أفكار وآراء

إدارتنا لحقبة الأزمات المتتالية والمتراكمة .. الغذاء «نموذجا»

من أزمة النفط، إلى أزمة كورونا، والآن أزمة الغذاء، والتقديرات تشير إلى أننا سنشهد موجة غلاء مؤثرة جدا، وفي وقت أصبحت حياة البشرية تصطبغ بالأزمات المختلفة ومن الوزن الثقيل، والأخطر ما فيها أنها متتالية ومتراكمة بصورة غير مسبوقة، وتمس المنطقة الاجتماعية المتعبة من توالي الأزمات وتراكمها، ومن سياسات التكييف معها المؤلمة اجتماعيا، هذا التوالي والتراكم للأزمات تدخل الدول في حقبة جديدة، يترتب عليه إعادة برمجة التفكر السياسي لإدارة المرحلة الراهنة ليس من المنظور الاعتيادي للحياة، أو حتى من منظور أزمة واحدة، وإنما من منظور أزمات بخصائص التوالي والتراكم والاستهداف الاجتماعي بالدرجة الأولى.

وكل من يعمل فكره الاستشرافي، سيقوده إلى طرح تساؤل ليس ماذا بعد أزمة الغذاء، وإنما ماذا سيتزامن معها من أزمات تواليا وتراكما أو تداعيا لها؟ وهذه مسألة تتربع على قمة الوعي الاستنتاجي التي ينبغي أن تكون معلومة بالضرورة سياسيا، وهذا يعني، أن هاجس الأزمات بتلكم الخصائص الاستثنائية، ينبغي أن تسيطر على إعداد الخطط وتنفيذها، بل وكل القرارات والقوانين.. حتى لو تطلب ذلك إعادة النظر في القائم منها.

ومن منطق الأزمات المتتالية والمتكررة، أو ما يمكنني أن أطلق عليها «بطبقات الأزمات» لن يكون هناك خطة مقدسة أو قانون أو سياسة ثابتة، وإنما قابلة للتكييف مع منطق التجاوب مع إكراهات الأزمات وتداعياتها، وهذا يحتاج لقوة الفعل الديناميكي، وقوة المرونة، وقوة التنفيذ، وهذه المميزات ينبغي أن تشكل عنوان مرحلة مواجهة الأزمات عامة، والغذاء خاصة، لذلك ينبغي إيجاد دينامية جديدة تتوفر فيها تلك الخصائص، فلو توقفنا عند أزمة الغذاء باعتبارها الأحدث، والأخطر، فإن دور هذه الدينامية سيكون العمل على مساعدة تنفيذ خطط الأمن الغذائي التي قد تتأخر بسبب البيروقراطية أو تعدد المؤسسات أو نقص السيولة المخصص لها، والتأخير في حقبة الأزمات خط أحمر.

فمثلا، اتجهت وزارة الزراعة والثروة السمكية وموارد المياه مؤخرا إلى إقامة مكتب لتطوير منطقة النجد الزراعية بظفار، كتقسيم إداري لوزارة الزراعة والثروة السمكية وموارد المياه، وجعله تابعا للوزير، ومنحته صلاحيات وطنية استثنائية، بهدف جعل منطقة نجد الزراعية بمحافظة ظفار سلة غذاء البلاد، وبصورة مستدامة، وعلى مدار العام.

لكن هذه الجهود مرتبطة بجهود أخرى من خارج الوزارة، وهذه الجهود محكومة بموازنات ثابتة، من هنا تكمن أهمية وجود هذه الدينامية، فانطلاقة النجد الزراعي في تأمين سلة غذاءنا يتوقف - كما هو مخطط - على إقامة منطقة لوجستية والتي ستحتضن الخدمات الضرورية للمزارعين مثل سوق المزارع، مركز تجميع وتسويق المنتجات الزراعية وغيرها، وتطوير البنى الأساسية مثل ربط بعض المناطق الحيوية بالمنطقة اللوجستية بطرق أسفلتية (طريف شصر- سيح الخيرات).

وكذلك تنظيم المزارع وتوجيه التركيبة المحصولية بما يساهم في الأمن الغذائي للبلاد، ولو تركت مثل هذه القضايا للإدارة الاعتيادية في تنفيذها، فستأخذ وقتا زمنيا أطول، والزمن هنا هو الفاعل في مواجهة الإكراهات، وهنا سيعمل الفريق على تذليل المعوقات التي تؤخر هذه المشاريع بمركزيته السياسية.

وهناك جهود تبذل، لكن ليست في سرعة انفجار الأزمات وتواليها وتراكماتها، لذلك تحتاج المرحلة إلى دينامية جديدة التي أراها في تشكيل فريق أزمات يضم مفكرين ومتخصصين من كل الحقول الاجتماعية والعلمية وأصحاب الخبرات حكومية ومستقلة، وهذه الأخيرة الشرط المعياري لها عدم ارتباطها بالمصالح الاقتصادية والمالية، وقواها المتحكمة فيها، يتولى استشراف الأزمات، ومتابعات التنفيذ، وضمان النجاح في الآجال الزمنية المستحقة.

ولدواعي إكسابه القوة السياسية، ينبغي أن تكون تبعيته للمؤسسة السلطانية، ويمارس صلاحيته بالمشاركة مع مؤسسات الدولة المختلفة، وتكون له سلطة تنفيذية ومتابعة حاكمة، لأن التنفيذ يشكل قضية الساعة في بلادنا، فمهما كانت خططنا واعدة وطموحة، يتوقف تطبيقها على قضية التنفيذ، لذلك تحتاج كل السلط التنفيذية، لسلطة داعمة للتنفيذ خاصة في ظل تعدد المؤسسات وتنوعها.

وسيكون هذا الفريق حلقة الوصل بين السلطة التنفيذية وبين المؤسسة السلطانية للتعجيل بتنفيذ الخطط الاستراتيجية التي لا تحتمل التأخير فيها، كما سيكون دوره منتجا للأفكار التي تعزز النجاح وشموليته، وأبرز هذه الأفكار، فكرة الجمعيات التعاونية في البلاد، وهي الثغرة التي تجعل من ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية يحس به كل المواطنين، إذ ليس عندهم من خيار آخر لشراء احتياجاتهم سوى من المراكز التجارية التي رغم تعددها وكثرتها الا أنها تفتقر للمنافسة التي تؤثر على الأسعار، ويحتكر أغلبها الوافدون، وكل من يتابع هذه الأيام عروض وتخفيضات الجمعيات التعاونية في بعض الدول الخليجية لكبح جماح الأسعار، ومساعدة المواطنين على التخفيف من معاناة الارتفاع، سيدرك حتمية الجمعيات التعاونية في كل محافظة من محافظات البلاد، وفروع لها في الولايات.

وقد قمت بمقارنة سعرية بين الجمعيات والمراكز التجارية في الأيام العادية، أي غير العروض والتخفيضات وقت الأزمات، ووجدت الفارق في أغلب السلع، وفي الأزمات تضخ الجمعيات سيولة مالية لخفض أسعارها، فلابد من الإسراع بإقامة الجمعيات في بلادنا، فهي ستتيح للمواطنين توفير خيار موثوق ومضمون لحاجاتهم الغذائية بالأسعار الرحيمة، لأن الهدف منها - أي الجمعيات التعاونية - الرحمة بالمواطن المستهلك، ولا تفكر في استغلال الأزمات للربح الفاحش.

ولن نصنع الاستقرار الدائم لسوقنا العماني إلا بالإنتاج الغذائي المحلي، وللأسف، فقد كانت هناك دراسة ترجع لعام 2010 أعدتها جامعة السلطان قابوس، بينت إمكانية زراعة حوالي 10000 فدان من القمح في مناطق البلاد المختلفة، وأوضحت أنه من المؤمل أن تنتج 17000 طن من القمح، تلبي حاجات الاستهلاك المحلي بما نسبته حوالي 10%، ويتطلب ذلك دعما حكوميا يقدر 1.88 مليون ريال، وقد تحمس لها منذ البداية، لكن، مصيرها الآن الإدراج، والآن يتجدد الاهتمام الحكومي بالإنتاج المحلي، وقد قدمت منطقة النجد نفسها كسلة غذاء واعدة بعد أن أمنت الاكتفاء الذاتي للكثير من الخضروات والفواكه، وانتجت قرابة ألف طن من القمح في عملية تصاعدية يمكن الرهان عليها مع بقية مناطق البلاد الزراعية.

وهذا يدلل على إمكانية صناعة الاطمئنان لأمننا الغذائي محليا عبر دعمه من الحكومة، وينبغي أن لا نتحسس من قضية الدعم، فلا يمكن لأي حكومة في حقبة الأزمات المتتالية والمتراكمة أن تلغي الدعم نهائيا إذا ما أرادات الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والانتعاش الاقتصادي، فمفهوم الدولة العربية يختلف تماما عن مفهوم الدولة الغربية، ففي الأولى ينبغي أن تمثل مصالح شعوبها، بينما الثانية تمثل مصالح مجموعة صغيرة من المؤثرين فيها.

ومع التسليم بالدعم، ستجد الحكومة نفسها بين خيارين، دعم شركات الإنتاج التي نستورد منها، أو دعم الإنتاج المحلي، فإيهما تختار ؟ المصلحة الوطنية العليا تذهب نحو خيار دعم الإنتاج المحلي للمصالح المتعددة « السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وقضية الدعم ليست الوحيدة التي تتوقف عليها عملية انطلاقة تأمين سلة غذائنا، وإنما هناك مجموعة قضايا مثل قضايا تسعيرة الكهرباء المرتفعة، وقضية العقبات التي تحد من التصدير والاستيراد المباشر من بعض موانئنا، ولا نتصور أن تحسم مثل هذه القضايا من خلال الاعتيادية الإدارية الراهنة، وإنما أعول هنا على الدينامية التي نقترحها في هذا المقال .

وعمل هذه الدينامية في مجال أمننا الغذائي ما هو الا نموذج فقط، ويمكن تعميمه، فما ستزخر به الدينامية من مختصين وخبرات في كل الحقول سيكون انشغالاتها في القطاعات التي ينبغي أن تتدخل فيها دعما ومساندة للمؤسسات الحكومية والعمومية المختصة، سواء كمرشدين مختصين أو سياسيين، والحاجة اليهم متعاظمة في مجالات متعددة واستراتيجية، مثل التأكد من مسيرتنا التقنية أو التكنولوجية، ومدى صناعة جيل مؤهل لمواجهة تحدياتها المقبلة، وتقديم الدعم اللوجستي لتطبيق التحولات والمتغيرات في البلاد، كتطبيق اللامركزية.. الخ.

ولن تتدخل هذه الدينامية إلا في إطار القضايا ذات البعد الاستراتيجي للدولة والمجتمع، وينبغي تحديدها بدقة وبشمولية حتى يتم اختيار كوادرها وأطرها من خلالها، وهنا تظهر هذه الدينامية كطاقة أو قوة متجددة للمؤسسات الحكومية والعمومية في تحقيق خطط واستراتيجيات الدولة من منظور الأزمات المتتالية والمتراكمة، وستستمد قوتها السياسية والقانونية معا من تبعيتها للمؤسسة السلطانية، وقربها من أفكار عاهل البلاد حفظه الله ورعاه، ومن ثم من مؤهلات كوادرها وأطرها الفكرية والعلمية في المجالات المختلفة.

عبدالله باحجاج كاتب عماني مهتم بالتحولات المجتمعية في الخليج