أعمدة

صناعة المبدعين

خلافا على تفاني الكاتب لإثبات وجهة نظره، ولا سيما لو كانت تلك الرؤية بضخامة عنوان كتاب، فإني لا أجد بدا من نفي ما يراه البعض حول صناعة المبدعين لأعود مجددا برؤية فارقة، وكجرعة إيجابية معززة ومنقحة لأقول بعدها بكل ثبات «المبدعون لا يصنعون».

فلا يمكن بأي حال من الأحوال صناعة شخص ذي كينونة مستقلة وإرادة كاملة، وخاصة إن كان ذلك الفرد يتسم بسمات إبداعية وموهبة فطرية، ويحمل في داخله صفات تميزه عن أقرانه، أو أنها تزداد نسبتها عن الآخرين ليكون فضوليا، وأصيلا في أفكاره وأدائه غير منقاد يسير بثقة واستقلالية، ويوجه مساراته بمرونة وروح قيادية قادرة على تذليل الصعاب والمشكلات عبر حساسية مفرطة تجاه النواقص والتغيرات، ليكون قادرا على التقويم والحيرة، وبلا أي خوف من المخاطرة ليحدث أثرا وفرقا في مجاله، حيث تكون الحرية الفكرية والاستقلالية قد تعاظمت في ذاته في مراحل عمره المختلفة، فكيف لنا أن نصنعه ونحد من حريته التي هي المحرك الأساسي لموهبته، فتلك الإلهامات بحاجة إلى تفكير حر استقلالي غير مقيد يتردد على ذهن المبدع بشغف، حيث إن الوفرة والراحة والبداهة والتخيل والأصالة هي من قوانين الإبداع الضرورية، والتي لن تتوفر وقد كبلت حريته ليعيش كما أنت مخطط له، وكما يقول ألبرت آينشتاين: «إن التخيل أهم من المعرفة»، ولا بد لتلك الخيالات أن تكون حرة من الأساس، تنتج من الفص الأيمن من المخ، وتعمل على تنشيط العقل على الدوام، ليكون الإبداع وكما قاله فرانسيس: «هو القدرة على إيجاد ما تتخيله».

في مقالي لن أتجاهل دور المربي الكبير كونه الملهم والموجه وصاحب البذرة الأولى، بل هو كجرعة معززة توضح دوره الحقيقي وداعمة له، فنحن في حقيقة الأمر، وبعد التأمل العميق فقط نهيئ لهم إحاطة تامة بكل ما يدعم طريقهم نحو الإبداع، فنكون بجوارهم أو حتى نورا يضيء لهم مسيرهم، ومحاولة تدريبهم على استخدام مهارات التفكير العليا، ليكون منهجا سيعرف طريقه نحو الإبداع، ليكون جل تركيز المربي على التنمية الذاتية للمبدعين لينطلق بها شاقا طريقه، ومساعدته على توجيه كم الأفكار الهائل، والذي يتراوح نحو 4000 فكرة يوميا، ليشقوا طريقهم بكل ثبات، ولتهمس له بأن كنوز الأفكار الإبداعية ليست في متناول الأيدي، ولتطمئن كل الاطمئنان أن دعمك سيؤتي ثمره، فكما يقول الشاعر الإنجليزي جون ميلتون: «من يقفون وينتظرون فحسب، يقدمون أيضا خدمات».

بدءًا من كون الإبداع إيجاد وإضافة شيء جديد أصيل لم يسبق له مثيل، ومحاولة تحويل الأفكار الإبداعية والأفكار الإلهامية والخيال الجامح إلى واقع يدفع بعجلة التطور، وكما تقول تيريزا: «إن الإبداع هو القدرة على تشكيل الواقع بطريقة فريدة».

أيا كان مجال ذلك العمل الإبداع، فهو غير مقتصر على المجالات الفنية والعلمية، بل يتعدى الأمر ليشمل نواحي الحياة العامة، فتكون كالبحر المتجدد، ليحمل المبدع -أو كما يسميه البعض العبقري الذي يفوق ذكاؤه 135 درجة على مقياس الذكاء، أو النابغة أو المبتكر صاحب الخيال الواسع، والتي يتقارب مع مصطلح الإبداع مع اختلافات بسيطة جدا-، وعبر تفكير يتدرج ما بين الحر والموجه والناقد وصولًا إلى التفكير الإبداعي، ليحقق غايات الإبداع الأسمى.

لا بد أن يكون المربي محافظا على مسافة الأمان التي تتيح للمبدع أن يوجه دفة مساره مرة بعد مرة بكل حرية وانسيابية نابعة عن قرارته ورغبته الداخلية ليستمر الإبداع، ويكون قادرا على الحفاظ على مستواه الإبداعي بطريقة متجددة مواجها كل الصعوبات.

بقولي: «المبدعون لا يصنعون» فإني أفتح آفاقا جديدة للمبدع والمربي على السواء، لتكون العملية الإبداعية متفردة وحيوية وقادرة على إضافة الجديد في منظومتنا الحياتية، وخاصة بعدما اتضح أن الذكاء في نظرتنا التقليدية له لم يكن سوى فرع واحد من أنواع الذكاء الكثيرة جدا، والتي تتفاعل فيها الموروثات والجينات مع العوامل البشرية ليكون الذكاء اللغوي والموسيقي والجسدي والرياضي والعاطفي والذكاء الذاتي، ما هي إلا بعض من أنواع الذكاءات المتعددة.

فوزية الفهدية روائية وقاصة عمانية