مُعلم السحر الذي لا يُبتلى
الأربعاء / 21 / رجب / 1443 هـ - 20:13 - الأربعاء 23 فبراير 2022 20:13
مرّ موسمان دون مطر. جفّ الزرع والحصاد أوشك على الانتهاء وحصص الطعام أخذت تتضاءل كل يوم. سيد الحصن لم يحصل على عون من القرى الأخرى. أخذ قطاع الطرق يعيثون فسادا في الأرجاء بسبب الجوع. لو وجدوا رجلا حرّا أخذوا محْزمه وتفقه وثيابه، ولو وجدوا امرأة حُرّة أخذوا فضّتها، أمّا لو وجدوا عبيدا من رجال أو نساء أخذوهم بما يرتدون دون مراعاة لأسيادهم.
صار الفلج الأسود شحيحا بالكاد يُبلل الحلوق العطشى. ماتت الأشجار والخضار، ولم تصمد سوى نخلات قليلة داخل الحصن. القليل من الرضع نجوا رغم ضمور صدور أمهاتهم، أمّا الأغلبية فقد أغمضوا أعينهم واستسلموا لنومهم الأبدي في مقبرتهم النائية التي يحرسها الشاغي برفقة أمّه فتنة العمياء. بدأتْ الحمى الهذيانية تقتنص أرواح العجائز من الرجال والنساء، ولم تجد الأبقار والماعز والجِمال والأحصنة عُشبا أخضر ولا بُنيًا تسد به رمقها، فاضطرت لتناول نباتات شوكية لم تحسب يوما حساب تناولها. تهوي الطيور ميتة دون أن تُصوب إليها بندقية من شدة الإعياء، فيهجم عليها أهل مجاز، ليفتتوا لحمها تحت أضراسهم الحادة قبل نتف ريشها. الأسوأ حظا منهم لم يكن يجد أكثر من الحشرات التي شوتها الشمس بلهيبها، ليوقف قرقرة بطنه المؤذية. تمر الأيام ببطء شديد، حتى أنّ الرجال الأشداء لم يكن بحوزتهم ما يخرجون به لمقايضته. لم يكن يمر أسبوع واحد دون أن يُدفَنَ عجوز أو رضيع أو شاب أو امرأة حامل، حتى أنّ الشاغي وأمّه فتنة العمياء أرسلا رسائل متتالية إلى الحصن وعبَّرا عن حاجتهما لأيدٍ إضافية تساعدهما على الحفر ومواراة الجثث المتساقطة. تكاثر الموت في هاتين السنتين إلى حدٍ مريع، وكان ألْماس يسألهم أن يتحدثوا عن المنْسي الذي يعيش بينهم، فتفشى الشك بين الناس وتغيرت نظراتهم لبعضهم البعض، ولكنهم احتفظوا بشكوكهم لأنفسهم، وانتظروا بمشقة هائلة ظهور علامة، علامة واحدة كفيلة بتغيير حياتهم وما سيؤول إليه مصير أبنائهم.
وفي يوم شديد البؤس، دخلتْ غفيلة بين يديّ سيد الحصن المُحاط بحاشيته ورجاله متورمة العينين، بدا كأن مصيبة قد حلّت بها، فسألها السيد عن سبب البكاء؟ قالت له: «إنّ علامة قد ظهرتْ على زوجها»، اضطرب السيد واعتدل في جلسته. ارتفع نشيج غفيلة: «إني على يقين مما أقول. لقد ظهرت العلامة بجلاء يا سيدي!» تلفت الناس فيما بينهم وعلت الهمهمات المتسائلة.
«قولي لي كيف؟»، قال السيد.
أرخت جسدها بالغ الهُزال على ركبتيها، فانطوى طرف ثوبها الأسود الفضفاض تحت كاحليها. شابت وجنتيها حُمرة شديدة، ثم قالت متقطعة الأنفاس: «إن هذا الرجل الذي أعيش بصحبته منذ أربعة وعشرين عاما، لم يمرض قط يا سيدي، لقد مرّ على مجاز فواجع الدنيا كلها ولم يمرض. لقد مات من مات، ولم يعبر زوجي حويضر وجعٌ قط، ولم يملأ قلبه همٌ منذ أن عرفته، ولم يشتكِ يوما من ضيق الحال. الجوع يفتُّ مجاز من أولها لآخرها، لكن ذلك لم يشغل باله الهانئ للحظة واحدة» أردفت غفيلة والغصة تقطع قلبها: «والله إني أحبه حبا لا يعلمه إلا الله، ولكن كيف لي أن أحتمل العيش مع رجل لا يذكره الله!»، تصاعدت همهمات الناس غير المفهومة مجددا فقطعها صوت السيد: «ماذا تقولين يا امرأة؟». تدفقتْ الحُمرة بكثافة مضاعفة إلى وجنتيها وسال مخاطها أعلى شفتيها وترك دمعها خطين طوليين متوازيين من مدمع العينين نزولا لظهر كفيها: «اسأل أمّه إن كنتَ لا تصدقني، لا تزال على قيد الحياة، اسأل طبيب مجاز، اسأل أولادنا.. اسأل المعلم والوسّام وقالع الضروس.. اسأل بنفسك يا سيدي»، وانهارتْ غفيلة من شدة البكاء.
على العشاء طلب سيد الحصن حضور مستشاره ألْماس، وحويضر المتهم بظهور العلامة عليه، وأمّه وأبنائه وزوجته، وشملت الدعوة أهالي مجاز جميعا. جلسوا جنبا إلى جنب في صحن الحصن كعادتهم في النائبات والأفراح على حد سواء، فأشعل الخدم الأسرجة، وأعدوا الطعام القليل فوق جمرهم المُشتعل. كان حويضر بينهم كأنّه الوحيد الذي لا علم له بما يجري. سأل السيد الأمّ: «أيتها الأمّ، لا أحن منك على ابنكِ. هل تظنين أنّ فيه علامة؟» تغير وجه حويضر من السؤال وتفاجأ، ولم تخرج الكلمة من حلقه وهو يحرك شفتيه: «علامة؟».
غرقتْ الأمُّ في دمع وفير وزمت شفتيها، بل كادت أن تقطعهما بين قواطع أسنانها وقالت: «لطالما كنتُ أشاهد العلامة وأنكرها، وأقول إنّ الله سيذكره ويبتليه يوما ما، وانتظرتُ وانتظرتُ يا سيدي. قلتُ بادئ الأمر: لعله الأوفر حظا بين أولادي. ومرّت السنوات، وصار يتجاوز الأربعين ولم يذكره الله ببلاء»، بكت بحرقة كأنّه مات للتو.
وجّه السيد كلامه لـوسّام مجاز الذي يكوي آلامهم بالنار، فقال: «لم يصل أحدٌ في مجاز عمر الأربعين دون وسْمٍ في جزء من أجزاء بدنه، لم يصل أحد لهذا العمر دون ألم أو وجع، ولكن حويضر لم يأتِ يوما إليّ» وقال قالع الضروس: «إنّ الصغار والكبار قد مروا عليّ، بينما صفَّا أسنان حويضر احتفظا بسلامتهما ولم يمسهما سوء قط».
صاحت غفيلة مُجددا: «منذ تزوجته، قاسيتُ مع أولادي آلاما لا نهائية، وكان هو ينام قرير العين، لا وجع ولا تأوه» وعادت لتؤكد: «أحبه يا سيدي، ولكن أخاف عليه أن يكون منْسيا.. يا الله.. منْسيا»، وظلت تلطم خديها حتى اسودا، وتضرب على فخذيها حتى تقرّحا.
سُمع صوت القابلة التي ولّدت كل نساء مجاز، ولكن لم يتمكن كُثر من رؤيتها نظرا لأنّها تجلس في الصف الأخير، وأيضا لفرط ضآلتها. قالت القابلة بصوتها المبحوح: «أمّ حويضر صرختْ لحظة الولادة، لكن لم تكن تلك صرخات الطلق والوجع وإنّما المباغتة! لقد هبط حويضر في سروالها قبل أن أمسها، وما كان من حبل سرته سوى أن انقطع والتأم دون أن تمسه يداي، وبعد ثلاثة أيام نشف دون تقرحات، ولم يترك اسودادا يذكر! لقد رأيتُ ما رأيت يا سيدي، وكابرتُ ونفيتُ بيني وبين نفسي أن تكون تلك علامة».
وقال رجل الدين: «إنّ حويضر لا يأتي ليُصلي ولا يرفع يديه بالدعاء، ولا يذهب معنا لصلوات الماء أسفل جبل الغائب. ذهبتُ إليه مرارا، كان يحبسُ نفسه في بيته ولا نعلم ما شغله الشاغل في البيت، كأن لا حاجة به للدعاء». لام رجل الدين نفسه لوما شديدا وبكى بقهرٍ لأنّ التوأم اللذين أنجبتهما زوجته ماتا من تيبس حليب أمّهما الجائعة السنة الماضية. شرع أهل مجاز في تهدئته. رفع رجل الدين سبابته لوجه حويضر البارد والفارغ من أي معنى: «سنتان من الجفاف والموت، ولم يمتلك أحدنا الشجاعة ليقول إنّك لعنتنا أيها المنْسي». قال المعلم: «ما قابلني قطٌ دماغ أنظف من هذا الدماغ! ينهلُ العلم كما يشرب الماء، بديهة حاضرة وإجابة بليغة! الحقيقة شككتُ أكثر من مرّة أن تكون تلك علامة، إلا أنّي تجاوزت الأمر».
صارع المعلمُ حويضر في أكثر من رأي، فكانت الغلبة لحويضر، لقوة رأيه وصلابة منطقه، فرفض أن يُعين حويضر مُدرسا في مجاز كما جرت العادة، أن يُصبح التلامذة المتفوقون أساتذة بعد أن يفكوا طلاسم الخط، ولكنها كانت فرصة طيبة، فلم يتذمر حويضر البتة من بقائه بعيدا عن الناس وبعيدا عن فرص الاحتكاك بهم. كان يُوفر نفسه لشيء أرفع شأنا مما يظنون.
يُصاحب حويضر طيور الوادي وأحجاره إلى أن وجد يوما ما كتاب السحر الذي دفنه ألماس وسيد الحصن منذ عشرات السنين في قعر الوادي، مُتناسيين قدرة تيارات الماء الرقيقة على دفع كتاب السحر للحياة مُجددا. ظلتْ المياه تحفر وتحفر إلى أن كشفتْ شيئا من جوهر الحقيقة، لتجعل تلك الكلمات مُتاحة لحويضر، وهو يتحول لسمكة قوية في أشد الأودية صعوبة، فيغوص إلى قيعانها العميقة حابسا كمية هائلة من الهواء في رئتيه، دافعا بيديه إلى الوراء بينما رأسه يُغامر في مساحات لم تصلها أجساد بشرية من قبل. هناك حيث يجد اطمئنانه الآسر.
ذات مرّة وبينما كان حويضر يغوص في الوادي تراءى له شيءٌ ما. ذلك اللمعان الذي لا يمكن للقلوب إلا أن تخفق لأجله. لقد حفرتْ المياه العذبة أسفل الجبل فأحدثت شقا عميقا فيه، وعندما ولج حويضر في الشق، لم يتمكن من أن يُبصر شيئا، لقد غمر نفسه تحت الجبل تماما، حيث لا تصل أشعة الشمس النهارية، وكأن شيئا جنونيا يجذبه لمتابعة الأمر. بات بعيدا جدا، بعيدا أكثر مما ينبغي، ومخزون الهواء يوشك على النفاد من رئتيه، لكنه لم يتخلَ عن تلك اللحظة الجنونية وتلك الدعوة التي تُقدمها الأعماقُ بسخاءٍ أمومي. أخذه الفضول ليكتشف، إذ لم تستطع عيناه أن تقاوم ذلك اللمعان في قلب الظلمة، وما إن أطبق يديه على ذلك الشيء المجهول، حتى انتابه دوارٌ شرس، فتسربتْ آخر جزيئات الهواء التي احتفظ بها في رئتيه، مُحدثة فقاقيع لا نهائية، فقد طاقته، وشعر بإغماءة طفيفة. إلا أنّ قوة عجائبية انتشلته من الظلمات إلى النور. استيقظ بعد برهة من الزمن لم يستطع أن يُقدرها على وجه الدقة، استيقظ تحت تأثير نوبة سعالٍ قوية أخرج معها كمية كبيرة من المياه التي تسد مجرى تنفسه، فوجد بين يديه كتابا، لم تتمكن المياه العابرة من محو أحباره أو تفتيت جلده الثخين الأسود.
تلفت حويضر يمينا وشمالا كأنّه يُقدم على عمل مشين، فقوانين الحصن تحرمُ الكتب بكل أنواعها وعلى رأس القائمة كتب السحر. لكنها هدية الأعماق ولا يمكنه التخلي عنها بهذه السهولة. وضع الكتاب في عباءته، وكان كل ليلة ينتظر نوم زوجته وأبنائه، ليُعدّ قدحا من تمره المُسكر، ثم ينهل علوم كتابه في الخفاء تحت ضوء سراجه المُعلق، حتى أسرته الكلمات واقشعر بدنه لأجلها وأحبها.
صاح المعلم وكأن الغيظ القديم في قلبه يستيقظ: «بحوزتك كتب ممنوعة، وقد قتلت الزرع لعامين متتاليين وجعلت الحبوب بلا قيمة في تربة مريضة!».
قال الفلاحون الأربعة عشر الأشهر في مجاز: «عمل حويضر في الحقول معنا، ما إن تمس يداه شجرة حتى تينع، وكانت غلته آخر العام بجودة تفوق غلتنا. يداه لا تكلان، وقلبه لا يتعب»، وخرج من بين الجمع ولدٌ أشعث، شعره العسلي يتطاير فوق وجهه، ووجنتاه مائلتان للسواد من حروق الشمس. قال بصوت لاهث: «صنع حويضر من تمره ما أذهب عقول الناس، لقد شهدتُ عليه، وسهرتُ معه ليلة حتى أذهب عقلي». قال سجّان مجاز وجلادها: «لا حق لنا بسجن حويضر أو تعذيبه أو قتله أو تقطيع أطرافه. عليه أن يُقرّ بملء إرادته أنّه آثم كما جرت العادة. هم لم يختاروا أن يكونوا منْسيين، ولكنه قدرهم ولعنتهم، ولذا نترك جبل الغائب يتكفل بمصيرهم».
هيمن الصمتُ الطويل، فسمعوا صوت ديَكتهم الجائعة تصيح مُعلنة قدوم الصباح، سمعوا صوت مواشيهم تعلن جوعها الحاد ونقيق الضفادع يملأُ الوادي المُوشك على الاضمحلال. ترك الناس صحن الحصن مرتبكين من ظهور الشمس قبل أن يأخذوا قسطا من الراحة، بينما بقي وجه حويضر بينهم لا ينم عن شيء مُحدد.
نظر سيد الحصن لمستشاره ألْماس، قائلا: «لا حل سوى أن يُنفى لجبل المنسيين. جبل الغائب، فإن الذين لا يذكرهم الله يجلبون اللعنة على القرى كما تعلم. ولكن، وكما قال السجّان، لا يجوز بأي حال إرسال أحدهم ما لم يشعر في قرارة نفسه بأنّه مذنب».
لم يشعر حويضر بالذنب. كان مُتفاجئا في البداية ثم فكّر بينه وبين نفسه: «مجاز لا يحدثُ فيها شيء فارق، لا شيء غير وديان جارفة، خصب يُزهر أو محل قاتل وموت»، لقد تعلّم كل شيء ها هنا وعمره الآن يربو على الأربعين، يريد أن يخرج من مجاز المسورة بالخوف والريبة والأحزان. الكتب هنا قليلة في جُلّها. لقد حرّم ألْماس أن تكون ضمن صكوك المقايضة، إلا أنّ البعض كانوا يمررون الكتب في خِراج حميرهم وجِمالهم التي يتأكدون أنّها لن تفتش بعين دقيقة لقاء قدح من خمْرة حويضر التي لا تشبهها خمرة، ولذا صارت لديه كتب من شتى العالم بعضها لم يتمكن من فك طلاسمها ورموزها، ولكن مجرد تصفح أوراقها البنية، يجعله ينظر للدنيا من زاوية أخرى. تعلم بواسطة دروس السحر القليلة أن يجعل مكتبته العظيمة مخفية، لا تنظرُ لها عين شريرة. إلا أنّ زوجته نظرتْ لكتبه بعين المحبّ. عين المحبّ التي لا تخفى عليها خافية، فكشفتْ سرّه، ومن ثمّ أذاعته لمجاز كلها. قال حويضر بينه وبين نفسه: «من يدري ما قد تخبئ لي الحياة فوق جبل الغائب.. ربما ثمّة ما يُناقض ظلمة الأعماق!» في الليلة السابقة لنفيه، ذهب حويضر إلى ألْماس سائلا مُستفهما كونه كبيرَ مجاز، عن الذين ذهبوا إلى جبل الغائب قبله. فقال إنّه يتذكر بعضهم. كانت العلامة تظهر مرّة كلَّ عدّة عقود من الزمان، وكانت العلامات مختلفة ومتباينة، لكنها تحمل دلالة واحدة فقط.. أنّهم منْسيون، «زوجتك وأمّك تحبانك وترغبان كما يبدو أن تتطهر، وقد تُعيدك الأقدار يوما ما إلى مجاز، من يدري ربما تعود على هيئة قصّة تروى». شعر حويضر ببعض من السرور لمجرد تخيله أنّه سيعود يوما ما على هيئة قصّة تروى بين الناس، وكان ذلك مُنتهى أمانيه. ثمّ تساءل: «هل عاد أحد من جبل الغائب من قبل؟ هزّ ألماس رأسه بالنفي: «لم يحدث هذا طوال حياتي، لم يعد أحد. إنّها متاهة كبرى وحياة أخرى!». سأل حويضر مجددا: «وما عساه يكون زادي؟» فأجاب ألماس: «خذ معك زادك الذي تظن أنّك لا تعيش دونه يا حويضر، وقد تلتقي بالمنْسيين هناك. يقال إنّ أحدا منهم لم يمت بعد».
حاول حويضر أن يبكي أو يُظهر مشاعره، أن يمتلك عاطفة ما تجاه ما يدور، لكنه ظل جامدا يفكر بزاده. ينظر بزاوية عينه إلى الناس ولا يتحدث عمّا يجيش بنفسه. ذكر ألْماس أنّ الذاهبين إلى جبل الغائب يفقدون الرغبات الثلاث، الجوع والعطش والشهوة. فكر حويضر بعمق في الشيء الذي يمكن أن يصطحبه معه، ووجد أنّ الشيء الذي تمكن من فعله بمحبة خالصة هو القراءة، لكنه لم يشبع كبقية أقرانه منها، كان جائعا ويريد أن يعرف أكثر. قال لهم: «سأحمل أوراقي ومحبرتي ومكتبتي المخفية».
لم يتدخل أحدٌ من أهل مجاز فيما اختار، ولكنهم فكروا بالتأكيد، لو كانوا مكانه لحملوا شيئا آخر تماما.
ركب الحمار الذي جُهز لأجله، وكان على ثلاثة من رجال مجاز الأشداء أن يرافقوه إلى أن يغيب خلف الخط الأول للغياب، كما تعارفوا على تسميته. خرج حويضر بعد أن جهز أوراقه ومحابره وكتبه، وأودعها في خُرْجِ الحمار. لم يودع أبناءه الخمسة الغاصين بالبكاء، ولا أمّه ولا زوجته اللتين أهالتا التراب على رأسيهما حزنا وكمدا. ولم يصوب نظره تجاه الناس المُحدقة فيه. تشاغل بتذكر زوادته وحسب.
كان لدى حويضر رغبة واحدة فقط، كان يرغب بجمع كل الألم الذي مرّ على الحياة منذ بدء الخليقة وحتى تلك اللحظة التائهة من الزمن، كان يأمل أن يحقن نفسه بكل الآلام اللامتناهية التي عبرت الكون، وكأنّما يشعر أن ذلك سيطهره حقا من كل آثامه.
في ذلك الصباح تنفسوا الصعداء، إذ إنّ الغُمّة أوشكت على الانكشاف. أخذت نُتفُ السحاب تلمُّ شملها في ذلك الصيف الذي يُنضجُ أكواز الذرة في أمهاتها، وسُمع حفيف الأشجار تُحركها نسمات باردة من الهواء، الأمر الذي لم يحدث منذ وقت طويل.
وما إن عاد الرجال الثلاثة الأشداء وأكد ثلاثتهم على غياب حويضر في ظلمة خط الغياب، حتى اجتمع أهالي مجاز في صحن الحصن وأعدت مأدبة كبيرة وهنأ الجميع الأمّ والزوجة -اللتين لم تنشف دموعهما- على شجاعتهما وحرصهما على سلامة مجاز.
استجابت السماء في نفس الليلة وأمطرت مجاز كما لم تمطر من قبل. تدفقتْ الوديان في الشِراج العطشى، وامتلأ اللِجل، وسالت الأفلاج بطيش قافزة فوق حواجزها. في تلك الليلة تأكد أهالي مجاز أنّ حويضر كان يسد مجرى هذا الخير.
لم يكن حويضر يعرف بكل الأشياء التي تبدلت في مجاز في غيابه، لكن من عساه يهتم!
تجمع أهالي مجاز في المساء كعادتهم، وتساءلوا عن الذين ذهبوا من قبل إلى جبل الغائب، ولا أحد غير ألْماس -كما يدعي- يتذكرهم بوضوح ويكرّ حكاياتهم، فأخبرهم أنّه شهد عددا منهم، ولا يعرف الكثير ممن سبقوهم. قصّة كل واحد منهم تختلف عن الآخر، كانوا مصدر بلاء لمجاز، وكانوا يحجبون المطر والخير، وعقب أن تناول قدحا من خمر حويضر الذي نُقل للحصن: «الآن بالتأكيد حويضر سيكون قد التقى بأحدهم أو باثنين منهم على الأقل وتبادل معهم الأحاديث، هنالك حيث لا جوع ولا عطش ولا شهوة».
سأل الولد الأصغر من أبناء حويضر بعينين باكيتين: «هل يستطيع أي أحد، أي أحد أن يذهب؟» اغتاظ ألّماس من السؤال: «أووه لا.. لا يستطيع أن يذهب أي أحد إلى جبل الغائب»، ثمّ اقترب بوجهه من الصغير وصوّب تلك النظرة اللائمة والمُحذرة: «فقط أولئك المنْسيين من رحمة الله، أمّا أنت أيّها الولد الصغير فلا تشبه أباك في شيء». وانفجر الأبناء الخمسة في بكاء شديد. قال ألْماس غير مهتم بنشيج الصغار المتعالي: «جبل الغائب لا يستقبل إلا من له علامة، يُجمع الجميع على صحتها. كان والدكم رجلا طيبا رقيق القلب ولكنه منْسي أيضا».
سألت أمّ حويضر بحسرة: «ألم يعرف أحدهم طريق العودة؟» ثمّ ترددت قائلة: «فقط نأمل بالقليل من المواساة!»
تنفس ألْماس بعمق وأغمض عينيه عقب جرعة أخرى من قدح التمر، فأدرك كل أهالي مجاز أنّه سيقول شيئا فريدا لم يقله من قبل: «عندما كنتُ شابا صغيرا، عائدا من سواحل بعيدة مُحمِلا خُرْجَ حماري بأسماكٍ طازجة، كنتُ قد بادلتها بعذوقٍ من النخل، مررتُ على حواف جبل الغائب فسمعتُ صوت امرأة منفية، تصرخ وتصرخ من عذاباتٍ لا نعيها نحن هنا، ميزتُ صوتها بدقة، كانت قد أُرسلت قبل ثلاثة أعوام إلى جبل الغائب. أشفقتُ عليها، فرفعتُ رأسي لأنظر إليها، فأصابتني الشمس الحارقة بالعمى المؤقت، ولم أبصر أكثر من ظلها الطويل مُنسابا فوق الوادي أسفلنا، ثم سقطتْ صخرةٌ كبيرةٌ من أعلى الجبل. ركضتُ وركضتُ لأنجو منها لكن حماري المسكين لم ينجُ، قتلته الصخرة، وتفرقت الأسماك الطازجة على الأرض، ولم أقدر من روع اللحظة على لمها. ظللتُ أنظر في عيون الأسماك وهي تنظر لي. بدتْ لمعة الشمس في عينيها وكأنها تبثُ فيها حياة جديدة فوق لهيب الأرض الحارق، خُيل لي أنّ الأسماك تنبض بالحياة وتتحرك فوق سخونة الأرض الحارقة. ركضتُ عائدا إلى القرية».
انحنى ألْماس مُقربا سبابته من وجوه الأولاد مجددا: «أيها الأولاد لا تفكروا بصعود الجبل ولا بالمرور قرب حوافه ولا بالخروج من مجاز. الخطر يُحدق بالمكان من كل صوب. الأمان الوحيد هنا». ثمّ ارتفعت نبرة صوته: «لا تخبئوا العلامات، تحدثوا عنها ما إن تجدوها. العلامات.. إنّها خيط نجاتنا، تُخلص الأرض من الشر فيعود الماء والخصوبة».
كانت أعين الجميع ورؤوسهم تومئ بالموافقة والتصديق، بينما عينا الولد الصغير الذي تركه حويضر خلفه تشيان بمرارة عميقة.
هدى حمد صحفية وروائية عمانية
فصل من رواية قيد النشر
صار الفلج الأسود شحيحا بالكاد يُبلل الحلوق العطشى. ماتت الأشجار والخضار، ولم تصمد سوى نخلات قليلة داخل الحصن. القليل من الرضع نجوا رغم ضمور صدور أمهاتهم، أمّا الأغلبية فقد أغمضوا أعينهم واستسلموا لنومهم الأبدي في مقبرتهم النائية التي يحرسها الشاغي برفقة أمّه فتنة العمياء. بدأتْ الحمى الهذيانية تقتنص أرواح العجائز من الرجال والنساء، ولم تجد الأبقار والماعز والجِمال والأحصنة عُشبا أخضر ولا بُنيًا تسد به رمقها، فاضطرت لتناول نباتات شوكية لم تحسب يوما حساب تناولها. تهوي الطيور ميتة دون أن تُصوب إليها بندقية من شدة الإعياء، فيهجم عليها أهل مجاز، ليفتتوا لحمها تحت أضراسهم الحادة قبل نتف ريشها. الأسوأ حظا منهم لم يكن يجد أكثر من الحشرات التي شوتها الشمس بلهيبها، ليوقف قرقرة بطنه المؤذية. تمر الأيام ببطء شديد، حتى أنّ الرجال الأشداء لم يكن بحوزتهم ما يخرجون به لمقايضته. لم يكن يمر أسبوع واحد دون أن يُدفَنَ عجوز أو رضيع أو شاب أو امرأة حامل، حتى أنّ الشاغي وأمّه فتنة العمياء أرسلا رسائل متتالية إلى الحصن وعبَّرا عن حاجتهما لأيدٍ إضافية تساعدهما على الحفر ومواراة الجثث المتساقطة. تكاثر الموت في هاتين السنتين إلى حدٍ مريع، وكان ألْماس يسألهم أن يتحدثوا عن المنْسي الذي يعيش بينهم، فتفشى الشك بين الناس وتغيرت نظراتهم لبعضهم البعض، ولكنهم احتفظوا بشكوكهم لأنفسهم، وانتظروا بمشقة هائلة ظهور علامة، علامة واحدة كفيلة بتغيير حياتهم وما سيؤول إليه مصير أبنائهم.
وفي يوم شديد البؤس، دخلتْ غفيلة بين يديّ سيد الحصن المُحاط بحاشيته ورجاله متورمة العينين، بدا كأن مصيبة قد حلّت بها، فسألها السيد عن سبب البكاء؟ قالت له: «إنّ علامة قد ظهرتْ على زوجها»، اضطرب السيد واعتدل في جلسته. ارتفع نشيج غفيلة: «إني على يقين مما أقول. لقد ظهرت العلامة بجلاء يا سيدي!» تلفت الناس فيما بينهم وعلت الهمهمات المتسائلة.
«قولي لي كيف؟»، قال السيد.
أرخت جسدها بالغ الهُزال على ركبتيها، فانطوى طرف ثوبها الأسود الفضفاض تحت كاحليها. شابت وجنتيها حُمرة شديدة، ثم قالت متقطعة الأنفاس: «إن هذا الرجل الذي أعيش بصحبته منذ أربعة وعشرين عاما، لم يمرض قط يا سيدي، لقد مرّ على مجاز فواجع الدنيا كلها ولم يمرض. لقد مات من مات، ولم يعبر زوجي حويضر وجعٌ قط، ولم يملأ قلبه همٌ منذ أن عرفته، ولم يشتكِ يوما من ضيق الحال. الجوع يفتُّ مجاز من أولها لآخرها، لكن ذلك لم يشغل باله الهانئ للحظة واحدة» أردفت غفيلة والغصة تقطع قلبها: «والله إني أحبه حبا لا يعلمه إلا الله، ولكن كيف لي أن أحتمل العيش مع رجل لا يذكره الله!»، تصاعدت همهمات الناس غير المفهومة مجددا فقطعها صوت السيد: «ماذا تقولين يا امرأة؟». تدفقتْ الحُمرة بكثافة مضاعفة إلى وجنتيها وسال مخاطها أعلى شفتيها وترك دمعها خطين طوليين متوازيين من مدمع العينين نزولا لظهر كفيها: «اسأل أمّه إن كنتَ لا تصدقني، لا تزال على قيد الحياة، اسأل طبيب مجاز، اسأل أولادنا.. اسأل المعلم والوسّام وقالع الضروس.. اسأل بنفسك يا سيدي»، وانهارتْ غفيلة من شدة البكاء.
على العشاء طلب سيد الحصن حضور مستشاره ألْماس، وحويضر المتهم بظهور العلامة عليه، وأمّه وأبنائه وزوجته، وشملت الدعوة أهالي مجاز جميعا. جلسوا جنبا إلى جنب في صحن الحصن كعادتهم في النائبات والأفراح على حد سواء، فأشعل الخدم الأسرجة، وأعدوا الطعام القليل فوق جمرهم المُشتعل. كان حويضر بينهم كأنّه الوحيد الذي لا علم له بما يجري. سأل السيد الأمّ: «أيتها الأمّ، لا أحن منك على ابنكِ. هل تظنين أنّ فيه علامة؟» تغير وجه حويضر من السؤال وتفاجأ، ولم تخرج الكلمة من حلقه وهو يحرك شفتيه: «علامة؟».
غرقتْ الأمُّ في دمع وفير وزمت شفتيها، بل كادت أن تقطعهما بين قواطع أسنانها وقالت: «لطالما كنتُ أشاهد العلامة وأنكرها، وأقول إنّ الله سيذكره ويبتليه يوما ما، وانتظرتُ وانتظرتُ يا سيدي. قلتُ بادئ الأمر: لعله الأوفر حظا بين أولادي. ومرّت السنوات، وصار يتجاوز الأربعين ولم يذكره الله ببلاء»، بكت بحرقة كأنّه مات للتو.
وجّه السيد كلامه لـوسّام مجاز الذي يكوي آلامهم بالنار، فقال: «لم يصل أحدٌ في مجاز عمر الأربعين دون وسْمٍ في جزء من أجزاء بدنه، لم يصل أحد لهذا العمر دون ألم أو وجع، ولكن حويضر لم يأتِ يوما إليّ» وقال قالع الضروس: «إنّ الصغار والكبار قد مروا عليّ، بينما صفَّا أسنان حويضر احتفظا بسلامتهما ولم يمسهما سوء قط».
صاحت غفيلة مُجددا: «منذ تزوجته، قاسيتُ مع أولادي آلاما لا نهائية، وكان هو ينام قرير العين، لا وجع ولا تأوه» وعادت لتؤكد: «أحبه يا سيدي، ولكن أخاف عليه أن يكون منْسيا.. يا الله.. منْسيا»، وظلت تلطم خديها حتى اسودا، وتضرب على فخذيها حتى تقرّحا.
سُمع صوت القابلة التي ولّدت كل نساء مجاز، ولكن لم يتمكن كُثر من رؤيتها نظرا لأنّها تجلس في الصف الأخير، وأيضا لفرط ضآلتها. قالت القابلة بصوتها المبحوح: «أمّ حويضر صرختْ لحظة الولادة، لكن لم تكن تلك صرخات الطلق والوجع وإنّما المباغتة! لقد هبط حويضر في سروالها قبل أن أمسها، وما كان من حبل سرته سوى أن انقطع والتأم دون أن تمسه يداي، وبعد ثلاثة أيام نشف دون تقرحات، ولم يترك اسودادا يذكر! لقد رأيتُ ما رأيت يا سيدي، وكابرتُ ونفيتُ بيني وبين نفسي أن تكون تلك علامة».
وقال رجل الدين: «إنّ حويضر لا يأتي ليُصلي ولا يرفع يديه بالدعاء، ولا يذهب معنا لصلوات الماء أسفل جبل الغائب. ذهبتُ إليه مرارا، كان يحبسُ نفسه في بيته ولا نعلم ما شغله الشاغل في البيت، كأن لا حاجة به للدعاء». لام رجل الدين نفسه لوما شديدا وبكى بقهرٍ لأنّ التوأم اللذين أنجبتهما زوجته ماتا من تيبس حليب أمّهما الجائعة السنة الماضية. شرع أهل مجاز في تهدئته. رفع رجل الدين سبابته لوجه حويضر البارد والفارغ من أي معنى: «سنتان من الجفاف والموت، ولم يمتلك أحدنا الشجاعة ليقول إنّك لعنتنا أيها المنْسي». قال المعلم: «ما قابلني قطٌ دماغ أنظف من هذا الدماغ! ينهلُ العلم كما يشرب الماء، بديهة حاضرة وإجابة بليغة! الحقيقة شككتُ أكثر من مرّة أن تكون تلك علامة، إلا أنّي تجاوزت الأمر».
صارع المعلمُ حويضر في أكثر من رأي، فكانت الغلبة لحويضر، لقوة رأيه وصلابة منطقه، فرفض أن يُعين حويضر مُدرسا في مجاز كما جرت العادة، أن يُصبح التلامذة المتفوقون أساتذة بعد أن يفكوا طلاسم الخط، ولكنها كانت فرصة طيبة، فلم يتذمر حويضر البتة من بقائه بعيدا عن الناس وبعيدا عن فرص الاحتكاك بهم. كان يُوفر نفسه لشيء أرفع شأنا مما يظنون.
يُصاحب حويضر طيور الوادي وأحجاره إلى أن وجد يوما ما كتاب السحر الذي دفنه ألماس وسيد الحصن منذ عشرات السنين في قعر الوادي، مُتناسيين قدرة تيارات الماء الرقيقة على دفع كتاب السحر للحياة مُجددا. ظلتْ المياه تحفر وتحفر إلى أن كشفتْ شيئا من جوهر الحقيقة، لتجعل تلك الكلمات مُتاحة لحويضر، وهو يتحول لسمكة قوية في أشد الأودية صعوبة، فيغوص إلى قيعانها العميقة حابسا كمية هائلة من الهواء في رئتيه، دافعا بيديه إلى الوراء بينما رأسه يُغامر في مساحات لم تصلها أجساد بشرية من قبل. هناك حيث يجد اطمئنانه الآسر.
ذات مرّة وبينما كان حويضر يغوص في الوادي تراءى له شيءٌ ما. ذلك اللمعان الذي لا يمكن للقلوب إلا أن تخفق لأجله. لقد حفرتْ المياه العذبة أسفل الجبل فأحدثت شقا عميقا فيه، وعندما ولج حويضر في الشق، لم يتمكن من أن يُبصر شيئا، لقد غمر نفسه تحت الجبل تماما، حيث لا تصل أشعة الشمس النهارية، وكأن شيئا جنونيا يجذبه لمتابعة الأمر. بات بعيدا جدا، بعيدا أكثر مما ينبغي، ومخزون الهواء يوشك على النفاد من رئتيه، لكنه لم يتخلَ عن تلك اللحظة الجنونية وتلك الدعوة التي تُقدمها الأعماقُ بسخاءٍ أمومي. أخذه الفضول ليكتشف، إذ لم تستطع عيناه أن تقاوم ذلك اللمعان في قلب الظلمة، وما إن أطبق يديه على ذلك الشيء المجهول، حتى انتابه دوارٌ شرس، فتسربتْ آخر جزيئات الهواء التي احتفظ بها في رئتيه، مُحدثة فقاقيع لا نهائية، فقد طاقته، وشعر بإغماءة طفيفة. إلا أنّ قوة عجائبية انتشلته من الظلمات إلى النور. استيقظ بعد برهة من الزمن لم يستطع أن يُقدرها على وجه الدقة، استيقظ تحت تأثير نوبة سعالٍ قوية أخرج معها كمية كبيرة من المياه التي تسد مجرى تنفسه، فوجد بين يديه كتابا، لم تتمكن المياه العابرة من محو أحباره أو تفتيت جلده الثخين الأسود.
تلفت حويضر يمينا وشمالا كأنّه يُقدم على عمل مشين، فقوانين الحصن تحرمُ الكتب بكل أنواعها وعلى رأس القائمة كتب السحر. لكنها هدية الأعماق ولا يمكنه التخلي عنها بهذه السهولة. وضع الكتاب في عباءته، وكان كل ليلة ينتظر نوم زوجته وأبنائه، ليُعدّ قدحا من تمره المُسكر، ثم ينهل علوم كتابه في الخفاء تحت ضوء سراجه المُعلق، حتى أسرته الكلمات واقشعر بدنه لأجلها وأحبها.
صاح المعلم وكأن الغيظ القديم في قلبه يستيقظ: «بحوزتك كتب ممنوعة، وقد قتلت الزرع لعامين متتاليين وجعلت الحبوب بلا قيمة في تربة مريضة!».
قال الفلاحون الأربعة عشر الأشهر في مجاز: «عمل حويضر في الحقول معنا، ما إن تمس يداه شجرة حتى تينع، وكانت غلته آخر العام بجودة تفوق غلتنا. يداه لا تكلان، وقلبه لا يتعب»، وخرج من بين الجمع ولدٌ أشعث، شعره العسلي يتطاير فوق وجهه، ووجنتاه مائلتان للسواد من حروق الشمس. قال بصوت لاهث: «صنع حويضر من تمره ما أذهب عقول الناس، لقد شهدتُ عليه، وسهرتُ معه ليلة حتى أذهب عقلي». قال سجّان مجاز وجلادها: «لا حق لنا بسجن حويضر أو تعذيبه أو قتله أو تقطيع أطرافه. عليه أن يُقرّ بملء إرادته أنّه آثم كما جرت العادة. هم لم يختاروا أن يكونوا منْسيين، ولكنه قدرهم ولعنتهم، ولذا نترك جبل الغائب يتكفل بمصيرهم».
هيمن الصمتُ الطويل، فسمعوا صوت ديَكتهم الجائعة تصيح مُعلنة قدوم الصباح، سمعوا صوت مواشيهم تعلن جوعها الحاد ونقيق الضفادع يملأُ الوادي المُوشك على الاضمحلال. ترك الناس صحن الحصن مرتبكين من ظهور الشمس قبل أن يأخذوا قسطا من الراحة، بينما بقي وجه حويضر بينهم لا ينم عن شيء مُحدد.
نظر سيد الحصن لمستشاره ألْماس، قائلا: «لا حل سوى أن يُنفى لجبل المنسيين. جبل الغائب، فإن الذين لا يذكرهم الله يجلبون اللعنة على القرى كما تعلم. ولكن، وكما قال السجّان، لا يجوز بأي حال إرسال أحدهم ما لم يشعر في قرارة نفسه بأنّه مذنب».
لم يشعر حويضر بالذنب. كان مُتفاجئا في البداية ثم فكّر بينه وبين نفسه: «مجاز لا يحدثُ فيها شيء فارق، لا شيء غير وديان جارفة، خصب يُزهر أو محل قاتل وموت»، لقد تعلّم كل شيء ها هنا وعمره الآن يربو على الأربعين، يريد أن يخرج من مجاز المسورة بالخوف والريبة والأحزان. الكتب هنا قليلة في جُلّها. لقد حرّم ألْماس أن تكون ضمن صكوك المقايضة، إلا أنّ البعض كانوا يمررون الكتب في خِراج حميرهم وجِمالهم التي يتأكدون أنّها لن تفتش بعين دقيقة لقاء قدح من خمْرة حويضر التي لا تشبهها خمرة، ولذا صارت لديه كتب من شتى العالم بعضها لم يتمكن من فك طلاسمها ورموزها، ولكن مجرد تصفح أوراقها البنية، يجعله ينظر للدنيا من زاوية أخرى. تعلم بواسطة دروس السحر القليلة أن يجعل مكتبته العظيمة مخفية، لا تنظرُ لها عين شريرة. إلا أنّ زوجته نظرتْ لكتبه بعين المحبّ. عين المحبّ التي لا تخفى عليها خافية، فكشفتْ سرّه، ومن ثمّ أذاعته لمجاز كلها. قال حويضر بينه وبين نفسه: «من يدري ما قد تخبئ لي الحياة فوق جبل الغائب.. ربما ثمّة ما يُناقض ظلمة الأعماق!» في الليلة السابقة لنفيه، ذهب حويضر إلى ألْماس سائلا مُستفهما كونه كبيرَ مجاز، عن الذين ذهبوا إلى جبل الغائب قبله. فقال إنّه يتذكر بعضهم. كانت العلامة تظهر مرّة كلَّ عدّة عقود من الزمان، وكانت العلامات مختلفة ومتباينة، لكنها تحمل دلالة واحدة فقط.. أنّهم منْسيون، «زوجتك وأمّك تحبانك وترغبان كما يبدو أن تتطهر، وقد تُعيدك الأقدار يوما ما إلى مجاز، من يدري ربما تعود على هيئة قصّة تروى». شعر حويضر ببعض من السرور لمجرد تخيله أنّه سيعود يوما ما على هيئة قصّة تروى بين الناس، وكان ذلك مُنتهى أمانيه. ثمّ تساءل: «هل عاد أحد من جبل الغائب من قبل؟ هزّ ألماس رأسه بالنفي: «لم يحدث هذا طوال حياتي، لم يعد أحد. إنّها متاهة كبرى وحياة أخرى!». سأل حويضر مجددا: «وما عساه يكون زادي؟» فأجاب ألماس: «خذ معك زادك الذي تظن أنّك لا تعيش دونه يا حويضر، وقد تلتقي بالمنْسيين هناك. يقال إنّ أحدا منهم لم يمت بعد».
حاول حويضر أن يبكي أو يُظهر مشاعره، أن يمتلك عاطفة ما تجاه ما يدور، لكنه ظل جامدا يفكر بزاده. ينظر بزاوية عينه إلى الناس ولا يتحدث عمّا يجيش بنفسه. ذكر ألْماس أنّ الذاهبين إلى جبل الغائب يفقدون الرغبات الثلاث، الجوع والعطش والشهوة. فكر حويضر بعمق في الشيء الذي يمكن أن يصطحبه معه، ووجد أنّ الشيء الذي تمكن من فعله بمحبة خالصة هو القراءة، لكنه لم يشبع كبقية أقرانه منها، كان جائعا ويريد أن يعرف أكثر. قال لهم: «سأحمل أوراقي ومحبرتي ومكتبتي المخفية».
لم يتدخل أحدٌ من أهل مجاز فيما اختار، ولكنهم فكروا بالتأكيد، لو كانوا مكانه لحملوا شيئا آخر تماما.
ركب الحمار الذي جُهز لأجله، وكان على ثلاثة من رجال مجاز الأشداء أن يرافقوه إلى أن يغيب خلف الخط الأول للغياب، كما تعارفوا على تسميته. خرج حويضر بعد أن جهز أوراقه ومحابره وكتبه، وأودعها في خُرْجِ الحمار. لم يودع أبناءه الخمسة الغاصين بالبكاء، ولا أمّه ولا زوجته اللتين أهالتا التراب على رأسيهما حزنا وكمدا. ولم يصوب نظره تجاه الناس المُحدقة فيه. تشاغل بتذكر زوادته وحسب.
كان لدى حويضر رغبة واحدة فقط، كان يرغب بجمع كل الألم الذي مرّ على الحياة منذ بدء الخليقة وحتى تلك اللحظة التائهة من الزمن، كان يأمل أن يحقن نفسه بكل الآلام اللامتناهية التي عبرت الكون، وكأنّما يشعر أن ذلك سيطهره حقا من كل آثامه.
في ذلك الصباح تنفسوا الصعداء، إذ إنّ الغُمّة أوشكت على الانكشاف. أخذت نُتفُ السحاب تلمُّ شملها في ذلك الصيف الذي يُنضجُ أكواز الذرة في أمهاتها، وسُمع حفيف الأشجار تُحركها نسمات باردة من الهواء، الأمر الذي لم يحدث منذ وقت طويل.
وما إن عاد الرجال الثلاثة الأشداء وأكد ثلاثتهم على غياب حويضر في ظلمة خط الغياب، حتى اجتمع أهالي مجاز في صحن الحصن وأعدت مأدبة كبيرة وهنأ الجميع الأمّ والزوجة -اللتين لم تنشف دموعهما- على شجاعتهما وحرصهما على سلامة مجاز.
استجابت السماء في نفس الليلة وأمطرت مجاز كما لم تمطر من قبل. تدفقتْ الوديان في الشِراج العطشى، وامتلأ اللِجل، وسالت الأفلاج بطيش قافزة فوق حواجزها. في تلك الليلة تأكد أهالي مجاز أنّ حويضر كان يسد مجرى هذا الخير.
لم يكن حويضر يعرف بكل الأشياء التي تبدلت في مجاز في غيابه، لكن من عساه يهتم!
تجمع أهالي مجاز في المساء كعادتهم، وتساءلوا عن الذين ذهبوا من قبل إلى جبل الغائب، ولا أحد غير ألْماس -كما يدعي- يتذكرهم بوضوح ويكرّ حكاياتهم، فأخبرهم أنّه شهد عددا منهم، ولا يعرف الكثير ممن سبقوهم. قصّة كل واحد منهم تختلف عن الآخر، كانوا مصدر بلاء لمجاز، وكانوا يحجبون المطر والخير، وعقب أن تناول قدحا من خمر حويضر الذي نُقل للحصن: «الآن بالتأكيد حويضر سيكون قد التقى بأحدهم أو باثنين منهم على الأقل وتبادل معهم الأحاديث، هنالك حيث لا جوع ولا عطش ولا شهوة».
سأل الولد الأصغر من أبناء حويضر بعينين باكيتين: «هل يستطيع أي أحد، أي أحد أن يذهب؟» اغتاظ ألّماس من السؤال: «أووه لا.. لا يستطيع أن يذهب أي أحد إلى جبل الغائب»، ثمّ اقترب بوجهه من الصغير وصوّب تلك النظرة اللائمة والمُحذرة: «فقط أولئك المنْسيين من رحمة الله، أمّا أنت أيّها الولد الصغير فلا تشبه أباك في شيء». وانفجر الأبناء الخمسة في بكاء شديد. قال ألْماس غير مهتم بنشيج الصغار المتعالي: «جبل الغائب لا يستقبل إلا من له علامة، يُجمع الجميع على صحتها. كان والدكم رجلا طيبا رقيق القلب ولكنه منْسي أيضا».
سألت أمّ حويضر بحسرة: «ألم يعرف أحدهم طريق العودة؟» ثمّ ترددت قائلة: «فقط نأمل بالقليل من المواساة!»
تنفس ألْماس بعمق وأغمض عينيه عقب جرعة أخرى من قدح التمر، فأدرك كل أهالي مجاز أنّه سيقول شيئا فريدا لم يقله من قبل: «عندما كنتُ شابا صغيرا، عائدا من سواحل بعيدة مُحمِلا خُرْجَ حماري بأسماكٍ طازجة، كنتُ قد بادلتها بعذوقٍ من النخل، مررتُ على حواف جبل الغائب فسمعتُ صوت امرأة منفية، تصرخ وتصرخ من عذاباتٍ لا نعيها نحن هنا، ميزتُ صوتها بدقة، كانت قد أُرسلت قبل ثلاثة أعوام إلى جبل الغائب. أشفقتُ عليها، فرفعتُ رأسي لأنظر إليها، فأصابتني الشمس الحارقة بالعمى المؤقت، ولم أبصر أكثر من ظلها الطويل مُنسابا فوق الوادي أسفلنا، ثم سقطتْ صخرةٌ كبيرةٌ من أعلى الجبل. ركضتُ وركضتُ لأنجو منها لكن حماري المسكين لم ينجُ، قتلته الصخرة، وتفرقت الأسماك الطازجة على الأرض، ولم أقدر من روع اللحظة على لمها. ظللتُ أنظر في عيون الأسماك وهي تنظر لي. بدتْ لمعة الشمس في عينيها وكأنها تبثُ فيها حياة جديدة فوق لهيب الأرض الحارق، خُيل لي أنّ الأسماك تنبض بالحياة وتتحرك فوق سخونة الأرض الحارقة. ركضتُ عائدا إلى القرية».
انحنى ألْماس مُقربا سبابته من وجوه الأولاد مجددا: «أيها الأولاد لا تفكروا بصعود الجبل ولا بالمرور قرب حوافه ولا بالخروج من مجاز. الخطر يُحدق بالمكان من كل صوب. الأمان الوحيد هنا». ثمّ ارتفعت نبرة صوته: «لا تخبئوا العلامات، تحدثوا عنها ما إن تجدوها. العلامات.. إنّها خيط نجاتنا، تُخلص الأرض من الشر فيعود الماء والخصوبة».
كانت أعين الجميع ورؤوسهم تومئ بالموافقة والتصديق، بينما عينا الولد الصغير الذي تركه حويضر خلفه تشيان بمرارة عميقة.
هدى حمد صحفية وروائية عمانية
فصل من رواية قيد النشر