أعمدة

هوامش... ومتون : الجسر الحجري

 
«سترتجف القدمان من الخوف وتُشلّ الحركة ويتسمّر المرء في مكانه، ولهذا لا يجرؤ أحد على عبور هذا الجسر إلا بعون السماء والأرض، فوراء الجسر أرض إله الحكمة الطاهرة»

هذه الكلمات جزء من مقطوعة (شاكيو) التي تعني باللغة اليابانية (الجسر الحجري)، وتنتمي لمسرح (النو) الياباني، قدّمتها فرقة مسرح (النو)، ضمن فعاليات نظمتها المؤسسة الدولية لإيصال الثقافة اليابانية بمفرداتها إلى العالم، احتفاء بمرور 50 عاما على العلاقات الدبلوماسية بين سلطنة عمان واليابان، و(النو) من أقدم الفنون المسرحية اليابانيّة، يرجع تاريخه إلى القرن الرابع عشر للميلاد، ولقدمه ومحافظته على تقاليده وعدم تغيّره على مدى سبعة قرون، أدرجته منظّمة اليونسكو عام 2008م في قائمة التراث الثقافي غير المادي في العالم، وتتحدّث موضوعات هذا المسرح المستمدّة من التراث الياباني عن بطولات المحاربين والنساء، والأرواح الشرّيرة، وبعض الطقوس، وتطرح أسئلة الحياة والموت، باستخدام الأقنعة، ويستخدم المؤدّون نبرة صوت واحدة بمصاحبة الموسيقى التقليدية، جاء ذلك في عرض جرى تقديمه في الهواء الطلق بالساحة الخارجية لدائرة الفنون الموسيقية بدار الأوبرا السلطانية مسقط، بدأ بلقاء الكاهن جاكوشو الذي يمضي في رحلة يطوف خلالها العالم متنقّلا بين أماكن العبادة، قادما من الهند، حتى يصل الصين، وعند جسر حجري، في جبل شوريوزين، يلتقي صبيّا حطّابا، فيُعرب له عن رغبته بمعرفة قصة الجسر، لكن الصبي الحطّاب يمنعه من عبوره، كونه يتطلّب منه أن يكون أكثر ورعا وتقوى، فبدون ذلك لن يتمكن من ذلك، فالأرض التي خلف الجسر طاهرة تجلّلها الحكمة، وعليه أن يصلي صلاة نابعة من أعماق القلب، ولن يقدر على ذلك إلا الرجل العميق الإيمان، ويتواصل الحوار بين الكاهن والصبي، وفجأة يظهر رسول الحكمة مؤدّيا رقصات احتفالية يصاحبها عزف فلوت ياباني، فينحني له الجميع، وفي النهاية ينعم العالم بالسلام، وقد سبقت هذا العرض الذي يُقدّم على أرض سلطنة عمان للمرّة الأولى، رقصة باللباس الياباني التقليدي بحركات متوازنة، بمصاحبة آلات موسيقية تقليدية وغناء حمل عنوان (فونابينكي)، وضمن هذه الفعاليات تابعنا أنشطة أقيمت في النادي الثقافي من بينها معرض الحرف والفنون اليابانية التقليدية تخلّله عرض فيلم وشرح تفصيلي عن مسرح النو التقليدي والفنون المصاحبة كإعداد الشاي، وصنع المروحة اليابانية، والملابس ذات النقوش التي تحتاج إلى سنوات لصنعها.

وإذا كان نيتشه يقول: «لا يمكن لأحد أن يبني لك الجسر الذي تعبر منه لتغيّر مجرى حياتك»، مؤكّدا الاعتماد على الذات، فالفنون بنت هذه الجسور، وقوّت أواصر المحبّة بين الشعوب، وقامت بتقريبها من بعضها البعض، وصار بإمكانها تغيير حياة الكثير منها، ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى ذلك، ولا سيّما، نعيش في عالم تخنقه الصراعات، والأزمات، والكراهيّات، وهنا يأتي دور الفن لعقد الحوار الحضاري، ومدّ جسور التواصل، فهذه الفنون تبثّ رسائل جمالية، ثقافيّة، عبر الموسيقى، والمسرح، والرقص التعبيري، والفنون التشكيلية، وتقوم بتعريف العالم بتاريخ الأمم والشعوب، وخزينها الحضاري، الذي هو كفيل بتقديمها بأبهى شكل من الأشكال، واللافت للنظر أن اليابانيين في هذه الفعاليات لم يأتوا لمسقط، وهم يحتفلون بهذه المناسبة، بما حقّقوه من طفرات في مجال الصناعات الحديثة، والأشواط التي قطعها العقل الياباني في العلم، وبمجال التكنولوجيا، وتنظيم الحياة المعاصرة، فاليابان البلد الذي أطلق عليه الصينيون اسم (منبع الشمس) لوقوعه أقصى شرقهم، يعد اليوم من أكثر دول العالم تقدّما، ولم يتطرقوا لشبكات مترو الأنفاق، والقطارات التي تشتهر بدقة المواعيد، ونظام التعليم المتقدّم، ولم يتحدّثوا عن الكوارث الطبيعية التي يتعرّض لها بين وقت وآخر كالأعاصير والزلازل والانفجارات البركانية، فهذه أصبحت معروفة للجميع، بل عادوا بنا إلى الجذور التي استمدّ منها حاضرهم ضوءه، وهو حاضر يشكّل مزيجا من ثقافات تقليدية متوارثة وغربية حديثة، وقد انصهرت هذه الثقافات في ثقافة تعبر للمستقبل بخطى واثقة، كما كشف عنها هذا الجسر الثقافي، ولكي نعبره لبلوغ مستقبل أفضل علينا بناء جسور التواصل مع مخزوننا الحضاري المشرق، والسير لغد أفضل.