أعمدة

ما لا يعرفه المبدعون عن أنفسهم

 
'فاقصص القصص لعلهم يتفكرون' ( الأعراف 176)، الحكايات دائما وعبر كل الأزمان تجعلنا نمتلك خبرات أكثر، تفوق خبراتنا الشخصية وتجاربنا الفردية، فننفتح على أحداثها فترافقنا بخيالاتها وواقعيتها ودروسها، فتجعلنا مفعمين بالحياة التي أضيفت إلى حياتنا الحالية، فيظل سرد الحكايات دائما المعلم الكبير لكل ما يتوق الكون لتعليمه، ومن قصص المبدعين ورحلتهم الإبداعية تختزل مئات السنوات، فتنتقل إلينا خبراتهم وأفكارهم بطابع فني حكائي، وهذا المقال لا يعرض أيا من تلك القصص ويرويها، بل هو يجمع خلاصة رحلتهم الإبداعية في دروس جوهرية مستفادة، فكما يقول الروائي محمد صلاح العزب: 'لأن كل شيء يضيع إلى الأبد، وآخر ما يتبقى من الإنسان حكاية لا تموت، لأن الحكاية هي للأبد'.

إن الاستقراء المنهجي في قصص المبدعين بداية بقصة اختراع الكتابة إلى قصص غزو الفضاء، وتتبع تلك الآثار التي ساروا عليها أو كما يتناهى لنا؛ يعطي الباحث رؤية تفوق تصور المبدع نفسه، وعن معرفته برحلته الإبداعية نحو المثال الأمثل للفكرة، مهما كان فائق الوصف، وساردا جيدا للتفاصيل، منقبا عن الحكم والدروس، حيث إن الرائي يمتلك زاوية تجعله ينظر إلى الأمر بكليته بتجميع تلك الأجزاء التي يعرفها المبدع، حينما يكون المبدع في حقل اهتماماته منهمكا في نقلاته التطورية.

اعتدنا أن يسرد لنا المبدع قصة رحلته نحو الإبداع، فيلخصها كدروس متكررة، تتبع الشغف والتركيز، ومحاولة زيادة رصيده المعرفي التراكمي، بخطوات صغيرة جدا متتابعة بلا توقف، وباجتهاد مكثف يكسر كل الحواجز، في سبيل تطبيق فكرته الإبداعية محاولا التسويق لها بكافة الأشكال، ومحاولة تطبيقها رغم كل الهجمات التي تتلقاها الأفكار الإبداعية الجديدة.

وحديثنا هذا لا يناقض كل ذلك؛ إنما أود أن أذهب إلى ما هو أبعد من رؤية المبدع القاصرة حول تجربته الفريدة، وهو إضافة إليها بعدسة خبير قارئ في الأنماط، ومتتبع للأحداث على نحو تسلسلي، حيث إن هناك دوما خطبًا وخلًلا ما حين لا تسرد الدروس كاملة، فكما يقول الكاتب بهاء طاهر: 'الحكاية لا تكتمل بروايتها إنما يكملها من يسمعها'.

لنطرق باب العصي المجهول من الدروس المستفادة من قصصهم، فنجد أن ذلك الشغف الذي يستمد منه الدافع في كثير من الأحيان مقرون بالألم والمشاعر المكبوتة التي تدفعه للتعبير عنها على نحو فني أو إنجازات مميزة، والسعي الدؤوب للتشافي عبر العمل والإبداع، حيث إن الحاجة إلى التقدير تظل من الحاجات الأساسية لدى الإنسان، التي لا يمكن نكرانها كما حددها بلوم في تصنيفه للحاجات.

كما أن التغذية البصرية الحسية التي تسير بالتوازي مع الكم المعرفي الذي يحاول المفكر في حقله تجميعه والاطلاع عليه؛ لا يقل أهمية لاستعادة توازن القدرات العقلية، ولتصمت الأفكار في رأسه قليلا، لتنقله إلى المرحلة الأهم في المرحلة الإبداعية، فكما يقال إن ذكاء القلب يغذي ذكاء العقل، وقد يتجاوز كثير من العباقرة وصفها كمرحلة رئيسية مهمة في رحلتهم الإبداعية، ورغم أنها لا تغني عن الخطوات والطريقة العملية، إلا أنها تظل مرحلة مهمة في توليد الأفكار، فكما يقول عالم الاقتصاد والاجتماع الألماني ماكس فيبر: ' الإلهام ليس بديلا عن العمل الجاد'، إلا أنها تظل ذات أهمية كبرى في توليد تلك الأفكار والحلول، التي تحمل الطابع المتفرد، وتدفع بعجلة التطور نحو الأمام بنقلات عديدة تفوق تلك الانسيابية البطيئة في التغيرات المتلاحقة، والتي يحدثها القلة القليلة من البشر.

ذلك الإلهام الذي يهديهم وميض تلميحات نافذة ذات أسرار تبدو كأنها قادمة من الوجود من حوله بدون أن يولدها فكره، تخترق عقله ويخفق لها قلبه، فيعرف أنها هبة جاءت بعد عملية اختمار الأفكار.

كما يسترسل المبدع أو أيا كانت التسمية التي تراها ملائمة في وصف مراحل رحلته، أو بتحليل مقتضب نحو الاكتشاف أو العبقرية، دون أن يدرك أن للخطوة الأولى الأكبر، وخاصة عندما تكون مقرونة برؤية مستبصرة للمستقبل يثق بكينونة فكرته، فبينما من حوله يحاولون تجاوز حدود الفكرة؛ هو لا يرى أيا من الحدود أساسا، واثقا بما ستؤول إليه تلك الخطوة من نقلات حضارية، بمعنى أنه يبدأ أو بدأ على كل حال وعينه من بعيد ترمق ذلك الهدف المتحقق أولا في عقله.

فكثير من قصص المبدعين يروى فيها أن الخطوة الأولى لهم كانت بلا إمكانات أو دعم حقيقي يحتفي للفكرة التي يلاحقونها رغم ذلك، ففكرتهم دوما كانت أعظم من مخاوف الفشل والرفض، وأن قدرتهم على قراءة المسيرة القادمة المستقبلية بثقة في البصيرة تدفعهم دفعا نحو تحقيق الهدف، إلى أن تبلغ الفكرة الباب وترفع من شأن ذلك المجال الذي يعملون عليه، بدون أن يكون مقصدنا مقتصرا على الاختراعات التقنية، بل يكون شاملا للمنجزات المتفردة التي تسير بنا نحو الأمام.

في حين يتجاهل كثير منهم كيف أن عقولهم صعبة المراس إلى الحد الذي يوقعهم دوما في دوامة المآزق، حيث يكونون خارج القطيع لذا يشن الهجوم عليهم، وفي قصصهم كثير من تلك النماذج التي بات علينا تفهمها ورعايتها، حيث إن العملية الإبداعية وإن سعى المبدع من خلالها إلى الموازنة؛ فإنها بحاجة إلى كثير من التركيز على جانبه الإبداعي إلى الحد الذي ستتأثر فيه مجالات أخرى لبعض الوقت، وحينها يكون من الأجدى تقديم مزيد من الدعم، وليس إلى التقريع والنقد الهدام، كما أنهم يعرفون نظرة المجتمع حول تلك الأفكار المستحدثة، ومدى تخوفهم من خلخلة النظام، إلا أن المبدع يعرف جيدا باستبصار وحكمة كيف أنه من الممكن أن تتحول تلك الفكرة بمساوئها إلى إيجابيات ومزايا.

كما أنهم بحاجة إلى توجيه مساراتهم مرة بعد مرة، حتى أن نجاحهم ما هو إلا سلسلة متلاحقة من الفشل والإخفاقات، ويكاد يكمن السر حقيقة في الاستمرارية، بوتيرة تتناسب مع تغيراتك وتغيرات الحياة، ومن الأمور الأكثر أهمية التي يتجاهل المبدع الحديث عنها أنه لا عمل إبداعي بأصالة نقية، تصل إلى المستوى والمعنى الحرفي لكلمة أصيل، فالإبداع بحد ذاته صنع الجديد من التراكيب القديمة، فلا شيء ينفصل عن منظومته المعرفية السابقة المتراكمة، ولا يمكننا إهمال تجارب الآخرين الأولية السابقة المتراكمة، ولا يمكننا إهمال تجارب الآخرين الأولية السابقة في صقل تجربته الإبداعية، فما هو إلا إكمال لمنظومته تسير نحو المزيد من التحضر والفردانية، التي يعي فيها أنه مهما كانت أهمية مشاركة الآراء والتفكير الجمعي؛ إلا أن التفكير الفردي من شخصية مبدعة تحمل رسالة إنسانية لها النقلة الأهم والأجرأ في تميز الرحلة الإبداعية، وأخيرا هم أنفسهم حتى لا يدركوا أنهم دوما في حالة تتبع لتلك الطرق المختصرة المدعومة بالذكاء والتركيز يجتازون بذلك الفواصل الزمنية، التي يسلكها بقية الناس برتابة وهدوء.

* فوزية الفهدية كاتبة وروائية عمانية