العقد السياسي المتجدد بين السلطان والشعب
الأربعاء / 8 / جمادى الآخرة / 1443 هـ - 21:40 - الأربعاء 12 يناير 2022 21:40
لا يمكن توصيف لقاءات حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، حفظه الله ورعاه، مع شيوخ ولايات محافظات السلطنة بدءا بأول لقاء بشيوخ ولايات ظفار في سبتمبر 2020، وانتهاء بلقاء شيوخ محافظة شمال الشرقية بحصن الشموخ بولاية منح يوم الاثنين الماضي سوى أنها تندرج ضمن تجديد العقد السياسي بين السلطان والشعب في العهد المتجدد، وقد تزامن ذلك، عشية ذكرى تولي حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم الحكم في البلاد أمس الأول، وهذا التزامن له حساباته السياسية، أنظر إليها من واقع الثابت والمتغير، وانعكاساته على العقد السياسي المتجدد، إذ لا يمكن لأي مراقب أو متابع لشأننا الداخلي، إلا أن يتوقف عند رسائل هذا التزامن.
ومن الواضح أن الأساس البنائي للعقد السياسي المتجدد بين السلطان والشعب، سيكون متطورا ـ لا نقول متغيرا ـ عن نظيره إبان عهد المؤسس الراحل، لاختلاف المحتوى بين العهدين السياسيين 'شكلا وجوهرا' وكذلك ماهية التحديات، وطبيعة التحولات في دور الدولة، وهنا تطرح التساؤلات التالية:
ما هي أهم ملامح هذا العقد؟ وماذا يميزه عن العقد السياسي السابق؟ من الأهمية الوطنية التوقف عند التحول الفارق بين العقدين السياسيين لإغناء هذه المرحلة التأسيسية بالأفكار التي تقرب الفهم لطبيعة المرحلة الراهنة التي تؤسس مرحلتنا الوطنية المستدامة، لأن التفاعل الاجتماعي، وفاعلية الفاعلين الإقليميين والمحليين، سيكونان من بين أهم الشروط الموضوعية لنجاح الأساس البنائي الذي يقوم عليها العقد السياسي المتجدد.
ولدواعي التحليل المنهجي سنسلم بوجود عقدين سياسيين هما: عقد المؤسس ـ طيب الله ثراه ـ وعقد المجدد حفظه الله ورعاه، رغم أن العقد في الأصل واحد، لكنه يتجدد الآن في إطار متغيرات سياسية، ومعطى ظرفي ذي طابع اقتصادي ومالي ملحّ، وضغوطات اجتماعية مرتفعة، ومنها يستمد العقد السياسي المتجدد مضامينه ومساراته، مراعاة لمعطيات الزمان والمكان الحديثين، وهنا سنعرج على أوجه الاختلاف التي بني عليهما العقدان السياسيان.
أولا: طبيعة العقد السياسي للمؤسس الراحل
جرى تأسيس هذا العقد على مفهوم محدد واضح لدور الدولة العمانية الحديثة، وهو الدور الرعائي للدولة التي تجعل الحكومة تخطط وتنفذ وتمول، وتستفرد بالتسيير والتدبير، وبقية الشركاء 'المجتمع والقطاع الخاص' متلقين للمبادرات، وهذه المرحلة لها ظروفها الثقافية والسياسية التي جعلت من الحكومة القيام بهذه الرعاية الأبوية للمجتمع على وجه الخصوص.
كان في بدايات التأسيس يقتضي ذلك، لكن مع تطور الوعي المجتمعي، وتحقيق إنجازات شاملة في الصحة والتعليم والبنية التحتية، وتوفير أساسيات الحياة الجديدة، كانت السياسة الاجتماعية والاقتصادية تستوجب التخفيف التدريجي من هذه الرعاية، والسماح بالقطاع المدني أن يشاركها المسؤولية، وبالذات منذ عام 1996 عندما وضعت رؤية استراتيجية طويلة الأجل - 1996 – 2020، وكانت بذلك السبّاقة إقليميا في تبني مقاربة التخطيط لمواجهة متطلبات وتحديات التنمية، لكنها لم تتمكن من تحقيق أهدافها الاستراتيجية خاصة في مجال تنويع الاقتصاد العماني، وتطوير المجتمع.
وكانت المقولة التاريخية لأول خطاب يلقيه المؤسس رحمه الله 'سأعمل بأسرع ما يمكن لجعلكم تعيشون سعداء لمستقبل أفضل' الطرف الأول المؤسس لهذا العقد، بينما كان الولاء والانتماء الطرف الثاني للعقد، وقد التزم به الشعب بصورة مقدسة، ولا يزال قائما حتى بعد رحيله، وقد كان النفط مصدر تمويل التزامات المؤسس، والمركزية أداة تنفيذها.
استمر الاعتماد على النفط بين المطلق وشبه المطلق طوال حقبة العقد السياسي الأول، رغم اندلاع وتجدد الأزمات النفطية، وظل الاعتماد كذلك على المركزية بين شكلها الجامد وشبه الجامد، وبالنفط والمركزية ترسخت الرعائية كثقافة مجتمعية وسياسية، وبمفاهيم مؤطرة لرابطة العقد السياسي بين السلطان وشعبه، لا تزال حتى الآن في الذهنيات، وتستدعى عند المقارنات.
ثانيا: طبيعة العقد السياسي للسلطان المجدد.
كانت هناك مجموعة تحديات تدخل في تصنيفات الوجودية من الوزن الثقيل، تجعل من الحتميات إحداث تحولات بنيوية في السياسات والاستراتيجيات الظرفية والمستقبلية للدولة العمانية في عهدها المتجدد، كالأزمة النفطية، والمديونية المرتفعة، وجائحة كورونا، وقد جاءت مؤلمة اجتماعيا، ومست الجوهر البنائي للعقد السياسي للمؤسس الراحل، لعل أبرزها الآتي:
- الضرائب/ والرسوم أصبحت مصدرا للدخل عوضا عن الأحادية النفطية شبه المطلقة.
- انكشاف ضعف المواجهة المالية للمجتمع لمرحلة الضرائب والرسوم ورفع الدعم الاجتماعي التقليدي.
- انكشاف واقع القطاع الخاص المحلي بعد مرحلة الاتكالية المطلقة على الحكومة.
- بروز حالات فوق السطح من رحم لآلام اجتماعية متضررة من تداعيات السياسة المالية الجديدة.
- انفتاح السوق العماني فجأة بعد ما كان مغلقا طوال خمسين عاما، وانفتاحه كان ينظر إليه من الخطوط الحمر.
- عدم وضوح الثابت والمتغير نتيجة تلكم الاكراهات، وبروز ملامح للوضوح بعد خطاب عاهل البلاد في الذكرى الثانية لتوليه الحكم، وبالذات في مجال الهوية العماني – سيكون لي معها مقال لوضع النقاط فوق حروف تائهة في ظل التحولات الفكرية داخليا وخارجيا.
- بروز الإقليمية والجهويات كتحدٍ تنموي متعاظم لم تعد تصلح معه المركزية في التدبير والتسيير الإداري والمالي، والتخطيط التنموي والاقتصادي.
ماذا يعني كل ذلك؟
يعني أن النفط لم يعد المصدر المطمئن إليه ولو مؤقتا، وأن المركزية لم تعد صالحة للتنمية، ولا للجغرافيا العمانية، وأن الخيار الأنسب للعهد المتجدد هو التوجه نحو اقتصاديات المحافظات واللامركزية، فالرؤية النفاذة الآن تتجه نحو الاعتداد بالجماعات المحلية داخل الجغرافيا العمانية المعقدة جدا، وهذه النتائج نجدها الآن واضحة في أحاديث جلالته مع شيوخ ولايات محافظات البلاد، معززة توجهات الرؤية 2040 خاصة في مجالي عدم الاعتماد على النفط والمركزية، وقد أشرت إليها في مقالي السابق.
وهنا يتجلى الأسس البنائية للعقد السياسي المتجدد.. أبرزها:
- اللامركزية وتعظيم دور المجالس البلدية، مما قد نشهد أهمية متزايدة للديمقراطية المحلية/ الإقليمية التي تمثلها هنا المجالس البلدية، أكبر من الديمقراطية الوطنية التي تتجسد في مجلس الشورى، وقانون مجلس عمان الجديد أكبر الاستدلالات التي تستند عليها رؤيتي.
- لكل محافظة اقتصادها المرتبط بالاقتصاد الوطني، والفقرة التالية التي وردت في لقاء جلالته في آخر لقاءاته مع الشيوخ واضحة في هذا الاتجاه 'التخطيط المستقبلي للمحافظات سيتم عن طريق المحافظين والمجالس البلدية، والفقرتان الأخيرتان تعززان ما ورد في أولويات تنمية المحافظات، وبالذات الفقرة التالية، وهي أولوية 'مجتمعات ممكنة تسهم في صناعة أولوياتها الاجتماعية والاقتصادية والبيئية.. ضمن إطار اللامركزية الإدارية والاقتصادية.
ونختتم بالقول: إن التنظيرات السياسية الجديدة التي تؤطرها الرؤى الاستراتيجية.. يتوقف نجاحها في العقد السياسي المتجدد على الانتقال السريع من الحلول 'الاضطرارية' إلى الحلول الدائمة، فالضرائب والرسوم لن تشكل القاعدة الآمنة والمستدامة لهذا العقد، لذلك لابد من الانتقال السريع إلى اللامركزية واقتصاديات المحافظات التي ستصنع الثروة الجديدة، وفرص العمل، واحتواء الديموغرافيات الإقليمية، وكسب رضاها، وقد يكون مقالا حول شروط نجاح اللامركزية الإدارية والاقتصادية في بلادنا في ضوء خصوصياتها الاجتماعية ودواعيها السياسية.
• د. عبدالله باحجاج كاتب عماني مهتم بالشأن الخليجي
ومن الواضح أن الأساس البنائي للعقد السياسي المتجدد بين السلطان والشعب، سيكون متطورا ـ لا نقول متغيرا ـ عن نظيره إبان عهد المؤسس الراحل، لاختلاف المحتوى بين العهدين السياسيين 'شكلا وجوهرا' وكذلك ماهية التحديات، وطبيعة التحولات في دور الدولة، وهنا تطرح التساؤلات التالية:
ما هي أهم ملامح هذا العقد؟ وماذا يميزه عن العقد السياسي السابق؟ من الأهمية الوطنية التوقف عند التحول الفارق بين العقدين السياسيين لإغناء هذه المرحلة التأسيسية بالأفكار التي تقرب الفهم لطبيعة المرحلة الراهنة التي تؤسس مرحلتنا الوطنية المستدامة، لأن التفاعل الاجتماعي، وفاعلية الفاعلين الإقليميين والمحليين، سيكونان من بين أهم الشروط الموضوعية لنجاح الأساس البنائي الذي يقوم عليها العقد السياسي المتجدد.
ولدواعي التحليل المنهجي سنسلم بوجود عقدين سياسيين هما: عقد المؤسس ـ طيب الله ثراه ـ وعقد المجدد حفظه الله ورعاه، رغم أن العقد في الأصل واحد، لكنه يتجدد الآن في إطار متغيرات سياسية، ومعطى ظرفي ذي طابع اقتصادي ومالي ملحّ، وضغوطات اجتماعية مرتفعة، ومنها يستمد العقد السياسي المتجدد مضامينه ومساراته، مراعاة لمعطيات الزمان والمكان الحديثين، وهنا سنعرج على أوجه الاختلاف التي بني عليهما العقدان السياسيان.
أولا: طبيعة العقد السياسي للمؤسس الراحل
جرى تأسيس هذا العقد على مفهوم محدد واضح لدور الدولة العمانية الحديثة، وهو الدور الرعائي للدولة التي تجعل الحكومة تخطط وتنفذ وتمول، وتستفرد بالتسيير والتدبير، وبقية الشركاء 'المجتمع والقطاع الخاص' متلقين للمبادرات، وهذه المرحلة لها ظروفها الثقافية والسياسية التي جعلت من الحكومة القيام بهذه الرعاية الأبوية للمجتمع على وجه الخصوص.
كان في بدايات التأسيس يقتضي ذلك، لكن مع تطور الوعي المجتمعي، وتحقيق إنجازات شاملة في الصحة والتعليم والبنية التحتية، وتوفير أساسيات الحياة الجديدة، كانت السياسة الاجتماعية والاقتصادية تستوجب التخفيف التدريجي من هذه الرعاية، والسماح بالقطاع المدني أن يشاركها المسؤولية، وبالذات منذ عام 1996 عندما وضعت رؤية استراتيجية طويلة الأجل - 1996 – 2020، وكانت بذلك السبّاقة إقليميا في تبني مقاربة التخطيط لمواجهة متطلبات وتحديات التنمية، لكنها لم تتمكن من تحقيق أهدافها الاستراتيجية خاصة في مجال تنويع الاقتصاد العماني، وتطوير المجتمع.
وكانت المقولة التاريخية لأول خطاب يلقيه المؤسس رحمه الله 'سأعمل بأسرع ما يمكن لجعلكم تعيشون سعداء لمستقبل أفضل' الطرف الأول المؤسس لهذا العقد، بينما كان الولاء والانتماء الطرف الثاني للعقد، وقد التزم به الشعب بصورة مقدسة، ولا يزال قائما حتى بعد رحيله، وقد كان النفط مصدر تمويل التزامات المؤسس، والمركزية أداة تنفيذها.
استمر الاعتماد على النفط بين المطلق وشبه المطلق طوال حقبة العقد السياسي الأول، رغم اندلاع وتجدد الأزمات النفطية، وظل الاعتماد كذلك على المركزية بين شكلها الجامد وشبه الجامد، وبالنفط والمركزية ترسخت الرعائية كثقافة مجتمعية وسياسية، وبمفاهيم مؤطرة لرابطة العقد السياسي بين السلطان وشعبه، لا تزال حتى الآن في الذهنيات، وتستدعى عند المقارنات.
ثانيا: طبيعة العقد السياسي للسلطان المجدد.
كانت هناك مجموعة تحديات تدخل في تصنيفات الوجودية من الوزن الثقيل، تجعل من الحتميات إحداث تحولات بنيوية في السياسات والاستراتيجيات الظرفية والمستقبلية للدولة العمانية في عهدها المتجدد، كالأزمة النفطية، والمديونية المرتفعة، وجائحة كورونا، وقد جاءت مؤلمة اجتماعيا، ومست الجوهر البنائي للعقد السياسي للمؤسس الراحل، لعل أبرزها الآتي:
- الضرائب/ والرسوم أصبحت مصدرا للدخل عوضا عن الأحادية النفطية شبه المطلقة.
- انكشاف ضعف المواجهة المالية للمجتمع لمرحلة الضرائب والرسوم ورفع الدعم الاجتماعي التقليدي.
- انكشاف واقع القطاع الخاص المحلي بعد مرحلة الاتكالية المطلقة على الحكومة.
- بروز حالات فوق السطح من رحم لآلام اجتماعية متضررة من تداعيات السياسة المالية الجديدة.
- انفتاح السوق العماني فجأة بعد ما كان مغلقا طوال خمسين عاما، وانفتاحه كان ينظر إليه من الخطوط الحمر.
- عدم وضوح الثابت والمتغير نتيجة تلكم الاكراهات، وبروز ملامح للوضوح بعد خطاب عاهل البلاد في الذكرى الثانية لتوليه الحكم، وبالذات في مجال الهوية العماني – سيكون لي معها مقال لوضع النقاط فوق حروف تائهة في ظل التحولات الفكرية داخليا وخارجيا.
- بروز الإقليمية والجهويات كتحدٍ تنموي متعاظم لم تعد تصلح معه المركزية في التدبير والتسيير الإداري والمالي، والتخطيط التنموي والاقتصادي.
ماذا يعني كل ذلك؟
يعني أن النفط لم يعد المصدر المطمئن إليه ولو مؤقتا، وأن المركزية لم تعد صالحة للتنمية، ولا للجغرافيا العمانية، وأن الخيار الأنسب للعهد المتجدد هو التوجه نحو اقتصاديات المحافظات واللامركزية، فالرؤية النفاذة الآن تتجه نحو الاعتداد بالجماعات المحلية داخل الجغرافيا العمانية المعقدة جدا، وهذه النتائج نجدها الآن واضحة في أحاديث جلالته مع شيوخ ولايات محافظات البلاد، معززة توجهات الرؤية 2040 خاصة في مجالي عدم الاعتماد على النفط والمركزية، وقد أشرت إليها في مقالي السابق.
وهنا يتجلى الأسس البنائية للعقد السياسي المتجدد.. أبرزها:
- اللامركزية وتعظيم دور المجالس البلدية، مما قد نشهد أهمية متزايدة للديمقراطية المحلية/ الإقليمية التي تمثلها هنا المجالس البلدية، أكبر من الديمقراطية الوطنية التي تتجسد في مجلس الشورى، وقانون مجلس عمان الجديد أكبر الاستدلالات التي تستند عليها رؤيتي.
- لكل محافظة اقتصادها المرتبط بالاقتصاد الوطني، والفقرة التالية التي وردت في لقاء جلالته في آخر لقاءاته مع الشيوخ واضحة في هذا الاتجاه 'التخطيط المستقبلي للمحافظات سيتم عن طريق المحافظين والمجالس البلدية، والفقرتان الأخيرتان تعززان ما ورد في أولويات تنمية المحافظات، وبالذات الفقرة التالية، وهي أولوية 'مجتمعات ممكنة تسهم في صناعة أولوياتها الاجتماعية والاقتصادية والبيئية.. ضمن إطار اللامركزية الإدارية والاقتصادية.
ونختتم بالقول: إن التنظيرات السياسية الجديدة التي تؤطرها الرؤى الاستراتيجية.. يتوقف نجاحها في العقد السياسي المتجدد على الانتقال السريع من الحلول 'الاضطرارية' إلى الحلول الدائمة، فالضرائب والرسوم لن تشكل القاعدة الآمنة والمستدامة لهذا العقد، لذلك لابد من الانتقال السريع إلى اللامركزية واقتصاديات المحافظات التي ستصنع الثروة الجديدة، وفرص العمل، واحتواء الديموغرافيات الإقليمية، وكسب رضاها، وقد يكون مقالا حول شروط نجاح اللامركزية الإدارية والاقتصادية في بلادنا في ضوء خصوصياتها الاجتماعية ودواعيها السياسية.
• د. عبدالله باحجاج كاتب عماني مهتم بالشأن الخليجي