النظام الدولي يتغير ببطء وصعوبة.. ولكن بشكل جذري
السبت / 22 / شعبان / 1443 هـ - 20:57 - السبت 26 مارس 2022 20:57
تكشف مجريات الأزمة الأوكرانية سواء في جانبها العسكري المباشر أو في جانبها الجيوستراتيجي أن فوز أي معسكر فيها لن يكون انتصارا ساحقا ماحقا وبالتالي لن يكون هزيمة صفرية مذلة لخصمه.
ويكشف هذا التوقع بجلاء عن طبيعة الصراع الحقيقية فهو صراع أمريكي أطلسي أنجلو- ساكسوني من جهة وصيني روسي أوراسي من جهة أخرى على قيادة العالم ولا يختلف كثيرا عن الحرب بالوكالة التي عرفها العالم في عشرات الحروب بين أمريكا والاتحاد السوفييتي في مرحلة الحرب الباردة حيث منع توازن الرعب النووي كليهما من المواجهة المباشرة، فتصارعا بأسلحتهما في الحرب الكورية، وفيتنام، والحرب الهندية-الباكستانية، والجولات الثلاث للحروب العربية/الإسرائيلية 56, 67,73 وحرب أفغانستان 79 -89 ...إلخ. بعبارة أخرى فإن أوكرانيا ليست إلا كرة جديدة تتقاذفها أقدام الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية (التي حلت محل الاتحاد السوفييتي) في مباراة قاسية ودموية.
لكن المباراة هذه المرة ليست للحفاظ على نظام الحكم المشترك المتنافس (القطبية الثنائية) بينهما ولكن للسماح بولادة نظام جديد لإنهاء حكم أمريكا المنفرد للعالم الذي يسيطر على القرار الدولي الاقتصادي والسياسي لوحده منذ سقوط الاتحاد السوفييتي. وبالتالي لأن يحل محل نظام القطب الواحد نظام الأقطاب المتعددة وتلعب فيه الصين أساسا وروسيا بشكل أقل أدوارًا في قيادة العالم بجانب واشنطن.
خبرة التاريخ تقول: إنه لم يحدث أن شهد العالم فترات دموية وحروبا كثيرة مثل تلك التي عرفتها المراحل الأخيرة لكل إمبراطورية سيطرت على العالم منفردة أو مع غيرها إذ لم تتورع أي امبراطورية تبدأ في إدراك أن قبضتها على العالم تتراخى وإن سيطرتها على الموارد الخام والتجارة ومراكمة الثروة والقوة في تراجع إلا وكابرت [واستقتلت] - دون جدوي لإيقاف عجلة التاريخ.
الحروب والمذابح التي ارتكبتها الإمبراطوريتان الفرنسية والبريطانية في السنوات التالية للحرب العالمية الثانية لمنع حلول أمريكا والاتحاد السوفييتي مكانهما هي نموذج لا يصد ولا يرد من أول الهند الصينية إلى غرب وشرق إفريقيا من الجزائر إلى السويس ولذلك تفعل مثلهم الآن القوة الإمبراطورية الأمريكية من العراق وسوريا، إلى ليبيا وأفغانستان المسلمة.
إذن نحن أمام ولادة عسيرة وبطيئة لنظام دولي جديد يقاومه بكل شراسة نظام قديم ما زال يمتلك ميزات نسبية على القوى الصاعدة المزاحمة وليست لديه أي ذرة من تردد في استخدام كل قواه الخشنة والناعمة لإجهاض هذه الولادة.
ذلك الاستخدام المفرط لهذه القوى في الأزمة الأوكرانية يوحي بأن الانتقال سيكون بطيئًا وشاقًا ولكن يوحي أيضًا بأنه عندما يتم فإن الانتقال سيكون شاملًا وجذريًا بحيث سيغير من أسس النظام الدولي القائم -المستمر بصورة أو بأخرى- منذ إنشاء عصبة الأمم وبعدها الأمم المتحدة.
عندما تستخدم القوة المهيمنة أسس النظام الدولي بصورة مفرطة ومن طرف واحد بالمخالفة للقواعد المتفق على إدارتها فإنها تستدعي بداهة تحفزا من القوى الصاعدة أن لا تجعل الأمر يقتصر في المستقبل على حصولها على مقعد في مجلس قيادة العالم بل أن تقوم بتغيير قواعده وأسسه القديمة عندما تنضم لقمرة هذه القيادة.
في الأزمة الراهنة ضرب الطرفان المتصارعان عرض الحائط بكل القواعد المستقرة وعبرا كل الخطوط الحمراء ولكن بما أن النظام الدولي هو أمريكي وغربي بالأساس فإن تحطيم أمريكا لقواعده مرحليًا لكي تهزم روسيا هو بمثابة تشجيع للآخرين على تحطيمه نهائيًا وإلى الأبد حتى لا يعانون منه ما عانوا من قبل.
وضعت أمريكا وأوروبا والتحالف الغربي عمومًا النظام النقدي والمالي الدولي والنظام الرياضي والنظام الإعلامي الدولي وهيكل العلاقات الثقافية الدولية في مأزق أخلاقي كبير عندما تم الخلط بين هؤلاء جميعا وبين السياسة، وعندما تم أيضا تطبيق معايير مزدوجة وغير عادلة وأحيانا عنصرية في النزاع الأوكراني بالمخالفة للموقف من نزاعات دولية مماثلة.
وأضعفت الولايات المتحدة باستخدامها المفرط والمجحف للعقوبات الاقتصادية على كل من عارضها على مدى 60 عاما تقريبا بلا هوادة من كوبا إلى العراق (توفي نحو نصف مليون طفل عراقي بسبب العقوبات الغربية) ومن إيران إلى روسيا حاليا. فهذا النظام المالي الدولي الذي أنشئ في 1944 ليكرس انتقال الهيمنة العالمية من أوروبا إلى الولايات المتحدة وتم فيه استبدال العملة الأمريكية [الدولار] بقاعدة احتياطي الذهب كأساس لسعر صرف العملات، ومدفوعات التجارة الدولية، والادخار مكن الأمريكيون من تحويله إلى أداة لمعاقبة المخالفين سياسيا للزعامة الأمريكية للعالم.
وحتى عندما ألغى نيكسون قاعدة ربط الدولار بالذهب وانهار الدولار جاء اتفاق نيكسون/ فيصل 1974بتقويم النفط بالدولار [البترو-دولار] ليعيد هيمنة الدولار وأمريكا على النظام النقدي الدولي ويعيد هيمنة مؤسساته: صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على الدول النامية.
ومع الحزمة غير المسبوقة في التاريخ من العقوبات الاقتصادية على موسكو بعد اجتياحها لأوكرانيا تتصاعد الآن المحاولات الرامية لاستبدال النظام النقدي العالمي القائم على الدولار بنظام موازي يلعب فيه اليوان الصيني (ثلث احتياطيات العالم الآن من اليوان) والروبية الهندية والروبل الروسي دورًا أساسيًا في المبادلات التجارية العالمية.
وإذا تكللت مفاوضات السعودية/ الصين لبيع النفط السعودي باليوان فإن الرياض العضو الأهم في (أوبك) قد تقود مرة ثانية انقلابًا استراتيجيا في الاقتصاد العالمي كالذي فعلته باتفاق البترودولار. وإذا انحنت أيضًا الدول الغربية لقرار بوتين بشراء نفط وغاز روسيا بالروبل فإن ذلك -قد- يبدأ في تقويض عرش الدولار تدريجيا وعلى مدى طويل ويكاد يكون مضمونا -إذا حدث هذا- فإن كل من اكتوى بالعقوبات شعوبًا وربما أفرادًا سينضمون إليه.
خلط الرياضة بالسياسة
أضعفت الولايات المتحدة النظام الرياضي العالمي القائم على عدم [الخلط بين الرياضة والسياسة] كما لم يحدث من قبل. فمؤسسات العالم الرياضية الراسخة والتي كانت أداة قوة ناعمة من أدوات نظام العلاقات الدولية للسلام ونشر التعاون بين الشعوب تدمرت مصداقيتها في الأزمة الأوكرانية فلقد جرى استخدام الفيفا واللجنة الأولمبية الدولية واتحادات الألعاب الدولية المختلفة لفرض عقوبات على الرياضة الروسية ومن شأن ذلك تشجيع التكتل البازغ تدريجيا من الصين وروسيا ودول كبيرة مكتظة بالسكان على إنشاء مؤسسات رياضية موازية تهدم وحدة الرياضة وحركة الشباب العالمي التي كانت إنجازًا إنسانيًا حضاريًا كبيرًا.
إن الغرب الذي رفض عقاب إسرائيل على احتلالها العنصري لفلسطين في الرياضة بل ويشطب كل من يرفض مقابلة رياضي إسرائيلي بدا عاريًا أخلاقيًا بعقوبته روسيا لوحدها على احتلالها لأوكرانيا ومتلبسا مجددا بالجرم المشهود في ممارسة [المعايير المزدوجة].
خلط الثقافة بالسياسة
لم يحدث أن تم خلط الثقافة [التي تعتبر في هذا المقام هي منجز الحضارة الإنسانية كلها] مع السياسة بقسوة كما حدث في عقوبات الغرب الثقافية على روسيا بسبب اجتياحها العسكري لجارتها أوكرانيًا. لقد جرى منع تدريس الأدب الروسي العظيم بنماذجه «تشيكوف ودستويفسكي..إلخ» في بعض المؤسسات التعليمية الغربية وألغيت حفلات موسيقية لعزف تشايكوفسكي ورحمانينوف.. إلخ وطرد أهم مايسترو في العالم من قيادة أوركسترا ميونيخ لأنه روسي (غيرغييف) وألغيت حفلات أهم مطربة أوبرا في العالم (انا تتريبكو) في دول أوروبية.. إلخ
يتجاوز الأمر بذلك إلى تجديد صراع ثقافي مرير بين الحضارات مارسه الأنجلو- ساكسون قديما ضد من عداهم - بما فيهم أوروبيون غربيون مثل الألمان وحولته فترة الحرب الباردة إلى صراع بين العالم الحر وعبيد الشيوعية.
وحوله هنتنجتون وفوكوياما إلى صراع بين الغرب المتسامح والإسلام المتزمت. هذه المرة يتحدث الطرفان المتصارعان عن أن أزمة أوكرانيا هي صراع بين الحضارة الغربية الكاثوليكية/البروتستانتية الديمقراطية الداعمة للمثلية الجنسية في مواجهة الحضارة الشرقية الأرثوذكسية المستبدة الرافضة للمثلية الجنسية في إعادة روح إلى شعار أو (دوجما) قديمة ألا وهي الديمقراطية الغربية في مواجهة الاستبداد الشرقي وهو هنا يشمل ليس فقط روسيا ولكن أيضا الصين والهند والشرق الأوسط وأفريقيا. الأدب والموسيقى والسينما والمسرح كتراث إنساني مشترك قد تتحول بعد العقوبات الثقافية إلى مؤسسات وخنادق متعادية لنشر «صور ذهنية» مليئة بالكراهية تستفيد منه فقط حركات الإرهاب.
هذا غيض من فيض يشير إلى أن النظام الدولي الجديد -عندما يظهر ويستقر- سيكون مختلفا تماما عن النظام الدولي الغربي المستمر منذ مائة عام وأكاد أقول المستمر منذ اتفاقية فيينا 1815 التي وضعت قواعد القانون والعلاقات الدولية الحديث.
__________
• حسين عبدالغني - كاتب وصحفي مصري شغل منصب الناطق الرسمي باسم حركة الإنقاذ الوطني.
ويكشف هذا التوقع بجلاء عن طبيعة الصراع الحقيقية فهو صراع أمريكي أطلسي أنجلو- ساكسوني من جهة وصيني روسي أوراسي من جهة أخرى على قيادة العالم ولا يختلف كثيرا عن الحرب بالوكالة التي عرفها العالم في عشرات الحروب بين أمريكا والاتحاد السوفييتي في مرحلة الحرب الباردة حيث منع توازن الرعب النووي كليهما من المواجهة المباشرة، فتصارعا بأسلحتهما في الحرب الكورية، وفيتنام، والحرب الهندية-الباكستانية، والجولات الثلاث للحروب العربية/الإسرائيلية 56, 67,73 وحرب أفغانستان 79 -89 ...إلخ. بعبارة أخرى فإن أوكرانيا ليست إلا كرة جديدة تتقاذفها أقدام الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية (التي حلت محل الاتحاد السوفييتي) في مباراة قاسية ودموية.
لكن المباراة هذه المرة ليست للحفاظ على نظام الحكم المشترك المتنافس (القطبية الثنائية) بينهما ولكن للسماح بولادة نظام جديد لإنهاء حكم أمريكا المنفرد للعالم الذي يسيطر على القرار الدولي الاقتصادي والسياسي لوحده منذ سقوط الاتحاد السوفييتي. وبالتالي لأن يحل محل نظام القطب الواحد نظام الأقطاب المتعددة وتلعب فيه الصين أساسا وروسيا بشكل أقل أدوارًا في قيادة العالم بجانب واشنطن.
خبرة التاريخ تقول: إنه لم يحدث أن شهد العالم فترات دموية وحروبا كثيرة مثل تلك التي عرفتها المراحل الأخيرة لكل إمبراطورية سيطرت على العالم منفردة أو مع غيرها إذ لم تتورع أي امبراطورية تبدأ في إدراك أن قبضتها على العالم تتراخى وإن سيطرتها على الموارد الخام والتجارة ومراكمة الثروة والقوة في تراجع إلا وكابرت [واستقتلت] - دون جدوي لإيقاف عجلة التاريخ.
الحروب والمذابح التي ارتكبتها الإمبراطوريتان الفرنسية والبريطانية في السنوات التالية للحرب العالمية الثانية لمنع حلول أمريكا والاتحاد السوفييتي مكانهما هي نموذج لا يصد ولا يرد من أول الهند الصينية إلى غرب وشرق إفريقيا من الجزائر إلى السويس ولذلك تفعل مثلهم الآن القوة الإمبراطورية الأمريكية من العراق وسوريا، إلى ليبيا وأفغانستان المسلمة.
إذن نحن أمام ولادة عسيرة وبطيئة لنظام دولي جديد يقاومه بكل شراسة نظام قديم ما زال يمتلك ميزات نسبية على القوى الصاعدة المزاحمة وليست لديه أي ذرة من تردد في استخدام كل قواه الخشنة والناعمة لإجهاض هذه الولادة.
ذلك الاستخدام المفرط لهذه القوى في الأزمة الأوكرانية يوحي بأن الانتقال سيكون بطيئًا وشاقًا ولكن يوحي أيضًا بأنه عندما يتم فإن الانتقال سيكون شاملًا وجذريًا بحيث سيغير من أسس النظام الدولي القائم -المستمر بصورة أو بأخرى- منذ إنشاء عصبة الأمم وبعدها الأمم المتحدة.
عندما تستخدم القوة المهيمنة أسس النظام الدولي بصورة مفرطة ومن طرف واحد بالمخالفة للقواعد المتفق على إدارتها فإنها تستدعي بداهة تحفزا من القوى الصاعدة أن لا تجعل الأمر يقتصر في المستقبل على حصولها على مقعد في مجلس قيادة العالم بل أن تقوم بتغيير قواعده وأسسه القديمة عندما تنضم لقمرة هذه القيادة.
في الأزمة الراهنة ضرب الطرفان المتصارعان عرض الحائط بكل القواعد المستقرة وعبرا كل الخطوط الحمراء ولكن بما أن النظام الدولي هو أمريكي وغربي بالأساس فإن تحطيم أمريكا لقواعده مرحليًا لكي تهزم روسيا هو بمثابة تشجيع للآخرين على تحطيمه نهائيًا وإلى الأبد حتى لا يعانون منه ما عانوا من قبل.
وضعت أمريكا وأوروبا والتحالف الغربي عمومًا النظام النقدي والمالي الدولي والنظام الرياضي والنظام الإعلامي الدولي وهيكل العلاقات الثقافية الدولية في مأزق أخلاقي كبير عندما تم الخلط بين هؤلاء جميعا وبين السياسة، وعندما تم أيضا تطبيق معايير مزدوجة وغير عادلة وأحيانا عنصرية في النزاع الأوكراني بالمخالفة للموقف من نزاعات دولية مماثلة.
وأضعفت الولايات المتحدة باستخدامها المفرط والمجحف للعقوبات الاقتصادية على كل من عارضها على مدى 60 عاما تقريبا بلا هوادة من كوبا إلى العراق (توفي نحو نصف مليون طفل عراقي بسبب العقوبات الغربية) ومن إيران إلى روسيا حاليا. فهذا النظام المالي الدولي الذي أنشئ في 1944 ليكرس انتقال الهيمنة العالمية من أوروبا إلى الولايات المتحدة وتم فيه استبدال العملة الأمريكية [الدولار] بقاعدة احتياطي الذهب كأساس لسعر صرف العملات، ومدفوعات التجارة الدولية، والادخار مكن الأمريكيون من تحويله إلى أداة لمعاقبة المخالفين سياسيا للزعامة الأمريكية للعالم.
وحتى عندما ألغى نيكسون قاعدة ربط الدولار بالذهب وانهار الدولار جاء اتفاق نيكسون/ فيصل 1974بتقويم النفط بالدولار [البترو-دولار] ليعيد هيمنة الدولار وأمريكا على النظام النقدي الدولي ويعيد هيمنة مؤسساته: صندوق النقد الدولي والبنك الدولي على الدول النامية.
ومع الحزمة غير المسبوقة في التاريخ من العقوبات الاقتصادية على موسكو بعد اجتياحها لأوكرانيا تتصاعد الآن المحاولات الرامية لاستبدال النظام النقدي العالمي القائم على الدولار بنظام موازي يلعب فيه اليوان الصيني (ثلث احتياطيات العالم الآن من اليوان) والروبية الهندية والروبل الروسي دورًا أساسيًا في المبادلات التجارية العالمية.
وإذا تكللت مفاوضات السعودية/ الصين لبيع النفط السعودي باليوان فإن الرياض العضو الأهم في (أوبك) قد تقود مرة ثانية انقلابًا استراتيجيا في الاقتصاد العالمي كالذي فعلته باتفاق البترودولار. وإذا انحنت أيضًا الدول الغربية لقرار بوتين بشراء نفط وغاز روسيا بالروبل فإن ذلك -قد- يبدأ في تقويض عرش الدولار تدريجيا وعلى مدى طويل ويكاد يكون مضمونا -إذا حدث هذا- فإن كل من اكتوى بالعقوبات شعوبًا وربما أفرادًا سينضمون إليه.
خلط الرياضة بالسياسة
أضعفت الولايات المتحدة النظام الرياضي العالمي القائم على عدم [الخلط بين الرياضة والسياسة] كما لم يحدث من قبل. فمؤسسات العالم الرياضية الراسخة والتي كانت أداة قوة ناعمة من أدوات نظام العلاقات الدولية للسلام ونشر التعاون بين الشعوب تدمرت مصداقيتها في الأزمة الأوكرانية فلقد جرى استخدام الفيفا واللجنة الأولمبية الدولية واتحادات الألعاب الدولية المختلفة لفرض عقوبات على الرياضة الروسية ومن شأن ذلك تشجيع التكتل البازغ تدريجيا من الصين وروسيا ودول كبيرة مكتظة بالسكان على إنشاء مؤسسات رياضية موازية تهدم وحدة الرياضة وحركة الشباب العالمي التي كانت إنجازًا إنسانيًا حضاريًا كبيرًا.
إن الغرب الذي رفض عقاب إسرائيل على احتلالها العنصري لفلسطين في الرياضة بل ويشطب كل من يرفض مقابلة رياضي إسرائيلي بدا عاريًا أخلاقيًا بعقوبته روسيا لوحدها على احتلالها لأوكرانيا ومتلبسا مجددا بالجرم المشهود في ممارسة [المعايير المزدوجة].
خلط الثقافة بالسياسة
لم يحدث أن تم خلط الثقافة [التي تعتبر في هذا المقام هي منجز الحضارة الإنسانية كلها] مع السياسة بقسوة كما حدث في عقوبات الغرب الثقافية على روسيا بسبب اجتياحها العسكري لجارتها أوكرانيًا. لقد جرى منع تدريس الأدب الروسي العظيم بنماذجه «تشيكوف ودستويفسكي..إلخ» في بعض المؤسسات التعليمية الغربية وألغيت حفلات موسيقية لعزف تشايكوفسكي ورحمانينوف.. إلخ وطرد أهم مايسترو في العالم من قيادة أوركسترا ميونيخ لأنه روسي (غيرغييف) وألغيت حفلات أهم مطربة أوبرا في العالم (انا تتريبكو) في دول أوروبية.. إلخ
يتجاوز الأمر بذلك إلى تجديد صراع ثقافي مرير بين الحضارات مارسه الأنجلو- ساكسون قديما ضد من عداهم - بما فيهم أوروبيون غربيون مثل الألمان وحولته فترة الحرب الباردة إلى صراع بين العالم الحر وعبيد الشيوعية.
وحوله هنتنجتون وفوكوياما إلى صراع بين الغرب المتسامح والإسلام المتزمت. هذه المرة يتحدث الطرفان المتصارعان عن أن أزمة أوكرانيا هي صراع بين الحضارة الغربية الكاثوليكية/البروتستانتية الديمقراطية الداعمة للمثلية الجنسية في مواجهة الحضارة الشرقية الأرثوذكسية المستبدة الرافضة للمثلية الجنسية في إعادة روح إلى شعار أو (دوجما) قديمة ألا وهي الديمقراطية الغربية في مواجهة الاستبداد الشرقي وهو هنا يشمل ليس فقط روسيا ولكن أيضا الصين والهند والشرق الأوسط وأفريقيا. الأدب والموسيقى والسينما والمسرح كتراث إنساني مشترك قد تتحول بعد العقوبات الثقافية إلى مؤسسات وخنادق متعادية لنشر «صور ذهنية» مليئة بالكراهية تستفيد منه فقط حركات الإرهاب.
هذا غيض من فيض يشير إلى أن النظام الدولي الجديد -عندما يظهر ويستقر- سيكون مختلفا تماما عن النظام الدولي الغربي المستمر منذ مائة عام وأكاد أقول المستمر منذ اتفاقية فيينا 1815 التي وضعت قواعد القانون والعلاقات الدولية الحديث.
__________
• حسين عبدالغني - كاتب وصحفي مصري شغل منصب الناطق الرسمي باسم حركة الإنقاذ الوطني.