عمان الثقافي

الطوفان الروائي في الحرب السورية

 
من رحم الحرب العالمية الأولى وُلِدتْ سوريا. وفي حضن الحرب نشأت خلال ربع قرن من الاستعمار الفرنسي، منها سنوات الحرب العالمية الثانية. حتى إذا جاء الاستقلال وقامت (سوريتنا اليوم) بدت الحرب زلزالها المقدّر، ابتداءً بحرب فلسطين 1948 فحرب 1967 (الزلزال الأكبر) فحرب 1973، فالحرب الداخلية في نهاية السبعينات - أعني الصراع المسلح بين الدولة والإخوان المسلمين – فحرب 1982، وصولا إلى الزلزال (الأكبر أيضا) الذي انفجر سنة 2011 ولما ينته بعد.

من هذا القرن من الحروب نهلت الرواية السورية، وبخاصة من الحرب الراهنة التي فرقتها إلى ثلاثة كيانات عدا عن كيانات اللجوء في أصقاع العالم. فرقم الروايات التي صدرت خلال (العشرية السورية السوداء) ينوف على 450 رواية، أغلبها صدر في الخارج، وأغلب أغلبها من موقع المعارض للنظام من جهة وللحرب من جهة أخرى.

أسرعت مها حسن فأصدرت روايتها (طبول الحب) بعد سنة من الزلزال لتكون أولى رواياته. وقد قدمت قصة حب فيسبوكية بين الأكاديمية السورية المقيمة في باريس ريما خوري ويوسف المنخرط في المظاهرات عام 2011، ثم في الجيش الحر. وقد شكت الرواية من وطأة الكتابة في حمأة الحدث التاريخي، وهو التحدي الأكبر الذي ستواجهه الرواية في سوريا في هذه السنين مثلما واجهته في حروب سابقة، وحيث ينظّر بعضهم لضرورة انتظار هذا الحدث إلى أن يبرد وتضع الحرب أوزارها، بينما يغامر آخرون بالكتابة في حمأة الحدث، وأنا منهم، مشددا على التيقظ كيلا تقع الرواية في أفخاخ الكتابة عن الراهن، مثل غياب أو تشوش الرؤية التاريخية، أو التحزب أو منافسة الكاميرا ووسائل الإعلام الحديثة، أو الشعارية والخطابية.

تواترت روايات مها حسن حول المحور نفسه، وعلامتها الكبرى هي السيرية التي جعلت الراوية تحمل اسم الكاتبة نفسها في رواية (عمتِ صباحا أيتها الحرب). ولئن كانت السيرية وقرب العهد بالحدث الروائي وما يناديانه من الوثائقية سمات فنية لروايات مها حسن، إلا أن ذلك كان دوما رهن التخييل. ففي رواية (مترو حلب) تسافر سارة إلى باريس بينما الحرب تدمّر حلب. وتتخيل سارة أنها تنتقل بين أحياء حلب بالمترو، وهي المسكونة بمدينتها وبمعجزة الثورة السلمية، ضد النظام وضد عسكرة الثورة وأسلمتها. والأسرة في (مترو حلب) مشتتة كما في الرواية السابقة، كما سنجد في روايات عديدة لآخرين وأُخريات في أصقاع المنافي والتهجير والهجرة واللجوء.

من السنوات الأولى للحرب روايات أثبتت في نهايتها تاريخ كتابتها، وإن تأخر عنه تاريخ النشر، مثل رواية (ليلة الإمبراطور) لغازي العلي الذي رحل للتو (28/3/2022). فقد صدرت الرواية عام 2014، بينما تذيلت بتاريخ الكتابة (2010 – 2011)، وربما كان ذلك من قبل التقية، فالكاتب لم يغادر سوريا، والرواية رغم اللعب الفني الماكر والبديع، يمكن للقراءة الأمنية أن تتصيد فيها، وهي المبنية من أحلام وكوابيس الراوي العاشق لسعاد، ابنة عم العماد. ويرى الراوي الذي يردد العبارة المحفوظية الشهيرة: (رأيت فيما يرى النائم) أن الشعب يريد (إسقاط العماد ابن عم سعاد)، وهي مناداة للهتاف الذي تردد في سوريا وفي بلدان عربية شتّى.

في منام آخر يرى الراوي العماد يقتل من الحشود التي تصدح (الشعب يريد..). وقد فاز الكاتب بجائزة كتارا دورة 2020 عن روايته (مرسيدس سوداء لا تخطئها عين: كوميديا وطنية)، وهي مكوية بامتياز بالجحيم السوري المستعر منذ 2011.

ومن البدايات المبكرة أيضا رواية شهلا العجيلي (سجاد عجمي – 2012) التي تذيلت بما يحدد تاريخ البدء بكتابتها (2010) والانتهاء منها (5/7/2012). وهذه الرواية، مثل رواية (ليلة الإمبراطور) تخاطب الزلزال السوري من خلف غلالة، لكن غلالتها تاريخية، فهي تسرد حكاية لبانة البغدادية التي تحضر إلى الرقة – مدينة الكاتبة – بينما يحضر إليها الوالي سعد بحثا عن (مصحف فاطمة) الذي يقال إنه مخبوء في الرقة منذ معركة صفّين، وصفّين في سوار الرقة. وقد نسجت الكاتبة روايتها بحرفية وغواية فنون السجاد والخزف، وبالحب، وبالحفر الروائي في التاريخ.

تقطّر شهلا العجيلي كتابتها الروائية حتى ليصح وصف الواحدة من رواياتها بالرواية المقطّرة، وبخاصة ما وقّعت له الحرب وما وقّع لها، أعني: (سماء قريبة من بيتنا) و(صيف مع العدو). وقد رمح الزمن في الأولى منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى راهن الحرب، كما رمح المكان ما بين البؤرة (عمّان) والبؤرة (الرقة) وصولا إلى فيتنام وأمريكا. وتتلامح الظلال السيرية في الرواية من طفولة جمان بدران في الرقة إلى عملها أكاديمية وإصابتها بالسرطان ومعاناتها من العلاج الكيماوي. وفي الرواية الثانية تحضر الرقة أيضا في طفولة الراوية لميس، ويرمح الفضاء إلى ألمانيا، حيث تجتمع لميس وصديقتها كارمن، كما يحضر إلى الرقة نيكولاس الباحث في النجوم والسماء. ويشتبك السرد من حكايات ثمانينات القرن الماضي التي تحكيها الجدة كرمة لحفيدتها لميس، إلى سيطرة داعش على الرقة، ومن بعد داعش السيطرة الكردية (قسد) والدمار الذي أصاب المدينة.

في عام 2012 صدرت أيضا روايتا نبيل الملحم (بنسيون مريم) و(سرير بقلاوة الحزين). وقد عدت الرواية الثانية تمرد السجناء عام 2008 في سجن صيدنايا ثورة أولى، وزلزال 2011 ثورةً ثانية. وتهتك الرواية الفساد والاستبداد عبر شخصية بقلاوة و(بناتها) - أي عاملات أو بائعات الجنس - وعبر شخصيات الضابط الدكتور نزار، والعقيد صلاح الذي أدار السجن الصحراوي الشهير (سجن تدمر). أما رواية (بنسيون مريم) فقد شخصت (الزلزال/ الحرب/ الثورة/ الحراك/ الانتفاضة.. إلى آخر الأسماء، بقولها: «ما يحدث كان فتح النفق أمام أجيال مكثت فيه ما يزيد على أربعة عقود». وقد شكت الرواية أحيانا من الملخص السردي ومن غلظة السارد حين يشرح. لكن الكاتب يبني الشخصية الروائية بمهارة، كشخصية مديرة البنسيون مريم، ونزلائه، ونادل مقهى الكمال الذي يكوي بلسانه ما يجري بقولته المبكرة منذ السنة الأولى (2011) «الجميع يأخذ البلد إلى المزبلة».

تميزت رواية الحرب التالية لنبيل ملحم (إنجيل زهرة – 2019) بخصوصية حريفة أو لاذعة، وبخاصة لغتها، بالأحرى لغاتها التي تتدافر فيها مفردات التابو الجنسي والديني. وتدعو الرواية ما يجري منذ 2011 بالحرب الفتاكة، والعابثة. ويلعن الراوي يوسف الحرب وهو (يحكي) الرواية كلها لسلمى، مفجرا السؤال «علام تتدمر المدن؟

أسرع عبد الله مكسور إلى حي (بابا عمرو) من عشوائيات مدينة حمص الذي تفجر فيه العنف وبكّر إليه الدمار سنة 2011، فجاءت رواية (أيام في بابا عمرو - 2012) محاولةً توثيق الحرب، ومؤكدةً على ذلك بالعنوان الفرعي (رواية توثق). وتسفر السيرية عبر شخصية الراوي الكاتب العائد إلى سورية قاصدا بلدته (طيبة الإمام)، مستدعيا الماضي في قصص شخصيات يلخصها الراوي، حيث تنتأ الخطابية وتفور الحماسة ويطغى الافتتان بالحاضر على الفن. ويتابع الكاتب سرديته للحرب في روايته (عائد إلى حلب) التي ستمضي إلى حلب وريفها وريف حماة أيضا، ويتكرر بناء الرواية السابقة ولكن متخففا من عوراتها، فتشتبك قصص الراوي وشخصيات أبو نزار الذي يلعن الجميع مرورا، والضابط المنشق ومقاتلين في صفوف الكتائب الإسلامية المسلحة. وتقوم السردية النقدية الكبرى في (عائد إلى حلب) في جبهة النصرة، حيث يبلغ الراوي مقرها ويتساءل، وهو من رفض السلاح، عما إذا كان الأمل بنهار جديد يستحق كل هذا الثمن الفادح.

من الأسماء الجديدة التي ظهرت رواياتها المميزة بعد الحرب، روايتا عتاب شبيب (موسم سقوط الفراشات) و(حبق أسود). وقد كانت مدينة حمص بخاصة فضاء الرواية الأولى التي تتحول فيها شخصيتها المحورية الكاتب المسرحي نزار إلى مقاتل ينتهي بالخروج من سوريا بينما تبقى الحبيبة نور، وتبقى حكايات المدينة التي تصفها الرواية بالعاهرة؛ تبقى الجثث. أما رواية (حبق أسود) فترسم تمزق البلاد عبر شخصيتي الأخوين: يامن الذي ينخرط في الشرطة، ونوار الذي يحلم بقتل القابض على الرقاب في الوطن الذي غدا جحيما، وسيطر المتطرفون على شطر منه. إنه الوطن الحبق الذي يتنافس بشره على مذبحتهِ.

من الأسماء الجديدة التي ظهرت رواياتها المميزة بعد الحرب رواية سومر شحادة (حقول الذرة) التي حاولت أن ترسم (خرائط الكراهية) في (جغرافيا الخوف)، وذلك في مدينة اللاذقية وريفها الذي هيمنت على بعضه كتائب إسلامية ارتكبت مجزرة مروعة بعدما ترك الجيش الناس لقمة سائغة لقاطعي الرؤوس. ويعلو صوت ملهم الذي يكتب الرواية بأن الثورة الحقة هي التي تنتصر على الانتماءات المختلفة. وتنسج الرواية علاقة معقدة وكاوية بين ملهم ولمى التي تتنبأ أن الحرب ستنتهي، وستعود الدنيا جميلة، لكن الخراب هو ما يختم الرواية في مشهدية مروعة أيضا. ومن الأسماء الجديدة أيضا نسرين أكرم خوري الشاعرة التي قدمت إلى الرواية بـ (وادي قنديل) ومضت بالزمن من الراهن /الحاضر/ الحرب إلى المستقبل (2029) عبر شخصية الطفلة اللاجئة ثريا لوكاس إلى قبرص عام 2014، ومذكرات الكاتبة غيم حداد التي ستعرف ثريا على زمن الحرب في قصص شخصيات عديدة من مناطق سورية عديدة. ويمضي الزمن الروائي إلى 2034 حين تضع الحرب أوزارها.

تستذكر غيم حداد محاولتي اختطافها في حمص واللاذقية، والاعتصام الشهير في ساحة الساعة في حمص (18/4/2011) وإنهاءه بالرصاص، بينما صار الخوف سلاح غيم حداد التي تخاطب نفسها بأن تتسلح بالخوف، وتجعله سكينا مسنونة تذبح، تحت الوسادة. وقد وسم الخوف رواية ديمة ونوس (الخائفون)، حيث يسري داء الخوف بعد 2011، وتشقق الأسرة /الأسر بين موالٍ للنظام ومعارض، وتكون بيروت موئلا (نفسيا) للسورية ابنة الكاتب السوري المعارض، كما كانت في رواية (وادي قنديل)، وكما ستكون في رواية عبير إسبر (سقوط حر) قبل أن تنقلب في هذه الرواية إلى مكان طارد لياسمين الهاربة من الأمن في دمشق. والحق أن الخوف يجثم في روايات عديدة على الصدور، منها روايات سوسن جميل حسن (قميص الليل) و(خانات الريح) و(اسمي زيزفون).

فاليوم الذي ترصده الرواية الأولى في مدينة اللاذقية يسفر الخوف فيه أو يستبطن الشخصيات التي أعطبتها العصبوية والطائفية. وإذ ينفتح الفضاء الروائي إلى مدينتي حلب وحماة، تتوالى تعرية العطب وتفكك الأسرة وتمزق الصداقة والحب. ويتبأّر كل ذلك في موت (جيغا) المجهول الدين، وفي حضور هند التي ترسمها الرواية جمالا متوحشا، يتعرى أمام التابوت، ويقف تمثالا للحياة تناله رصاصة، فتصرخ هند بخطابية أن جيغا المجهول الدين مات على دين الإنسان، وأنها هي تحترق ليبصروا طريقهم، أما حياة راوية الرواية فتتمتم أن الثورة مستمرة، ولكن ما لا يزال مستمرا هو الحرب بأسوأ ما تكون عليه.

وتقوم رواية (خانات الريح) على الموضوعة التي تشغل روايات عديدة، وهي النازحون (في الرواية نازحة من الرقة إلى اللاذقية) والمهاجرون أو المهجّرون عبر تركيا والبحر إلى أوروبا، وفي هذه الرواية إلى ألمانيا التي ستكون أيضا فضاء رواية نهاد سيريس (أوراق برلين). وتبدع (خانات الريح) في أخيولة قطع الرأس وزرعه بين السوري الشاب وافي اللاجئ المريض بالسرطان، والألماني العالم العجوز غونتر، ليتجدد بالمبادلة جسد الألماني المسلول وعقل المريض السوري.

وفي رواية (اسمي زيزفون) تحفر سوسن جميل حسن في جذور العنف المجنون الذي تفجر في سوريا عبر شخصية الستينية زيزفون التي ترجّ ذاكرتها فتتلاطم خيوط الأسرة والحب والطائفة والمقدس والسلمية والديكتاتورية والإرهاب والتطرف، مثلما تتفجر ألوان اللغة والمحلّي والإنساني في بناء روائي محكم.

يمكن القول: إن العقد الماضي في سورية كان عقد الكتابة النسائية لرواية الحرب. فبالإضافة إلى من ذكرنا ثمة الكثير الممّيز، وفي المقدمة تأتي ابتسام التريسي التي فاقت الجميع بغزارة إنتاجها. وقد تألقت السيرية حيث جرى تشغيلها، كما في رواية (مدن اليمام) التي ذيلتها بتاريخ الانتهاء من كتابتها (31/12/2012)، وسّمت ابنها نور حلاق الناشط والمعتقل في مستهل الحرب، فلولاه ما كانت هذه الرواية، ولا رواية (لمار) أيضا. ولئن شكت الأولى من حضور الأم الكاتبة كساردة، وبالتالي من نتوء الخطابية أو الحماسة أحيانا، إلا أن السيرية لونت الروايتين بالحميمية. والحق أن الحميمية والرهافة تسمان روايات ابتسام التريسي بعامة، على الرغم من فظاعة الحرب التي تتوحش من سنة إلى سنة ومن رواية إلى رواية، من داعش في رواية (لعنة الكادميوم) إلى عاملات الجنس (العاهرات) في رواية (بنات لحلوحة) التي يترامى الزمن فيها من ثلاثينات القرن الماضي زمن الانتداب الفرنسي إلى نهاية عقد الحرب الراهنة، حيث يتناسل الاتجار بالجسد على يد بعض الضباط في حي بحثيتا الشهير الذي يحضر أيضا في روايات (أوراق برلين) لنهاد سيريس و(قيامة البتول الأخيرة) لزياد كمال حمامي، مثلما تحضر العاهرات في روايات شتىّ، مرتّ بنا منها رواية نبيل ملحم (سرير بقلاوة).

ومن الروايات السيرية بامتياز رواية منهل السراج (صراح)، فاللاجئة السورية إلى السويد، والتي حملت الرواية اسمها (صراح) كاتبة ولها طفل متوحد. لكن السيرية لم تقيد التخييل كما لم تقيدها في روايات شهلا العجيلي أو مها حسن أو ابتسام التريسي أو سوسن جميل حسن...

مع الروائية والناقدة أسماء معيكل تُطْبق الرؤية التي تبلورها الكلمة الشامية (حبطراش)، والتي تعبر عن الخراب العميم المستديم في روايتها (تل الورد). وإذا كانت السيرية تلوح في الروايتين، فالأهم هو الطموح إلى كتابة الحرب في أمداء شتىّ، انطلاقا من بؤرة ريفية، إلى ما وراء الحدود في الملجأ التركي وهولندا.

تطمح رواية روزا ياسين حسن (الذين مسهم السحر) إلى أن تكون البلاد كلها فضاء لها، وإن كانت تتركز في دمشق وسوارها (جرمانا أو داريا) لكن ريما وصديقها فراس الصفدي، من بين الشخصيات المحورية – يمضيان بعيدا، هي إلى مدينتها اللاذقية وهو إلى حمص، وسواهما إلى حلب أو إلى موطن هذه المجزرة أو تلك. والرواية لا تني تغامر بالتسجيلي وبالوثائقي، بينما تمور فيها الحوارات في الطائفية – مثل روايات سوسن جميل حسن أو أسماء معيكل، والخوف عبر الحكايات التي لا تفتأ تتوالد وتتشظى.

من الكتاب والكاتبات من لا يفتأ يسعى إلى أن تكون له (أرضه) الروائية الخاصة من كتابة الحرب وبالطبع، يتحقق الامتياز وتتحقق الخصوصية لبعضهن ولبعضهم، ويقصر آخرون وأخريات. وهنا تتقدم رواية سمر يزبك (المشاءة) عبر شخصية الطفلة التي تنادي سيميائية المشي في غوطة دمشق ودمشق وحمص، في كوابيس الحرب والأجساد المقطعة والمجزرة الكيماوية، وفي الأحلام والكتب.

بالعودة إلى الكتّاب أسارع إلى التوكيد على أن عددا غير قليل من الروايات شكلت إنجازا فنيا مرموقا، ومنها رواية خالد خليفة (الموت عمل شاق) التي يخترق فيها سورية المقسمة ثلاثة أخوة يمضون بجثة الأب من دمشق إلى مسقط الرأس في الشمال، فترعف الكتابة كأرواح الأحياء والميت، وكالروح السورية في الحرب. وتحفر رواية ممدوح عزام (أرواح صخرات العسل) في الماضي القريب الذي أفضى إلى الحرب، وفيها قضت الشخصيات الأساسية عابد وحامد وخالد من الشباب الذين أنضجتهم الحرب. وعبر لعبة تعدد الرواة لا يكاد يُسمع صوت الحرب في الرواية؛ فالوكد هو الجذور، حيث الاستبداد والرعب والتدجين بالتبعيث (نسبة إلى حزب البعث الحاكم). وقد تعددت روايات خليل صويلح ذات الصلة: (جنة البرابرة) التي انبنت من يوميات الكاتب في ألف يوم من الوليمة/ الدياسبورا السورية خلال السنوات الثلاث الأولى من الحرب. وفي رواية (اختبار الندم) يتجدد التخييل الذاتي الحاضر في روايات خليل صويلح جميعاً. والراوي في هذه الرواية كاتب يكتب رواية عن المصائر التراجيدية لنساء حوله. وحضور الحرب طاغ ولكن بلا صخب ولا خطب، وذلك في بناء شذري. وهذا البناء هو ما تقوم عليه رواية إبراهيم الجبين (عين الشرق)، حيث تتوالى وتتداخل الشذرات من السيرة/ التخييل الذاتي إذ يحضر الكاتب باسمه كشخصية روائية، ومن الحفر في التاريخ (ابن تيمية) ومن المشهديات السينمائية وتعرية المثقفين الموالين للنظام، وصولا إلى الشذرة الأخيرة: لحظة كتابة أطفال درعا على الجدران بأسمائهم الصريحة مما كان الشرارة التي أشعلت الحريق السوري 2011.

كشأنه في أفضل ما كتب في الرواية، يتابع خيري الذهبي حفرياته الروائية في التاريخ، ويشبكها في رواية (المكتبة السرية والجنرال) مع الراهن/ الحاضر/ الحرب. وكشأنه في الألق الكلاسيكي لرواياته، يتابع حسن صقر في روايته (شارع الخيزران)، حيث الراوي يكتب رواية كما هي اللعبة المتداولة في روايات شتىّ، بالإضافة إلى لعبة الشارع (أو الحارة أو الفندق). وينفرد إسلام أبو شكير في روايتيه (زجاج مطحون) و(خفة يد) بأن الحرب الراهنة أو سلفها تظل في الخلف، كما ينفرد بالاقتصاد اللغوي البالغ والبليغ.

ومن المهم في هذا السياق الوقوف عند ما كتب بالعربية الكتاب السوريون الأكراد عن زلزلة 2011. فبالإضافة إلى مها حسن، يدفع هيثم حسين برواية (قد لا يبقى أحد) مفجرا ما سماه سؤال (الاستعراء). ولئن كانت الرواية تروي هجرات كاتبها من بلدته عامودا إلى لندن، مخلفا الحرب وراءه، فتلك هي أمامه الحرب المضطرمة في دخيلته والتي لا تبقي ولا تذر، ولا تنتهي. وقد شغل سبي داعش للإيزيديات في سنجار عام 2014 رواية إبراهيم اليوسف (شنكالنامة)، وعنوان الرواية هو الاسم الكردي لسنجار. وكذلك خصّ سليم بركات الإيزيديات بروايته (سبايا سنجار)، بينما تعلقت الرواية السيرية لنيروز مالك (سنوات خمس) بالسنوات الخمس الأولى من الزلزلة السورية. ومضت السيرية أبعد في روايات جان دوست (كوباني) و(باص أخضر يغادر حلب) و(ممر آمن). وكذلك كان شأن السيرية في رواية هوشنك أوسي وطأة يقين: محنة السؤال وشهوة الخيال، حيث يترامى الفضاء ويدوّم بالأسئلة التي تفجرها الحرب مثلما تفجّر المخيلة بالشخصيات التي توحدها أعضاء الكاتب، وبمصرع هذه الشخصيات.

من المؤكد أن روايات أخرى من (روايات الحرب) قد فاتتني في هذه البانوراما الخاطفة. فالإحاطة بالدفق الروائي متعذرة، مع الإشارة إلى أنني كتبت عن أغلب الروايات المذكورة. ومع الإشارة إلى (الورم الروائي) المتفشي، ليس بصدد الزلزلة السورية، بل بصدد الرواية العربية بعامة خلال العقدين الماضيين. وفيما يخصّ رواية الحرب السورية ليس للإنجاز الذي يتجلى بتفاوت في الروايات المذكورة، أن يغفل عن سلبيات الورم، من قبيل غلبة الخطابية والثأرية والسياسي على الجمالي والفني اللذين لا تقوم الرواية من دونهما.

نبيل سليمان روائي وناقد سوري