأ أيضا، يتقيأ شيئا أخضر اللون، وكانت عيناه مغمضتين، وجسده منكمشا. لقد كان متمددا على سريري، كان عليّ أن أبعده، كنتُ مرهقة. طوال النهار أراقب عمال الصيانة جوار عملي، لم أكن أعرف أنّه يحتضر وأنّه كان ينتظرني. لم يكن يريد أكثر من أن يضمه أحدهم. صباحا وجدتُ قيئه الأخضر في أكثر من مكان. هرولتُ غاضبة، طلبتُ من العاملة أن تنظف، وأنا أصيح: «قرف!».
في غياب الأولاد، كنتُ مهووسة بصيانة البيت. كان صوتي يعلو ويهبط وأتحدث إلى العمال، وكان «كريس» يركض ناحيتي ما إن يستدل على رائحتي، قال ابني الأوسط: «إنّه يعرفنا جميعا من روائحنا، أصواتنا، لقد لمس أجسادنا ليعرفنا.. لكنه لم يلمسكِ بعد يا ماما».
أتجاهله، ولكني لا أنسى أن أطعمه، «الطعام فقط يا كريس، لا شيء آخر»، ولكنه كان يتوق لأن يحك جسده براحة يديّ، يتوق للعب، «لا وقت لديّ، هنالك عمل في الصباح، عمل في المساء، هنالك الاتصال اليومي بالأبناء للتأكد من صحتهم، ومن قيامهم بواجباتهم على أتم حال، هذا كل ما يشغلني، لا يمكنك أن تكون عبئا إضافيا».
كنتُ ألعب دوما في المزرعة، لا أعرف الكثير مما يدور في غرفة الذبح، لا أعرف الكثير مما يدور في غرفة تفقيص البيض. أُرضِعُ العجول الصغيرة التي تذبح أمهاتها باكرا، يتعلقن بي وأتعلق بهن، لم تجمعني صداقات في المدرسة، فأكثر ما أجيد التحدث عنه هو عجولنا وأبقارنا ودجاجاتنا. ورغم أننا في قرية واحدة، إلا أنّني لم أشعر بشيء يجذبني للفتيات، لا شيء على الإطلاق. أعود وأتحدث للعجول عن كلّ ما يدور في المدرسة، كنتُ أخبرهم بكلّ شيء، كانت التماعة أعين البقرات مواساة لم تقدمها أمّي لي يوما، ولكن أيّ حظ تعيس أن يكون الإنسان ابنا لجزار؟! أعرف أنّ صداقاتي قصيرة، وعلى عكس إخوتي، لا أتذمر من حلبها وإطعامها وجلب الماء إليها.
من قال: «إنّها لا تقدر الصنيع»؟ أمّي قالت ذلك: «سترفسكِ البقرات يوما»، لكن البقرات لم تكن ترفس إلا تحت سكين أبي!
الأكثر فزعا أن تكون مسؤولا عن موت حياة ما، مهما تبدت ضآلتها، وهشاشتها. كان «كريس» يُصدر صوتا، يخرخر، قال ابني الأكبر: «تفعل القطط ذلك عندما ترغب في المداعبة والملاعبة». ولكن عليّ أن ألوم أبنائي لأنّهم لم يخبروني أنّها تخرخر أيضا عندما تكون مريضة وتطلب المساعدة، لقد تجاهلتُ أنينه الذي كان يصدره في الليلة السابقة لموته. يقول ابني الأوسط: «القطط السيامية ثرثارة بطبعها، علينا أن نفهم إشاراتها المتلاحقة». والحقيقة لم أكن أنتبه لأكثر من الفوضى التي أحدثها في الصوفا الجديدة، لقد خدش انسجام النسيج الثمين، وأدركتُ وقتها أهمية قصّ أظافره، ولكن لم أتمكن من شيء إزاء الأشياء التي أسقطها من على الرفوف. قال أبنائي: «إنّه وحيد ويرغب في أن يتسلى»، وكان عليّ أن أقدر وحدته وفزعه وخرخرته. صاد كريس مرّة وزغا من المطبخ وتركه أمامي، فتعالى صراخي. قال الأولاد: «إنّه يتقرب منكِ بالهدايا يا ماما»، وتضاحكوا وتشقلبوا على الأرض.
لو كان أبي على قيد الحياة الآن، وشاهد لهاث أحفاده وراء قط سيامي، لو شاهد لهفتهم، أيّ غضب كان سيحل بنا جميعا؟ لكن أبي غادر الحياة أبكر مما ينبغي.
شعرتُ ببيتي يضيق عليّ، رغم أن العمال كسروا الجدران الفاصلة بين الصالة ومجلس النساء، وصار المكان أكثر اتساعا مما كان، تأكدتُ أنّني مهما تبدتِ المباهج الكثيرة في حياتي الجديدة، فلن أتجاوز مئزر أبي وسكاكينه ورائحته.
عندما جلستُ في حوش منزلي، أتأمل رهافة عصافير الدوري، وهي تمرق عائدة لأعشاشها في أسراب كثيفة، رفعتُ سماعة الهاتف، واتصلتُ ببيت جدّة الأبناء، أخبرتها أنّني أريد أن أكلمهم في أمر هام. أصواتهم المتلهفة، كلماتهم المتلاحقة، منعتْ كلماتي الغاضبة من أن تخرج إلا مختلطة بالدموع والحشرجة.
هدى حمد قاصة وروائية عمانية
من مجموعة قصصية قيد النشر
..
حثني عامل الحديقة الباكستاني «أديب» بوجه مخطوف وفزع بائن، كي أقترب لأرى شيئا، بالتأكيد هو لا يعرف «كريس» كما نعرفه نحن، ولكنه أدرك - في كلّ يوم اثنين يأتي ليشذب الحديقة- أنّ «كريس» يعني لنا شيئا ما. شاهد ركض ابني الصغير خلفه مرارا في الفناء، شاهد بحث البقية عنه ما إن يغيب عن الأنظار.
انتفض جسدي وأنا أتبع المكان الذي تشيرُ إليه سبابة أديب، كان «كريس» يبسط جسده، وافر الشعر فوق العشب الاصطناعي في الحديقة، كان مبلولا جرّاء ليلة ماطرة، ظلتِ المياه تقطر من شاربيه الرفيعين، شعره الكثيف فرقته جداول الماء الصغيرة التي عبرته طوال الليل، بقي مستلقيا على جنبه دون حراك، فاتحا عينيه اللامعتين، عيناه مفتوحتان بهلع، كأنّه كان في نزالٍ طويل مع الموت، ذقنه مُبقع بآثار قيء. نظرتُ إليه، بسطتُ أصابعي على صدري، وتأوهتُ بجزع. حثني أديب على التقاط صورة، «ينبغي على أبنائكِ أن يتأكدوا أنّه مات حقا»، وأخذ يومئ برأسه بشكل متكرر، ولا أدري أيّ حركة آلية دفعتني للتصوير، صورته من عدة زاويا، ولكنه لم ينهض ليتعلق بقدميّ.
دلفتُ سيارتي كأني أحتمي من شيء ما، كانت لديّ رغبة جادة في أن أجهش بالبكاء. ماذا سأقول للأبناء الآن؟ لكن أديب جاء مُجددا وطرق زجاج النافذة، أفزعني الرفش الطويل الذي يقبض عليه، أنزلتُّ زجاج النافذة، «أين ينبغي أن أدفنه مدام؟ أخشى لو أنني دفنته في الحديقة أن تخرجه القطط الضالة، إنّها تتبع الرائحة دائما»، ثم أشاح بوجهه وشخصت عيناه بعيدا، «ما رأيكِ مدام أن نحفر له حفرة خارج الفناء؟ إنّه يستحق أن يدفن». قال كلاما كثيرا مولحا بالرفش، مُتحدثا بجدية بينما تدور في رأسي الأفكار. أومأتُ برأسي موافقة عندما أشار بسبابته إلى مكان رآه ملائما. بدأتْ قطرات المطر تتراشق بنعومة على الزجاج الأمامي لسيارتي، تذكرتُ الماء الذي ملأ شعر «كريس» الكثيف فالتصق بلحمه، وعاد السؤال الموجع: «ماذا سأقول للأولاد الآن؟!».
كانوا في بيت الجدة في القرية البعيدة، كنتُ أفكر كثيرا في الكلام الذي سأقوله لهم، «الخطأ أننا نأتي بحيوانات لتربيتها، ينبغي ألا نفعل ذلك إن كنا غير مسؤولين كفاية». فكرتُ أنّ كلاما كهذا سوف يجعل أجساد أولادي الأربعة ترتجف تحت وقع كلماتي. غصصتُ بالدمع ولم أتمكن من الاتصال بهم. فكرتُ مجددا بجملة أخرى «فضلتم قضاء العطلة في القرية، وتركتم كريس يموت هنا.. هاااه».
ولكن هذه ليست الحقيقة. أنا أبعدتُ الأولاد لأنّني رغبتُ في صيانة البيت، أنا طلبتُ منهم الذهاب لبيت الجدة، ولم أتمكن من العناية بكريس كما ينبغي، أنا أتحمل وحدي مسؤولية موته!
عندما دخل كريس حياتنا كان صغيرا جدا، اصطحبناه إلى العيادة وأخذ الحقن، كان نظيفا ويقضي حاجته في المكان المخصص، ويحب اللهو كثيرا مع الأولاد. كان يتلقى محبة كبيرة، ورغم ذلك كان يرغب بشدة أن يمرر جسده قرب ساقيّ. كنتُ أتحاشاه كثيرا، وأتحدثُ معه: «أنا أطعمك وأسأل عنك في غيابك فقط.. لا أحضان لا تلامس لا لعب»، ولكنه بقدر ما كان يتعلم الحيل والألعاب يوما بعد يوم، لم يكن يفهم صدي له أبدا. كان أولادي يرغبون بقوة أن أحمله يوما بين يديّ، أن أحضنه، أن أسمح لجسده أن يستلقي فوق حجري. لقد تمازحوا معي مرارا بهذا الشأن، ألقوا به عليّ، سمحوا لمخالبه أن تخمش شحمة أذني. كنتُ مشغولة بضحكات أولادي أكثر من انشغالي بكريس، لا أهتم به، لا أسأل عنه إلا إذا خرج من البيت ولم يعد بعد مرور ساعات، ألقي اللوم على الأبناء الذين لا يهتمون بواجب صغير كهذا.
كنتُ أقلق من قطة الشارع المتوحشة السوداء التي تتحرش به من حين لآخر، قضمتْ مرّة ساقه، وتركته يدمي، وكان أصغر من أن يدافع عن نفسه، شعرتُ بغضبٍ بالغ، كأن أحدهم ضرب ابني. أخذته من فوري إلى العيادة كأمّ قلقة، ثمّ أعطيتُ ابني الأكبر مراهم ورباطًا، ليعتني ببقية المهمة. لم أقترب منه، لم أنحنِ عليه، لم أنظر لعينيه المتوسلة.
عندما غرس ابني الأصغر يديه في شعره الكثيف، قال: «ينبغي أن يكون له اسم»، وعلى غير العادة اتفق الجميع أن يكون اسمه «كريس». لكن هل كان على كريس أن يموت ليفتح ملفا قديما للرعب الخفي؟!
والدي كان جزارا تقليديا، ورث مهنته أبا عن جد، وكنتُ أنا أصغر إخوتي، اصطحبني أبي مرّة معه إلى مكان عمله، بعد أن قالت أمّي: «ابنتك لينة القلب» وكان ذلك في سياق الشتيمة وليس الإطراء.
أركض في الحقل خلف الفراشات، وأحمل النمل على يديّ كي لا تدعسه الأرجل المُتعجلة. كنتُ أصادق النعاج الصغيرة، وأرضع التيوس التي ترفض أمهاتها إرضاعها في قناني رضاعة إخوتي القديمة. قال أبي بصرامته المعتادة: «ستذهبين معي». رافقه إخوتي مرّات عديدة من قبل، وأنا لم أكن لأفعل.
في المزرعة تتحلق حظائر الدجاج والماعز والأبقار والعجول حول غرفة الذبح. جرّ العاملان المساعدان لأبي عجلا صغيرا وطلب مني أن أسقيه الماء. سقيته الماء ومسحتُّ جسده حتى اطمأن لي، ثم أشهر أبي سكينه، وطلب مني أن أنظر إليه. قبض العاملان قوائم العجل الأربعة، وظلت عيناه المتلألئة تستنجد بي.
جزّ والدي عنق العجل، بعد أن سمّى وكبّر. شعرتُ وكأن أحدهم جمدني في مكاني فلم أقدر على غلق عينيّ، شلال دماء انبثق من كل مكان، حتى لم أعد أرى شيئا وسقطتُ مغشيا عليّ. كان آخر ما أتذكره، عيني العجل المرعوبتين المستنجدتين وخواره الأخير، الرفسات التي ما لبثت أن تباطأت. منعني أبي أن أغلق عينيّ، طلب مني أن أشاهد فوران الدماء الساخنة. كانت عيناي تحرقني، وأشعر بوخز كثيف يُنمل جفنيّ، ولكني لم أغمضهما أبدا.
في الأسابيع التالية لم يخرج صوتي، لم أتحدث لأحد، وما إن يكلمني أحدهم حتى أنتحب. قالت أمّي كلاما عجيبا. سألتني أسئلة، من قبيل إن كان هنالك من لمس جسدي، جسدي الهش المنهار بالبكاء، ولم أكن أجيب. وتجاذبت أمّي الخياطة، التي تحيك ملابس نساء القرية، وأبي الجزار قصّة. ألفا قصة عني أفزعتهما كثيرا، فأحاطاني برقابة شديدة بسبب ما توهماه عني. تقول القصّة: «هناك من مسّ البنت». كنتُ صغيرة وجسدي نحيل. اصطحبتني أمّي إلى طبيبة القرية المجاورة، كيلا يعرف أهالي قريتنا عن الخطب الذي أصابني. طلبت فحصي. ولم أكن أفهم أيّ نوع من الفحوصات ذاك. أردتُ أن أخبر أحدهم أنّ العجل الجافل يركض كل ليلة في أحلامي، وأنّ دمعته تغرقني، وأنّ صوت سكاكين أبي، وهي تُشْحذ فوق المسن تنمو كضجيج في رأسي، وأنّ مئزر أبي يُلوثُ كلّ شيء.
اطمأن والديّ عقب ظهور نتيجة الفحص، من هزّة رأس الطبيبة التي أفصحت عن النفي.. «لم يقترب أحدهم من الابنة النقية».
بعدها لم أتذوق اللحوم. كان أبي كلما عاد حاملا فخذ نعجة، أو أكباد العجول ورؤوسها أتقيأ، وأبقى أتقيأ لوقت طويل. كنتُ أزداد نحافة، وجسدي لا يبزغ، كلما كبرتُ ضمرتُ أكثر، وجه ممصوص، عظام بارزة.
قبل ليلة من موته، كان كريس يتقيأ أيضا، يتقيأ شيئا أخضر اللون، وكانت عيناه مغمضتين، وجسده منكمشا. لقد كان متمددا على سريري، كان عليّ أن أبعده، كنتُ مرهقة. طوال النهار أراقب عمال الصيانة جوار عملي، لم أكن أعرف أنّه يحتضر وأنّه كان ينتظرني. لم يكن يريد أكثر من أن يضمه أحدهم. صباحا وجدتُ قيئه الأخضر في أكثر من مكان. هرولتُ غاضبة، طلبتُ من العاملة أن تنظف، وأنا أصيح: «قرف!».
في غياب الأولاد، كنتُ مهووسة بصيانة البيت. كان صوتي يعلو ويهبط وأتحدث إلى العمال، وكان «كريس» يركض ناحيتي ما إن يستدل على رائحتي، قال ابني الأوسط: «إنّه يعرفنا جميعا من روائحنا، أصواتنا، لقد لمس أجسادنا ليعرفنا.. لكنه لم يلمسكِ بعد يا ماما».
أتجاهله، ولكني لا أنسى أن أطعمه، «الطعام فقط يا كريس، لا شيء آخر»، ولكنه كان يتوق لأن يحك جسده براحة يديّ، يتوق للعب، «لا وقت لديّ، هنالك عمل في الصباح، عمل في المساء، هنالك الاتصال اليومي بالأبناء للتأكد من صحتهم، ومن قيامهم بواجباتهم على أتم حال، هذا كل ما يشغلني، لا يمكنك أن تكون عبئا إضافيا».
كنتُ ألعب دوما في المزرعة، لا أعرف الكثير مما يدور في غرفة الذبح، لا أعرف الكثير مما يدور في غرفة تفقيص البيض. أُرضِعُ العجول الصغيرة التي تذبح أمهاتها باكرا، يتعلقن بي وأتعلق بهن، لم تجمعني صداقات في المدرسة، فأكثر ما أجيد التحدث عنه هو عجولنا وأبقارنا ودجاجاتنا. ورغم أننا في قرية واحدة، إلا أنّني لم أشعر بشيء يجذبني للفتيات، لا شيء على الإطلاق. أعود وأتحدث للعجول عن كلّ ما يدور في المدرسة، كنتُ أخبرهم بكلّ شيء، كانت التماعة أعين البقرات مواساة لم تقدمها أمّي لي يوما، ولكن أيّ حظ تعيس أن يكون الإنسان ابنا لجزار؟! أعرف أنّ صداقاتي قصيرة، وعلى عكس إخوتي، لا أتذمر من حلبها وإطعامها وجلب الماء إليها.
من قال: «إنّها لا تقدر الصنيع»؟ أمّي قالت ذلك: «سترفسكِ البقرات يوما»، لكن البقرات لم تكن ترفس إلا تحت سكين أبي!
الأكثر فزعا أن تكون مسؤولا عن موت حياة ما، مهما تبدت ضآلتها، وهشاشتها. كان «كريس» يُصدر صوتا، يخرخر، قال ابني الأكبر: «تفعل القطط ذلك عندما ترغب في المداعبة والملاعبة». ولكن عليّ أن ألوم أبنائي لأنّهم لم يخبروني أنّها تخرخر أيضا عندما تكون مريضة وتطلب المساعدة، لقد تجاهلتُ أنينه الذي كان يصدره في الليلة السابقة لموته. يقول ابني الأوسط: «القطط السيامية ثرثارة بطبعها، علينا أن نفهم إشاراتها المتلاحقة». والحقيقة لم أكن أنتبه لأكثر من الفوضى التي أحدثها في الصوفا الجديدة، لقد خدش انسجام النسيج الثمين، وأدركتُ وقتها أهمية قصّ أظافره، ولكن لم أتمكن من شيء إزاء الأشياء التي أسقطها من على الرفوف. قال أبنائي: «إنّه وحيد ويرغب في أن يتسلى»، وكان عليّ أن أقدر وحدته وفزعه وخرخرته. صاد كريس مرّة وزغا من المطبخ وتركه أمامي، فتعالى صراخي. قال الأولاد: «إنّه يتقرب منكِ بالهدايا يا ماما»، وتضاحكوا وتشقلبوا على الأرض.
لو كان أبي على قيد الحياة الآن، وشاهد لهاث أحفاده وراء قط سيامي، لو شاهد لهفتهم، أيّ غضب كان سيحل بنا جميعا؟ لكن أبي غادر الحياة أبكر مما ينبغي.
شعرتُ ببيتي يضيق عليّ، رغم أن العمال كسروا الجدران الفاصلة بين الصالة ومجلس النساء، وصار المكان أكثر اتساعا مما كان، تأكدتُ أنّني مهما تبدتِ المباهج الكثيرة في حياتي الجديدة، فلن أتجاوز مئزر أبي وسكاكينه ورائحته.
عندما جلستُ في حوش منزلي، أتأمل رهافة عصافير الدوري، وهي تمرق عائدة لأعشاشها في أسراب كثيفة، رفعتُ سماعة الهاتف، واتصلتُ ببيت جدّة الأبناء، أخبرتها أنّني أريد أن أكلمهم في أمر هام. أصواتهم المتلهفة، كلماتهم المتلاحقة، منعتْ كلماتي الغاضبة من أن تخرج إلا مختلطة بالدموع والحشرجة.
هدى حمد قاصة وروائية عمانية
من مجموعة قصصية قيد النشر