غزو أوكرانيا يؤشر لبداية حقبة ما بعد أمريكا
الاحد / 9 / شعبان / 1443 هـ - 18:55 - الاحد 13 مارس 2022 18:55
ترجمة قاسم مكي -
غزو روسيا لأوكرانيا حَدَثٌ زلزالي. وربما هو الحدث الأكثر دلالة في الحياة الدولية منذ سقوط حائط برلين.
هذه الحرب (الروسية - الأوكرانية) مؤشرعلى نهاية عصر. لكن ما الذي يمكننا قوله بشأن العصرالجديد الذي ندخله الآن؟ الشىء الأهم أنه يتَّسم بغلبة السياسة على الإقتصاد. فخلال العقود الثلاثة الماضية كانت معظم البلدان تعمل وفي ذهنها شىء واحد هو النمو الإقتصادي. لقد تبنَّت في حماس التجارةَ والتقنية والإصلاحات الداخلية. وكل ذلك من أجل تحقيق النمو.
هذا النوع من الخيارات ممكن في مناخ لا يحتاج فيه أحد للقلق كثيرا بشأن قضية الأمن القومي الجوهرية. لكن البلدان حول العالم والتي كان أمنُها تحصيل حاصل (من كندا إلى استراليا واليابان) تفكر اليوم مجددا بشأن مواقفها وقواتها الدفاعية.
الحل العسكري جزء واحد فقط من الطريقة التي تتغلب بها السياسة على الإقتصاد. فالبلدان تبحث عن قدر أكبر من الأمن القومي في سلاسل إمدادها وفي اقتصاداتها عموما.
هذا اتجاه بدأ قبل عدة سنوات. فالسياسات التي يجري تبنيها بواسطة معظم البلدان المؤمنة بحرية السوق، كالبريكْست (خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي) و'اشتري المنتج الأمريكي'، تتأثر بالقومية الشعبوية أكثر من تأثرها باقتصاديات السوق.
في وقت مبكر من هذا الشهر، حثَّ الرئيس الصيني شي جينبينج واضعي السياسات في بلده على الكفِّ عن الإعتماد على الأسواق العالمية في الحصول على الغذاء قائلا أن 'الأواني الصينية' يجب 'ملؤها في الأساس بالغذاء الصيني'.
ربما نحن نشهد ارتدادا عن ثلاثين عاما من العولمة.
مثلا خلال تلك الأعوام الثلاثين الماضية أسست شركة مكدونالدز نشاطا تجاريا كبيرا في روسيا. فقد أقامت شبكة من المزارعين والمورِّدين. وافتتحت 870 مطعما وأوجدت قاعدة كبيرة من الزبائن. لكن كل هذا النشاط جرى تجميده. وربما يتوقف نهائيا.
كما أعادت شركة الطيران الروسية 'ايروفلوت' بناء نفسها بعد تفكيكها في فترة ما بعد الإتحاد السوفيتي. والآن مع رفض شركتي بوينج وأيرباص تزويدها بقطع الغيار أو صيانة طائراتها، قد تتوقف ايروفلوت عن الطيران تماما.
من المؤكد أن مثل هذه الإجراءات التي تغلِّب الأمن والإكتفاء الذاتي على الكفاءة سيترتَّب عنها أثر يتمثل في رفع الأسعار في كل مكان. فمع بحث البلدان عن المرونة وابتعادها عن الإعتماد المفرط على البلدان الأجنبية قد يصبح التضخم ملمحا أكثر ديمومة للعالم الجديد، حتى إذا كانت صدمات الإمدادات التي تسببها الحرب مؤقتة.
نحن أيضا في الغالب نواجه عالما جديدا للطاقة. وهو عالم تظل فيه أسعار النفط والغاز الطبيعي مرتفعة.
ذلك يعني أن البلدان التي تنتج المواد الهيدروكربونية ستحصل على أموال نقدية وفيرة (تريليونات الدولارات) خلال العقد القادم. (كما يوضح ذلك لماذا من الضروري قطع مصدر الإيرادات الرئيسي لبوتين. وهو صناعة النفط والغاز في بلده). وستكون بلدانٌ مثل السعودية والإمارات وقطر مصادرَ ضخمة للفوائض الرأسمالية في العالم.
إحدى السمات المميزة للعهد الجديد أنه 'ما بعد أمريكي.' بذلك أعني أن السلام الأمريكي ( باكس أمريكانا) الذي ساد العالم في العقود الثلاثة الماضية قد انتهى. ويمكن مشاهدة علامات ذلك في كل مكان. مثلا إسرائيل ( في البداية) والهند رفضتا وصف تصرفات بوتين بالغزو. وأوضحتا أنهما ستواصلان التبادل التجاري مع روسيا.
من أول نظرة قد يبدو أن هذا نظام عالمي جديد ضد أمريكا. لكنه ليس بالضرورة كذلك. فالولايات المتحدة تظل القوة الرئيسية في العالم. فهي لاتزال أقوى وإلى حد بعيد من كل باقي الدول. كما تستفيد أيضا من بعض ملامح هذا العهد الجديد. فالولايات المتحدة هي أكبر منتج في العالم للمواد الهايدروكربونية. وفي حين أن ارتفاع أسعار الطاقة سيء جدا لبلدان مثل الصين وألمانيا إلا أنه في الواقع يحفز على النمو في أجزاء كبيرة من الولايات المتحدة.
من منظور الجغرافيا السياسية، وضع غزو روسيا لأوكرانيا الصينَ، المنافس الرئيسي للولايات المتحدة، في موقف محرج يجبرها على الدفاع عن تصرفات موسكو ويضعها في خصام مع الإتحاد الأوروبي الذي حاولت بشدة أن تقيم معه روابط وثيقة.
الفرصة الإستراتيجية الأعظم متاحة الآن لأوروبا والتي يمكنها توظيف هذا التحدي للكف عن السلبية وَسَمَت دورها كلاعب دولي على مدى عقود.
نحن الآن نرى مؤشرات على استعداد الأوروبيين لإنهاء حقبة الأمن المجاني بزيادة الإنفاق الدفاعي وتأمين الحدود الشرقية لحلف الناتو.
التحول اللافت في موقف ألمانيا يشكل بداية. وإذا أصبحت أوروبا لاعبا استراتيجيا في المسرح العالمي قد يكون ذلك أكبر تحول جيوسياسي ينشأ عن هذه الحرب. وستشكل الولايات المتحدة إلى جانب أوروبا الموحدة والواضحة الأهداف تحالفا عظيما لدعم القيم الليبرالية.
لكن لكي يصبح الغرب موحدا وقويا من جديد هنالك شرط جوهري. فهو يجب أن ينتصر في أوكرانيا. وذلك ما يشير إلى أن الضرورة الملِحَّة في الوقت الراهن هي القيام بكل ما يلزم (من تحمل للتكاليف والمخاطر) لضمان عدم انتصار بوتين.
• فريد زكريا صحفي ومعلق سياسي أمريكي من أصول هندية – يكتب بانتظام عن الشؤون الدولية في جريدة واشنطن بوست
غزو روسيا لأوكرانيا حَدَثٌ زلزالي. وربما هو الحدث الأكثر دلالة في الحياة الدولية منذ سقوط حائط برلين.
هذه الحرب (الروسية - الأوكرانية) مؤشرعلى نهاية عصر. لكن ما الذي يمكننا قوله بشأن العصرالجديد الذي ندخله الآن؟ الشىء الأهم أنه يتَّسم بغلبة السياسة على الإقتصاد. فخلال العقود الثلاثة الماضية كانت معظم البلدان تعمل وفي ذهنها شىء واحد هو النمو الإقتصادي. لقد تبنَّت في حماس التجارةَ والتقنية والإصلاحات الداخلية. وكل ذلك من أجل تحقيق النمو.
هذا النوع من الخيارات ممكن في مناخ لا يحتاج فيه أحد للقلق كثيرا بشأن قضية الأمن القومي الجوهرية. لكن البلدان حول العالم والتي كان أمنُها تحصيل حاصل (من كندا إلى استراليا واليابان) تفكر اليوم مجددا بشأن مواقفها وقواتها الدفاعية.
الحل العسكري جزء واحد فقط من الطريقة التي تتغلب بها السياسة على الإقتصاد. فالبلدان تبحث عن قدر أكبر من الأمن القومي في سلاسل إمدادها وفي اقتصاداتها عموما.
هذا اتجاه بدأ قبل عدة سنوات. فالسياسات التي يجري تبنيها بواسطة معظم البلدان المؤمنة بحرية السوق، كالبريكْست (خروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي) و'اشتري المنتج الأمريكي'، تتأثر بالقومية الشعبوية أكثر من تأثرها باقتصاديات السوق.
في وقت مبكر من هذا الشهر، حثَّ الرئيس الصيني شي جينبينج واضعي السياسات في بلده على الكفِّ عن الإعتماد على الأسواق العالمية في الحصول على الغذاء قائلا أن 'الأواني الصينية' يجب 'ملؤها في الأساس بالغذاء الصيني'.
ربما نحن نشهد ارتدادا عن ثلاثين عاما من العولمة.
مثلا خلال تلك الأعوام الثلاثين الماضية أسست شركة مكدونالدز نشاطا تجاريا كبيرا في روسيا. فقد أقامت شبكة من المزارعين والمورِّدين. وافتتحت 870 مطعما وأوجدت قاعدة كبيرة من الزبائن. لكن كل هذا النشاط جرى تجميده. وربما يتوقف نهائيا.
كما أعادت شركة الطيران الروسية 'ايروفلوت' بناء نفسها بعد تفكيكها في فترة ما بعد الإتحاد السوفيتي. والآن مع رفض شركتي بوينج وأيرباص تزويدها بقطع الغيار أو صيانة طائراتها، قد تتوقف ايروفلوت عن الطيران تماما.
من المؤكد أن مثل هذه الإجراءات التي تغلِّب الأمن والإكتفاء الذاتي على الكفاءة سيترتَّب عنها أثر يتمثل في رفع الأسعار في كل مكان. فمع بحث البلدان عن المرونة وابتعادها عن الإعتماد المفرط على البلدان الأجنبية قد يصبح التضخم ملمحا أكثر ديمومة للعالم الجديد، حتى إذا كانت صدمات الإمدادات التي تسببها الحرب مؤقتة.
نحن أيضا في الغالب نواجه عالما جديدا للطاقة. وهو عالم تظل فيه أسعار النفط والغاز الطبيعي مرتفعة.
ذلك يعني أن البلدان التي تنتج المواد الهيدروكربونية ستحصل على أموال نقدية وفيرة (تريليونات الدولارات) خلال العقد القادم. (كما يوضح ذلك لماذا من الضروري قطع مصدر الإيرادات الرئيسي لبوتين. وهو صناعة النفط والغاز في بلده). وستكون بلدانٌ مثل السعودية والإمارات وقطر مصادرَ ضخمة للفوائض الرأسمالية في العالم.
إحدى السمات المميزة للعهد الجديد أنه 'ما بعد أمريكي.' بذلك أعني أن السلام الأمريكي ( باكس أمريكانا) الذي ساد العالم في العقود الثلاثة الماضية قد انتهى. ويمكن مشاهدة علامات ذلك في كل مكان. مثلا إسرائيل ( في البداية) والهند رفضتا وصف تصرفات بوتين بالغزو. وأوضحتا أنهما ستواصلان التبادل التجاري مع روسيا.
من أول نظرة قد يبدو أن هذا نظام عالمي جديد ضد أمريكا. لكنه ليس بالضرورة كذلك. فالولايات المتحدة تظل القوة الرئيسية في العالم. فهي لاتزال أقوى وإلى حد بعيد من كل باقي الدول. كما تستفيد أيضا من بعض ملامح هذا العهد الجديد. فالولايات المتحدة هي أكبر منتج في العالم للمواد الهايدروكربونية. وفي حين أن ارتفاع أسعار الطاقة سيء جدا لبلدان مثل الصين وألمانيا إلا أنه في الواقع يحفز على النمو في أجزاء كبيرة من الولايات المتحدة.
من منظور الجغرافيا السياسية، وضع غزو روسيا لأوكرانيا الصينَ، المنافس الرئيسي للولايات المتحدة، في موقف محرج يجبرها على الدفاع عن تصرفات موسكو ويضعها في خصام مع الإتحاد الأوروبي الذي حاولت بشدة أن تقيم معه روابط وثيقة.
الفرصة الإستراتيجية الأعظم متاحة الآن لأوروبا والتي يمكنها توظيف هذا التحدي للكف عن السلبية وَسَمَت دورها كلاعب دولي على مدى عقود.
نحن الآن نرى مؤشرات على استعداد الأوروبيين لإنهاء حقبة الأمن المجاني بزيادة الإنفاق الدفاعي وتأمين الحدود الشرقية لحلف الناتو.
التحول اللافت في موقف ألمانيا يشكل بداية. وإذا أصبحت أوروبا لاعبا استراتيجيا في المسرح العالمي قد يكون ذلك أكبر تحول جيوسياسي ينشأ عن هذه الحرب. وستشكل الولايات المتحدة إلى جانب أوروبا الموحدة والواضحة الأهداف تحالفا عظيما لدعم القيم الليبرالية.
لكن لكي يصبح الغرب موحدا وقويا من جديد هنالك شرط جوهري. فهو يجب أن ينتصر في أوكرانيا. وذلك ما يشير إلى أن الضرورة الملِحَّة في الوقت الراهن هي القيام بكل ما يلزم (من تحمل للتكاليف والمخاطر) لضمان عدم انتصار بوتين.
• فريد زكريا صحفي ومعلق سياسي أمريكي من أصول هندية – يكتب بانتظام عن الشؤون الدولية في جريدة واشنطن بوست