أفكار وآراء

أن تكون نزيها، مقابل أن تعمل بنزاهة

نوف السعيدي
 
نوف السعيدي
لكل مهنة تقريبا - من المحاماة إلى الطب - مواثيقها الأخلاقية، التي يُيتوقع من أفراد هذه المهن الالتزام بها. أهمية وجود قواعد كهذه غنية عن الذكر. إلا أن لأخلاقيات البحث العلمي أهمية خاصة؛ لأن المؤسسة العلمية مسؤولة عن إنتاج المعرفة، هذه المعرفة التي تُتداول، وتُدّور في مجالات الحياة المختلفة. وكما يُقال، كلما عظمت السلطة، عظمت المسؤولية.

غزارة النشر العلمي، تعقيد الأبحاث العلمية، وتنوع طبيعتها، كلها مسائل جعلت توفير لوائح تنظيمية أكثر إلحاحا. وجود هذه اللوائح ووجود بروتوكولات تشغيلية تضمن تطبيقها، توفر على العالِم جهدا ووقتا قد يضيع في تبرير العمليات والنتائج وكيفية الحصول عليها. أو ابتكار ميثاقهم الأخلاقي الخاص، والتوقف مع كل مسألة ومُساءلة ما إذا كانت طريقتهم موثوقة وأخلاقية. إلا أن الثمرة الأهم لمثل هذه اللوائح تكمن في أنها تُمّكن العلماء حول العالم من العمل التعاوني. يختلف تعريف الفضائل والأخلاقيات من ثقافة لأخرى، لكن بقبول العمل وفق قواعد محددة تلتغي هذه العقبة تماما.

لا يمكننا الحديث عن الممارسات العلمية الأمينة دون الحديث عن الثقة. إن الدافع وراء الحاجة إلى التنظيمات هو جعل الممارسة العلمية أولا نزيهة وأخلاقية، وثانيا جديرة بالثقة. قد يكون لتهديد هذه الثقة عواقب خطيرة للغاية: خسارة ثقة المجتمع بالمؤسسة العلمية ونتاجها. لهذا لا يتحمل العلماء مسؤولية إجراء أبحاثهم بنزاهة فحسب، بل يتعين عليهم أيضًا التأكد من عدم وجود انتهاكات من قبل أي فرد من أفراد المجتمع العلمي. كما قد يكون لتهديد العمل النزيه عواقب أكثر خطورة، مثل إنتاج القنابل الذرية، أو المعاملة غير الإنسانية لعينات البحث كما حدث مرارا عبر تاريخ العلم.

وإذا، فلتمكين العلماء من العمل الجماعي على نطاق واسع، ولضمان ثقة المجتمع في المؤسسة العلمية باعتبارها منتجة للمعرفة، يجب على العلماء التأكد من أن المعرفة التي ينتجونها معتمدة، صالحة، وأنها جديرة بالثقة. يبدو أن هناك طريقتين لفعل لذلك، طريقتان ليستا بالضرورة متعارضين. تهتم الأولى بالعالِم نفسه، وتُلح على أهمية أن يكون نزيها، وتعتمد على بناء شخصية العالِم، وليس على مراقبة العملية البحثية. بينما تركز الثانية على أن يكون إنتاجه نزيها، ناقلة مركز الاهتمام من الأفراد، إلى نتاجهم.

مقاربتين للنزاهة العلمية: النهج القائم على المبادئ مقابل النهج القائم على الفضيلة

يتلخص النهج القائم على المبادئ في مد العالِم بقائمة من المبادئ التي يجب عليهم اتباعها. لكن ولأن العالِم قد يجد نفسه ملزما بالإرشادات المؤسسية، والمحلية، الإقليمية والعالمية، فقد يصبح هذا العمل مُجهدًا، وقد يجد العالم أن التعليمات طاغية (لتنوعها، وتنوع مصادرها)، غامضة (إذ لا ترشد العالم بالتفصيل لما يتوجب عليهم فعله)، ومُربكة (يصعب معرفة كيف يجب تطبيقها). ومن ثم، فامتلاك حدس أخلاقي يمكن أن يكون مفيدًا؛ لهذا يُجادل بعض فلاسفة العلم (مثل ديفيد رينسيك) من أجل مقاربة تكميلية للنزاهة العلمية تجمع بين المبادئ التوجيهية والفضائل.

ينص النهج القائم على المبادئ باختصار، على أن العلماء يجب أن يتبعوا مجموعة من القواعد والمبادئ التوجيهية لضمان السلوك الأخلاقي. هناك مجموعة من المبادئ 'العامة' ، يمكن للمرء أن يشتق منها قواعد أكثر تفصيلاً. مبادئ مثل الإخلاص، وعدم التسبب بالأذى، وإحلال المنفعة، وتحسين الذات، واحترام الأشخاص، والإنصاف.

يمكننا تلخيص الانتقادات الموجهة للنهج القائم على المبادئ في ما يلي: لا يوفر النهج القائم على المبادئ إرشادات كافية لتسوية النزاعات. لذلك سيتعين على العلماء اللجوء إلى 'حدسهم الأخلاقي' على أي حال. على الرغم من أن هناك مجموعة من الإجراءات لحل التضارب بين المبادئ إذا ما حدث ذلك - مثل: الحصول على معلومات إضافية، واستكشاف المزيد من الخيارات، وإعادة تفسير المبادئ، والمفاضلة بينها - إلا أن هذه الإجراءات لا تقلل من قيمة هذا النقد. يُستخدم هذا الانتقاد كحجة على تفوق المنهج القائم على الفضيلة، والذي يُعنى ببناء شخصية العالِم النزيهة. فإذا ما كان العالِم مضطرا للالتجاء إلى حدسه عند تضارب المبادئ الإرشادية، فلماذا لا يتم التركيز أساسًا على بناء أفضل شخصية بأفضل حدس.

فإذا ما اخترت - مثلا - المفاضلة بين المبادئ عندما تتعارض، فهل تضع دائمًا احترام الأشخاص قبل ضمان المنفعة، أم أنك تعطي الأولوية وفقًا للموقف المطروح؟ بمعنى هل هذه المبادئ هي أدوات هداية تُتبع دون نقاش، أم أدوات تبرير للقرارات التي تتخذها أخيرًا؟ هل تختار مثلا تشجيع مريض ما على الموافقة على العلاج مع العلم بمخاطره (اتباعا لمبدئ إحلال المنفعة)، أم تحترم إرادة المريض في عدم اتباع مسار معين من العلاج رغم اعتقادك أن هذا ليس القرار الأكثر فائدة (اتباعا لمبدئيّ احترام الأفراد وعدم الإضرار)؟ عليك أن تتبع حدسك لاتخاذ هذا الاختيار. هذا لا يعني أن المبادئ ليست مفيدة، بل يعني فقط أن النهج القائم على المبادئ لا يُقدم استجابة جيدة لهذا النوع من الانتقادات.

المنهج القائم على الفضيلة له منتقدوه هو الآخر. إذ - أولاً - لا ضمان لأن يحصل الباحثون المبتدئون على التوجيه الضروري لبناء شخصيات نزيهة، ولا ضمان لأن يشهدوا مثالا حيا على ذلك، ماذا إذا كان موجهوهم منقادون بالطموح، والقيم الشخصية، عوضا عن النزاهة العلمية؟ وجود مبادئ إرشادية في هذه الحال ضروري ليقفوا بأنفسهم على مواطن الانتهاك. ثانيًا، ترتبط الأخلاقيات بالموقف الشخصي، بثقافة المجتمع الذي يعيش فيه الفرد ومن يحتك بهم، لهذا يبدو أن وجود خطوط عامة للعمل - يحتكم إليه الباحث ويُحاكم على أساسه - أمر لا مناص منه.

وإذا يتفوق النهج القائم على المبادئ في تطوير السياسات وإنفاذها، بينما تكمن المساهمة الرئيسية للنهج القائم على الفضيلة في بناء شخصية العلماء، وبذلك يتبين العالِم السلوك السليم، حتى ولو لم تسعفه المبادئ التي يهتدي بها لمعرفة ذلك. في هذا السياق، يدعونا روبرت بينوك إلى إعادة التفكير في دور المبادئ الإرشادية هذه فيقول (وأنا أُترجم هنا) 'يجب أن نفكر في المعايير الثقافية ليس من منظور ما هو طبيعي، ولكن بالأحرى ما هو مثالي .. أي ما يجده أفراد الثقافة [الثقافة العلمية] أو المهنة أهلاً للاجتهاد لتحقيقه'.

ربما ينبغي علينا إذن التفكير في المبادئ من منظور ما هو طبيعي والفضائل باعتبارها مثاليات. أو باعتبار المبادئ الحد الأدنى من الأخلاقيات التي يُتوقع من العلماء الالتزام بها، ومساءلتهم إذا ما تجاوزوها، فيما المُثُل العليا وإن كان تحقيقها مستحيلا، وجب السعي بكل قوة نحوها.

• نوف السعيدي كاتبة وباحثة عمانية في مجال فلسفة العلوم