أفكار وآراء

الحالة القرائية.. حالة اجتماعية

تتزامن كتابة هذه المقالة مع عودة معرض مسقط الدولي للكتاب في دورته (26). والذي استبشر القراء والوسط الثقافي والمجتمعي عمومًا بعودته بعد تقلبات جائحة كورونا (كوفيد 19) وما فرضته من قيود على الأنشطة والتجمعات المختلفة. يُطرح سؤال الحالة القرائية مع كل محفل قرائي يقام، وهو سؤال لا يحتمل الامتياز العُماني. بل هو سؤال عالمي تجسدهُ هواجس من قبيل: هل ما زال الناس يقرؤون؟ وكم يخصصون من أوقاتهم للقراءة؟ وهل سرق نمط 'الثقافة السريعة' وتحولات 'المتلقي المجزء' الناس من القراءة المعمقة في الكُتب؟ وهل أربك مشهد قراءة الكتب الإلكترونية تشيخص الحالة القرائية في العالم؟ وغيرها من الأسئلة التي لا تزال تطرح بشكل دائمًا على الصفحات الثقافية في الجرائد والندوات الثقافية وتجمعات المثقفين وهموم الناشرين وكافة المنخرطين في صناعة الأدب والنشر وهموم الثقافة.

لسنوات سيطرت عناوين من قبيل 'العرب لا يقرؤون' وأن 'معدل ما يقرأه الفرد العربي 6 دقائق سنويًا' ومسألة الانخراط في صوغ مقارنات بين متوسطات القراءة للأفراد حول العالم بناء على تقارير لها ظرفيتها (المنهجية/ الزمنية/ الثقافية) ظل كل ذلك بمثابة (جلد) للحالة القرائية في العالم العربي – التي لا نقول أنها في أفضل أحوالها – ولكنها في المقابل في تقديرنا ليست بالسوء الذي يتم تصويره. النسخة الأخيرة على سبيل المثال من مؤشر NOP World Culture Score Index تضع القارئ في مصر والسعودية ضمن أكثر 10 دول في معدلات ساعات قراءة الفرد في الأسبوع بواقع 7:30 ساعة أسبوعيًا للمصريين، و 6:48 ساعة أسبوعيًا للسعوديين، ومؤشر القراءة العربي 2016 الصادر عن مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي يكشف لنا أن معدل القراءة العربي يساوي 35.24 ساعة سنويًا للفرد، وأن متوسط عدد الكتب المقروءة سنويًا أكثر من 16 كتابًا في السنة. هذا إذا ما سلمنا لمقاربة القياس الكمي. ولكن الحديث في الحالة القرائية في تقديري يجب أن ينظر أيضًا إلى التجسدات التي تعكسها هذه القراءة، التردد على المكتبات القرائية التجارية مثالًا، الاقتباسات والنقاشات الافتراضية التي تجري حول الكتب، الأفراد الذي يتخصصون في القراءة لمدرسة معينة، أو كاتب معين ويستطيعون تحليل وربط ومقاربة أطروحاته بصورة نقدية، القفز الحر بين سياقات القراءة المحلية والعربية والقراءات الأجنبية والقدرة على الموازنة بينها، انعكاس مشهد القراءة على النتاج الكتابي وحالة الإصدارات، وتمثلات القراءة في الشخصية القارئة ذاتها في وعيها وحوارها وانخراطها في الشأن العمومي. تلك أمثلة موجزة لتجسدات يمكن أن نلحظ مستوى التغير فيها من خلال المعاينة العامة للمجتمع المحيط عوضًا عن التكميم أو القياس الرقمي الذي قد يكون خاضعًا لعتبات كثيرة منها طبيعة العينات، والمدى الزمني الذي تقاس فيه المؤشرات وتطور فيها الإحصاءات، ومدى القدرة على تطوير منهجيات قياس أثر القراءة، وطبيعة الإفصاح الذاتي عن القراءة، هذا إلى جانب مستوى الجدية في التعامل مع مثل هذه الاستقصاءات والاستطلاعات.

هذا لا ينفي بالضرورة الحاجة إلى القياس الكمي لمؤشرات الثقافة عمومًا شريطة إحكام المنهج وقياس التقاطعات بمعنى أنه كلما كان هناك مؤشر قادر على أن يبين انعكاس الحالة القرائية وتكامله مع أنشطة ثقافية أخرى كلما كانت القدرة على فهم حالة وخارطة الثقافة أكثر دقة، وهي تمهد في الجانب الآخر لفهم الحالة الاجتماعية، وتشكل مدخلًا محوريًا لتقصي التغيرات والتحولات التي تطرأ على المشهد الاجتماعي عمومًا وعلى أنماط الوعي والمشاركة وتحولات القناعات الاجتماعية، والاتجاهات الفكرية والمعرفية السائدة بشكل دقيق، ولعلنا هنا نشير إلى تجربة المملكة العربية السعودية في استصدار تقرير 'الحالة الثقافية' الذي يقدم نموذجًا منهجيًا يتعدى القياس الكمي إلى حالة تقصي الاتجاهات وأنماط مساهمة الأفراد في مشهد الثقافة الوطني وعلاقة ذلك بالتحولات في مشهد وسوق صناعة الثقافة العالمية من ناحية، ومستهدفات القطاع الثقافي في المملكة من ناحية أخرى.

في دراسة أجرتها جامعة بازل السويسرية لتتبع عادات ملايين القراء باستخدام منصة Wattpad. حيث تتم مشاركة أكثر من 100000 قصة مكتوبة بأكثر من 50 لغة يوميًا، حيث وجدوا أن هناك 80 مليون من القراء والكتاب على المنصة يخوضون في نقاشات وتعليقات معمقة بشكل يومي حول المواد والكتب والقصص والمقالات التي تنشر على المنصة، ووجدت الدراسة أن الشباب 'أكثر عرضة لمناقشة شعورهم تجاه النصوص. ومع ذلك، عند قراءة الكلاسيكيات، أصبح التفاعل الاجتماعي المعرفي هو الموضوع السائد'. وطرحت الدراسة فرضية 'القراءة الاجتماعية' بديلًا عن 'القراءة التحليلية'. في إشارة إلى أن انخراط الأفراد في مجموعات/ منصات/ شبكات قرائية يحفزهم لإظهار رؤى تعاطفية مع ما يقرؤون والانسجام في محتوياته بشكل معمق. ويعنينا هنا القول أنه إذا كانت المراهنة على القراءة في أشكالها وأنماطها التقليدية، ومحاولة محاكمة المجتمعات بسياطها، فمن الطبيعي جدًا مع التحولات الراهنة أن تفصح المؤشرات عن إرباك في الحالة القرائية، هناك قارئ النص، والقارئ الإلكتروني، والقارئ السياقي، والقارئ المتخصص في كاتب معين، والقارئ الذي يعتمد مادة مرئية للعودة إلى مادة مكتوبة إن استدعته حاجة الفهم والتدقيق، كلها أنماط آخذة في حجز حيز لها في مشهد الحالة الثقافية، وعليه فإن الفهم الأوسع للحالة القرائية ليس في عزلها المباشر عن الحالة الثقافية، أو الحالة الاجتماعية، وإنما في محاولة فهمها ضمن سياق هاتين الحالتين، ومحاولة إيجاد الروابط المنهجية لفهم الطريقة التي تمارس بها المجتمعات أنماط ثقافتها وإنتاجها الثقافي وعلاقة ذلك بالتحولات التي تجري في محيط المجتمع وأوضاعه.

* مبارك الحمداني كاتب عماني مهتم بقضايا علم الاجتماع