أفضل زبدة تفاح
الاحد / 20 / شوال / 1443 هـ - 18:34 - الاحد 22 مايو 2022 18:34
أن ترافق أبطال رواياتك وأفلامك المفضلة إلى أكثر مناطق حياتهم وحشة ووحدة. أن تكون أعزلا برفقتهم، أن تنتفض في مقعدك، وينتهي بك الأمر مصدومًا ومتوجعًا بآلام لا تخصك وأسئلة لا تعبر حياتك العادية، فذلك يعني أنّك أمام عمل جيد وشريكٌ في تصورات متخيلة. فعلى سبيل المثال، عندما يُحبس الأبطال في عزلة غير اختيارية، ويتضاعف إحساسهم ببطء الزمن وغياب الأمكنة، كأنّها لم تكن يوما بمقربة منهم، فإن العدوى تنتقل إلينا بصفتنا قُراء ومشاهدين.
«لقد كانوا يعذبوننا بالعزلة، عزلة خالصة لا يمكن أن تخطر على بال أحد، لم نتعرض لأيِّ تعذيب جسدي، بل سلمونا ببساطة إلى فراغ مُطلق، ومن البديهي أن لا شيء في العالم يُعذب النفس البشرية أكثر من الفراغ»، يرد هذا الوصف في رواية «لاعب الشطرنج» للكاتب النمساوي ستيفان زفايج، نشرت عام 1941م. فعندما يقع البطلُ رهن الاعتقال في غرفة أشبه بسجن، فإنّه يبحثُ عن أي شيء يمكن أن يملأ الوقت، ولذا تجرأ وسرق، إلا أنّ يده لم تجلب له أكثر من كتاب في فنون لعبة الشطرنج، وهي لعبة لم تستحوذ يوما على اهتمامه، لكن الفراغ دفعه لأن يصاب بالهوس بها، لدرجة أنّه صنع من بقايا الطعام بيادقه ليلعب مع نفسه، فعبرنا معه مأزقه كقراء ولعلبنا معه.
عاش الكثير منّا تجربة الإغلاقات بسبب «كوفيد-19»، ولعلنا شاهدنا البعض وهم يصابون بهلع من الوحدة والانقطاع عن العالم. تلك الخشية والذهول من تحول حياتنا المباغت إلى شيء غير مألوف. ولقد استطاع فيلم «oxygen 2021»، أن يُظهر لنا مشاعر مُقاربة، عندما شاهدنا البطلة تستيقظ لتجد نفسها في وحدة تبريد طبية مُغلقة، وليس بصحبتها سوى حاسوب ذكاء اصطناعي، بينما يتناقص الأوكسجين بشكل متواتر. المكان ضيق وهي محاطة بالأجهزة، وطوال الفيلم نشعر وكأننا مُكتفون وعاجزون بصحبتها، ولا أدري كيف تمكن الفيلم من خلق كل تلك التوترات النفسية العميقة من مكان واحد، جاعلًا الذكريات المُتسللة هي الصورة المتحركة الوحيدة إزاء جمود البطلة -وجمودنا- في مكان واحد.
فيلم «Passengers 2016»، كان أيضا عن الصحو قبل الموعد المُحدد في سفينة فضائية. عن الوحدة التي تتبعها الكثير من القرارات الصعبة، عن الحبّ الذي يُعطي العزلة مذاقا جديدا.
لكن أكثر القصص والأفلام قسوة هي تلك التي تتعلق بعزل الأمهات وحبسهن، فهن لا يشعرن آنذاك بفرديتهن، قدر إصابتهن بالذعر من أن يتأذى أطفالهن.
في فيلم «room 2015»، الذي تدور أحداثه في حجرة من أربعة جدران، تشعرنا الأمّ بأنّ الغرفة الضيقة أكبر مما ينبغي لطفل صغير، رغم أنّهما بالكاد يلاحظان تغير الوقت بين النهار والليل، فثمّة مكان للطهي وآخر للاستحمام ومكان لتناول الطعام، لكننا نتشنج من القصّة المخفية التي ما تلبث أن تظهر لنا ببطء. لا يعرف الطفل شيئا عمّا يدور في العالم الأوسع، فقد بذلت الأمّ جهدًا لكيلا تُشعره بغرابة حياته. لكن كان عليه أن يعرف أنّ أمّه مُختطفة ومحبوسة في غرفة، لتنسج بصحبته خطة هروبهما. تكمن قوة الفيلم في تلك النظرة التي رمق بها طفل الخامسة العالم الذي لم ينتم له يوما، فأصبحنا -كمشاهدين- عيني الصبي الجامحتين.
في فيلم «shut in 2022»، تُحبس الأمّ من قبل زوجها في مخزن مُؤن، وتبقى معزولة عن طفليها. فتاة دون سن المدرسة ورضيع. ومن ذلك المكان توجب عليها أن تفكر كيف يمكنها حماية طفليها من أبٍ مُدمن ومن صديقه المتحرش؟ وكيف يمكن للأشياء الصغيرة في غرفة المؤن أن تعيد ترتيب مشاعرها المتذبذبة تجاه أمّها وعائلتها، عبر خيط آسر ومتصل من أول الفيلم حيث تظهر لنا حديقة التفاح الفاسد، وانتهاء بدلالات يمضي الفيلم في كشفها بتأنٍ.
ويبدو أنّنا -بصفتنا قراء ومشاهدين- كتلك الحديقة نتضرر بصورة دؤوبة لنُعطي أفضل زبدة تفاح، كما قرأت البطلة في وصية أمّها: «إذا تضرر جزء من التفاح فلا ترميه، إلا إذا كان فاسدا تماما. خلاف ذلك اقطعي البقع المتضررة واحتفظي بالأجزاء الجيدة. لا يعرف الكثير من الناس هذا السر، لكن هذا التفاح المتضرر يُصنع منه أفضل زبدة تفاح».
«لقد كانوا يعذبوننا بالعزلة، عزلة خالصة لا يمكن أن تخطر على بال أحد، لم نتعرض لأيِّ تعذيب جسدي، بل سلمونا ببساطة إلى فراغ مُطلق، ومن البديهي أن لا شيء في العالم يُعذب النفس البشرية أكثر من الفراغ»، يرد هذا الوصف في رواية «لاعب الشطرنج» للكاتب النمساوي ستيفان زفايج، نشرت عام 1941م. فعندما يقع البطلُ رهن الاعتقال في غرفة أشبه بسجن، فإنّه يبحثُ عن أي شيء يمكن أن يملأ الوقت، ولذا تجرأ وسرق، إلا أنّ يده لم تجلب له أكثر من كتاب في فنون لعبة الشطرنج، وهي لعبة لم تستحوذ يوما على اهتمامه، لكن الفراغ دفعه لأن يصاب بالهوس بها، لدرجة أنّه صنع من بقايا الطعام بيادقه ليلعب مع نفسه، فعبرنا معه مأزقه كقراء ولعلبنا معه.
عاش الكثير منّا تجربة الإغلاقات بسبب «كوفيد-19»، ولعلنا شاهدنا البعض وهم يصابون بهلع من الوحدة والانقطاع عن العالم. تلك الخشية والذهول من تحول حياتنا المباغت إلى شيء غير مألوف. ولقد استطاع فيلم «oxygen 2021»، أن يُظهر لنا مشاعر مُقاربة، عندما شاهدنا البطلة تستيقظ لتجد نفسها في وحدة تبريد طبية مُغلقة، وليس بصحبتها سوى حاسوب ذكاء اصطناعي، بينما يتناقص الأوكسجين بشكل متواتر. المكان ضيق وهي محاطة بالأجهزة، وطوال الفيلم نشعر وكأننا مُكتفون وعاجزون بصحبتها، ولا أدري كيف تمكن الفيلم من خلق كل تلك التوترات النفسية العميقة من مكان واحد، جاعلًا الذكريات المُتسللة هي الصورة المتحركة الوحيدة إزاء جمود البطلة -وجمودنا- في مكان واحد.
فيلم «Passengers 2016»، كان أيضا عن الصحو قبل الموعد المُحدد في سفينة فضائية. عن الوحدة التي تتبعها الكثير من القرارات الصعبة، عن الحبّ الذي يُعطي العزلة مذاقا جديدا.
لكن أكثر القصص والأفلام قسوة هي تلك التي تتعلق بعزل الأمهات وحبسهن، فهن لا يشعرن آنذاك بفرديتهن، قدر إصابتهن بالذعر من أن يتأذى أطفالهن.
في فيلم «room 2015»، الذي تدور أحداثه في حجرة من أربعة جدران، تشعرنا الأمّ بأنّ الغرفة الضيقة أكبر مما ينبغي لطفل صغير، رغم أنّهما بالكاد يلاحظان تغير الوقت بين النهار والليل، فثمّة مكان للطهي وآخر للاستحمام ومكان لتناول الطعام، لكننا نتشنج من القصّة المخفية التي ما تلبث أن تظهر لنا ببطء. لا يعرف الطفل شيئا عمّا يدور في العالم الأوسع، فقد بذلت الأمّ جهدًا لكيلا تُشعره بغرابة حياته. لكن كان عليه أن يعرف أنّ أمّه مُختطفة ومحبوسة في غرفة، لتنسج بصحبته خطة هروبهما. تكمن قوة الفيلم في تلك النظرة التي رمق بها طفل الخامسة العالم الذي لم ينتم له يوما، فأصبحنا -كمشاهدين- عيني الصبي الجامحتين.
في فيلم «shut in 2022»، تُحبس الأمّ من قبل زوجها في مخزن مُؤن، وتبقى معزولة عن طفليها. فتاة دون سن المدرسة ورضيع. ومن ذلك المكان توجب عليها أن تفكر كيف يمكنها حماية طفليها من أبٍ مُدمن ومن صديقه المتحرش؟ وكيف يمكن للأشياء الصغيرة في غرفة المؤن أن تعيد ترتيب مشاعرها المتذبذبة تجاه أمّها وعائلتها، عبر خيط آسر ومتصل من أول الفيلم حيث تظهر لنا حديقة التفاح الفاسد، وانتهاء بدلالات يمضي الفيلم في كشفها بتأنٍ.
ويبدو أنّنا -بصفتنا قراء ومشاهدين- كتلك الحديقة نتضرر بصورة دؤوبة لنُعطي أفضل زبدة تفاح، كما قرأت البطلة في وصية أمّها: «إذا تضرر جزء من التفاح فلا ترميه، إلا إذا كان فاسدا تماما. خلاف ذلك اقطعي البقع المتضررة واحتفظي بالأجزاء الجيدة. لا يعرف الكثير من الناس هذا السر، لكن هذا التفاح المتضرر يُصنع منه أفضل زبدة تفاح».