عمان الثقافي

السينما وظل الحرب الطويل

 
كانت الحرب بحسب موقع الموسوعة المعتمد من قبل جامعتي هارفارد واكسفورد موضوعاً شائعاً للصور المتحركة منذ اختراع هذا الوسيط أواخر القرن التاسع عشر، لكن لا يوجد نوع واحد من أفلام الحرب منذ صناعة أفلام حروب رعاة البقر ضد الهنود وصولاً لحرب النجوم (1977) والذي يجسد حرباً وهمية بين المجرات. تُستخدم أفلام الحروب أحياناً كاستعارة، لكننا بلا شك نريد هنا الاقتراب من الفيلم الذي يجسد الحرب كما هي لا باعتبارها مجازاً لشيء آخر. مع ذلك فإن أفلام الحرب تعكس أغراضاً عديدة منها مناهضة الحرب أو تأييدها أو الخسائر التي تتسبب فيها. ويعود سبب شعبية هذه الأفلام إلى الاعتراف الفني الواسع بها بالإضافة للأرباح الكبيرة القادمة من شبابيك التذاكر. وباختلاف أغراض هذه الأفلام فقد درج على تعريف أفلام الحروب على أنها نوع أدبي يتم فيه سرد قصة خيالية أو قائمة على حقائق تاريخية فعلية، التخطيط لتلك الحرب وخوضها والقتال فيها يجب أن يملأ جزءاً كبيراً من وقت تشغيل الفيلم.

يشير العديد من المؤرخين وفقاً للموسوعة لصعوبة تحديد أول فيلم حربي تم إنتاجه حول العالم، لكن يذهب كثيرٌ منهم لنسب ذلك لفيلم مدته دقيقة ونصف وهو مؤيد للحرب، يظهر فيه تمزيق العلم الإسباني، وتم إنتاجه في مدينة نيويورك بعد إعلان الولايات المتحدة الحرب على أسبانيا عام 1898.

سؤال الفن والكارثة:

وعليه عن أي سينما حرب أتحدث هنا؟ عبدالكبير الخطيبي في تقديمه لكتاب عبدالفتاح كيليطو «الأدب والغرابة» يقول: إن «الكتابة ليست مجرد نقل للكلام، بل على العكس، تعمل ضد الكلام أو على الأقل بطريقة موازية له» هذا الكتاب الذي يتحدث عن «أفق انتظار» يفرضه تصنيف النوع كان مأساة أو ملهاة اجتماعية أو نوعاً آخر، وعندما نتحدث عن نوع فني فإننا بالضرورة نستند إلى نظرية في الأنواع لذلك فإن التصنيف الذي أود اقتراحه هو ما ينطلق من مقالة الكاتب المصري هيثم الورداني «الظل الطويل للكارثة» إذ يكون الاستثنائي والفاجع في الكارثة هو كونها النقطة التي ينهار فيها التاريخ، تماماً مثل الحرب، «ترى ما الذي يمكن أن ننتظره من الأدب إذًا من موقعنا هذا؟ لعل الإجابة الأكثر منطقية هي ألا ننتظر منه أعمالاً تخبرنا عن الكارثة، أو تجعلنا نتخيل مكانًا بديلاً عنها، بل بالأحرى ننتظر منه أعمالا كارثية. لن تكون الكارثة موضوع هذه الأعمال، وإنما ستكون شرط كتابتها. فمهمة الأدب الحقيقية لا تكمن في الإخبار، بقدر ما تكمن في إيجاد شكل لما هو مستعصٍ على التشكل».

ينطلق الورداني من بينامين في وصفه لمحرك الكاتب، وهي إشارة إنذار، يعمل العمل الفني وفقاً لمنطقها ولا يعني ذلك أن يتضمنها العمل الفني مباشرة، وهذه الإشارة لا يمكن تثبيتها لرؤية الحقيقة اذ بالإمكان لمحها لمحة خاطفة مما ينتج في النهاية لا جنساً ادبياً طوبوياً أو جحيمياً وإنما كما يصفها الورداني «كجميلة نافرة». إذن هل من المفترض أن تقدم لنا سينما الحرب مشاهد للقتال؟ هل من الضروري أن نرى الطرفين المتخاصمين وهما يتحركان في ساحة المعركة؟ أم أن الفن وفقاً لما تقدم، يقتنص سرديته الخاصة، ويثبتُ عدسته على ما هو خاطف، على اعتبار أن الحقيقة تقف في ذلك الضوء المهتز، وفي تلك المساحات الصغيرة الخلفية للكارثة الاستثنائية؟ أستبعدُ هنا إذن كل الأفلام الدعائية، وأفلام الإثارة والتشويق، متوخية الوصول للأعمال التي لمست هشاشة الإنسان في الحرب، وضعفه واستطراده في الاستسلام للكارثة على اعتبار أنه ظلٌ لهذه الكارثة وتمثيلٌ لها.

ظلالٌ للحرب:

قدمت السينما الأمريكية الحرب طيلة عقود، خصوصاً الحرب العالمية الثانية، لكن مخرجاً أمريكياً قدم لنا وجها آخر للحرب هو ستانلي كوبريك ففي العمل الذي شارك في كتابته وأخرجه « Paths of Glory والذي أنتج نهاية عام 1957 ينقل عدسته لفرنسا عام 1916 وهي تحارب ألمانيا على الجانب الآخر في الحرب العالمية الأولى، إلا أننا لا نشاهد أي ألماني في الفيلم، عدا فتاة مختطفة تسلي الجنود في أحد ملاهي القرية بجانب معسكرهم، الفيلم ينقل الحرب ومن يقفون وراءها على نحو هزلي رغم قسوة ما سنشاهده، إذ يبدو كل شيء تافهاً ورخيصاً، المشاهد تنتقل بين القصور الفارهة المفروشة بالسجاد النادر إلى أماكن الكتيبة الضيقة والموت المجاني فيها.

يقرر قادة الجيش خوض هجوم على تل هانت، رغم قلة الدعم والموارد مما يمكن أن يعتبر عملية انتحارية لكل جنود الكتيبة، يرفض قائد الكتيبة الأمر إلا أن قادة الجيش يشجعونه على المضي فيها باسم الوطنية فيقتبس مقولة لصمويل جونسون الذي عرف عنه بأنه فيلسوف المستعمرات الأمريكية (الوطنية هي الملاذ الأخير للأوغاد). إلا أنهم ورغم ذلك يبدؤون الهجوم على تل هانت ويسقط الكثير منهم صرعى هذا المخطط غير المعقول. ليتقرر محاكمة من نجا من الجنود في محاكمة عسكرية بتهمة الجبن وعدم الوصول للسلك الشائك للألمان، فيتقرر اختيار ثلاثة ينوب واحد منهم عن كل فرقة من فرق الكتيبة الثلاث، ويتم اختيار أحدهم بالقرعة والآخر لأنه غير مندمج اجتماعياً مع بقية جنود الفرقة، والثالث بسبب عداوة شخصية مع رئيس فرقته. كل هذه الأسباب العبثية التي ستأخذ الجنود للمقصلة بعد أن حكم عليها بالإعدام بالرصاص، تؤسس مشاهد كاملة في الفيلم، ففي جولة لأحد قادة الحرب، نقابل في المشاهد الأولى جندياً شارداً ويمكن أن يكون مجنوناً نظراً لتعرضه لصدمة الحرب، فهو يهذي بلا توقف مما يثير حفيظة القائد فلا مكان هنا للضعفاء والجبناء، إلا أن مشاهد أخرى هي جوهرة هذا الفيلم وهي اللحظات التي يقضيها المحكومون الثلاثة بالإعدام داخل الزنزانة بانتظار الموت برفقة راهب يأخذ اعترافاتهم، ثم البكاء في الطريق المؤدي للمقصلة وجرهم إلى هناك، يكاد هذا المشهد أن يكون من أكثر مشاهد الفيلم فظاعة ورعباً رغم أنه لا ينقل لنا مشهداً من الحرب بل ما يحدث في صفوف أحد الجيوش.

يقول القائد الذي يحيي حفلاً راقصاً عشية يوم الإعدام: الجنود مثل الأطفال. الطفل يريد من أبيه ان يكون حازماً والجنود يتعطشون للانضباط» يقول هذا لقائد الكتيبة المهموم بمصير ثلاثة من جنوده والذي يُنعت هو الآخر لأنه يرفض قتلهم بالمثالي الذي يشبه «مجنون القرية».

الفيلم ينتهي بلحظة جنائزية عندما يرتاد الجنود الملهى لتصعد فتاة ألمانية مختطفة لتغني وبعد أن يبدو أنهم عدائيون وقذرة يستسلمون لإيقاع الأغنية ويشاركون جميعهم في الغناء، مثل جوقة تُجرُ إلى الموت. ليس هذا عمل كوبريك الوحيد المنشغل بالجنود الذين يخوضون الحروب وما يحدث معهم باستمرار حتى عملية تدجينهم ليصبحوا قتلة كما ينبغي عليها أن يكونوا عليه فهناك فيلمه الآخر الرائع والذي لا يقل جمالاً وعذوبة رغم قساوته عن فيلم دروب المجد وهو فيلم : Full metal jacket الذي أنتج عام 1987 وشارك كوبريك في كتابته وأخرجه بنفسه، لكن هذه المرة عن الحرب الأمريكية على فيتنام، ونبدأ منذ اللحظات الأولى تهيئة أناس عاديين لكي يكونوا جنوداً وضريبة أن لا تقدر على هذا التحول هو أن تنتحر إنها لمأساة، قلما يتحدث عنها أحد، ما الذي يدفعه كل جندي من نفسه وحياته لكي يصبح مقاتلاً في ساحة المعركة.

بعيداً عن السينما الأمريكية يمكن أن نجد أكثر أفلام الحرب فنيةً، وهي سينما قادمة من عمق كارثة الحرب، لعل أبرز هذه الأفلام بالنسبة لي هو الفيلم البيلاروسي «come and see « للمخرج السوفييتي إليم كليموف صدر عام 1985 ويصور لنا ويلات حرب هتلر على بيلاروسيا عام 1943 من خلال طفل صغير اسمه فيلورا نشاهد تحول ملامحه عبوراً بالخسارات الفادحة التي سيدفعها في الحرب. يترافق مع صوت غلاشا فتاة حالمة شاردة ستصحبه وهي تصرخ في لحظة تحول كبيرة «قتلوا كل عائلته إنه يأخذنا للمستنقعات» عندما يقرر قطع مستنقع من الوحل ويكاد يغرق فيه بحثاً عن عائلته التي خلفها وراءه مقتولة في القرية. إن بحثنا عن أي معلومات عن الفيلم سنجد بأنه فيلم معرف بـ «anti-war film» أي فيلم مناهض للحرب، الأمر الذي يعيدنا للنقاش الذي بدأنا به هنا عن أفلام الحرب، كل عناصر القتال موجودة في الفيلم، القنابل تتفجر، والبنادق تتوجه إلى الجهة الأخرى نحو العدو، لكن بالتأكيد هنا ما هو أكثر من ذلك منذ المشهد الافتتاحي للفيلم والذي يصور الأطفال وهم يلعبون لعبة الحرب، وسرعان ما يظهرون مثل البالغين وهم يبحثون عن أسلحة مدفونة في الخلاء.

إذن نحن أمام تقنية سرد سينمائية تعتمد على اللقطة المقربة، تحديداً البورتريه، إذ من خلال وجه الطفل نجد طيف الشيخوخة رغم أن الزمن لم يمر، وكل ما يمكن أن نشاهده في عيني فيلورا هو الرعب الذي لا يمكن تخيله وهو منغمس فيه تماماً، وعليه أن ينقذ نفسه من الموت، قد يكون المشهد الأخير الذي نعرف من خلاله أن النازيون أحرقوا 628 قرية بيلاروسية في تلك الحرب لا شيء في مقابل القسوة التي نصارعها من خلال رحلة الطفل فيلورا، ثم هنالك على الجانب الآخر يظهر الشرير وهو يلعب مع حيوانه الأليف. إنه التصوير الأمثل الذي يقابل وحشية لمشاهد صامتة وبطيئة ولوجه ضعيف هو وجه فيلورا يزداد ذهولاً كلما مر الوقت. يكتب الناقد روجر ايبرت عن الفيلم: هل صحيح أن الجماهير تطالب بنوع من الإفراج أو التنفيس والتطهير في نهاية العمل؟ ألا نقبل بفيلم يتركنا بلا أمل؟ أن نكافح من أجل رفع مستوى تقلب

المشاهدين في مستنقع الحقد؟ هناك مشهد غريب يحدث في الغابة، الشمس تتساقط خلل الأوراق، عندما تنفجر الموسيقى التصويرية، التي كانت قاتمة وحزينة، فجأة نسمعُ موتسارت. وماذا يعني هذا؟ إنه خيال، فيلورا الذي ربما لم يسمع مثل هذه الموسيقى من قبل. ينزل موتسارت إلى الفيلم مثل آلة قديمة، ليخرجنا من يأس الفيلم. يمكننا قبوله إذا أردنا، لكنه لا يغير شيئًا. كان ذلك مثل التهكم الساخر.

أفلام الحرب في العالم العربي:

كنتُ أتوق للحديث عن صناعة فيلم الحرب في العالم العربي، خصوصاً وأن هنالك أمثلة جديرة بالدراسة والاهتمام قادمة من فلسطين تحديداً لكن هذا سيتطلب ملفاً خاصاً، يتطرق للأعمال الفنية الممتازة التي تصور الحروب التي خاضتها فلسطين بالإضافة إلى إدراك المحتل للقيمة الثقافية القادمة من هذه الأعمال وسعيه خلال مرحلة كاملة نحو إنتاج أفلام فلسطينية تقدم سردية تتواءم وسردية المحتل. لكنني سأخصص هذا الجزء للحديث عن واحد من أهم المخرجين العرب وهو المخرج اللبناني «مارون بغدادي» وأفلامه عن الحرب الأهلية اللبنانية.

وأقتبس هنا من مقالة سابقة لي عن فيلم حروب صغيرة: صور الفيلم عام ١٩٨٢م في بيروت التي كانت ترزح تحت وطأة الحرب ويحكي قصص ثلاثة شخصيات رئيسية تتقاطع مصائرها في بيروت المنكوبة والمحطمة عام ١٩٧٥م في بدايات الحرب الأهلية، تمثل شخصية ثريا الذي لعبت دورها الممثلة ثريا خوري، شخصية شابة تودع عائلتها التي تقرر الهجرة إلى فرنسا جراء التحولات التي يمر بها البلد، إلا أنها تصر على المكوث في بيروت متذرعة بدراستها الجامعية، في الوقت الذي تكون فيه ثريا مرتبطة بعلاقة عاطفية متينة بشاب آخر هو طلال، تقرر أن تبقى لأجله. طلال شاب يختلف عن عائلته وعن صراعاتها المتوارثة على الحكم في «البقاع» وسلطة ذويه، ولا يريد سوى التسكع في بيروت المدينة برفقة أصدقائه، ويجد نفسه منفصلاً عن عائلته، لكن اختطاف والده يضطره للعودة إلى هذه العائلة والوقوع أسيراً لصراعاتها. في فترة بُعد طلال عن ثريا، تتعرف هذه الأخيرة على شخصية المصور نبيل، الفنان الذي لم يعد يجد وقتاً لأعماله الفنية بسبب طلبات صور توثق الحرب وآثارها، إلا أنه يجد نفسه متورطاً عند تاجر مخدرات باتهامه نبيل التصرف ببضاعته التي تكلف آلاف الدولارات. فيهرب نبيل طوال الوقت من هذا التاجر وأتباعه ليقع في حب ثريا. تعيش هذه الشخصيات الثلاثة تحدياتها الشخصية بينما تلقي الحرب الأهلية اللبنانية ظلالها الحزينة والمهزومة على مسار هذه التحديات.

يكتب الباحث في التاريخ حسن الطهراوي عن مارون بغدادي: «درجت بيروت على أن تكون ديكوراً للأفلام. لكن شيئاً ما تغير ودعاها لتلعب دور الأبطال أو الأبطال المضادين. هذا ما كتبه سمير قصير في «تاريخ بيروت»، لكن الأقرب أن نقول شخصاً ما، هو مارون بغدادي، الشاب في بداية عشرينياته، العائد من باريس إلى بيروت بعد سنوات قضى بعضها في دراسة الحقوق في السوربون، قبل أن يقطع دراسته بعد سنتين، ويتوجه إلى معهد الدراسات السينمائية العليا في باريس. وذلك الشيء الذي ذكره قصير كان فيلم بغدادي الطويل الأول «بيروت يا بيروت» الذي افتتح مرحلة في سبيل سينما لبنانية جديدة».

كتب إبراهيم العريس هو الآخر عن مارون بغدادي كتاباً مهماً هو «الحلم المعلق ـ سينما مارون بغدادي» صدر في طبعته الأولى عام 1993 مستعرضاً رحلة بغدادي مع الأفلام التسجيلية وصولاً لفيلمه الروائي الثاني «حروب صغيرة» الذي انشغل فيها بغدادي بالمهمشين في خلفية حرب السبع سنوات في لبنان فهو منذ العنوان «ابتعد عن الجبهة وعن حركة التاريخ الكبيرة وعن التحليلات السياسية وعن مشاهد البطولات الخارقة والإحباطات الحارقة ليلتقط على هامش حرب كانت بالنسبة إلى زمن فيلمه لا تزال في بدايتها، شخصيات تعيش حروبها الخاصة». وأكثر ما يذهلك عند مشاهدة هذا الفيلم هو الظلال التي برع في التقاطها، والتقدم الشِعري في اقتناص مأساة الحرب وقد أضحت مثل كابوس كبير تتحرك فيه شخصيات عادية. نقترب من جمال الممثلة «ثريا خوري» وشعرها المسترسل وعيناها التي نشاهدُ فيهما البراءة وهي تراقبُ ما يحدث وتنخرط فيه بغية الوصول لطلال الحبيب البعيد الذي تحمل طفله.

•أمل السعيدي قاصة عمانية مهتمة بالجوانب السينمائية