موسم الهجرة إلى «البصرة»
هوامش ومتون
الأربعاء / 27 / ربيع الأول / 1443 هـ - 21:13 - الأربعاء 3 نوفمبر 2021 21:13
حين علم شاب عماني يعمل سائق سيارة أجرة في شوارع مسقط، أنّني سأتوجّه للبصرة، غبطني، وقال: كثيرا ما سمعت كبار السن يردّدون: «إذا ضاقت عليك الدنيا عليك بالبصرة»، من حيث إنّها كانت تمثّل المتنفّس الأجمل لسكّان المنطقة، ففيها يجد الزائر كلّ ما يسعده، فتطيب إقامته في المدينة التي شيّدها الصحابي عتبة بن غزوان بعهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، في السنة الرابعة عشرة للهجرة، لتكون أوّل مدينة إسلامية، بنيت خارج منطقة الجزيرة، وتأكيدا على مصداقية تلك المقولة الإعلانات التي كانت تنشرها الصحف والمجلات العراقية في الخمسينات والستينات، التي تتحدث عن مطاعم عامرة بأشهى الأكلات وحفلات غنائية وموسيقية يحييها نجوم الغناء العربي، ومن بينهم الحفل الغنائي الذي أحياه عبدالحليم حافظ ضمن برنامج (أضواء المدينة) كما نشرت جريدة (الثغر)، والأنشطة التي قام بها في أغسطس 1964 م مع نجاة الصغيرة، وشريفة فاضل وإسماعيل ياسين وفائزة أحمد وآخرين ضمن حفلات لدعم صندوق فلسطين.
لكنني أزورها اليوم، ليس لأنها ضاقت، ولا امتثالا لقول عمرو بن الأهتم التميمي:
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها
ولكنّ أخلاق الرجال تضيق
بل للمشاركة في مهرجان المربد الشعري، الذي حمل هذا الاسم إحياء لسوق قديم كان ملتقى للشعراء والنحاة في العصور الأدبية الزاهرة، ولم تكن شهرته أقل من شهرة سوق عكاظ، قبل الإسلام، وقد ازدهر سوق المربد في العصر الأموي، وفي عام 1971م انطلقت فعاليات مهرجان حمل هذا الاسم، وسرعان ما اكتسب شهرة واسعة في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، وها أنا أعود ثانية بعد مرور أحد عشر عاما، على آخر زيارة لها عام ٢٠١٠، مستحضرا بيت الشافعي:
ما لي سوى قَرعي لبابك حيلةٌ
فَلَئِن رُدِدْتُ فأيَّ بابٍ أقرعُ؟
مثقلا بالحنين لمدينة الرائد بدر شاكر السيّاب، وغابات النخيل، والأنهار التي قيل أنّ عددها بلغ 1000 نهر! وهو رقم يغدو متواضعا حين نتحدّث عن شعرائها، وكتّابها منذ القدم: الجاحظ، وأبي نواس، وجرير، والفرزدق، والأخطل، وبشّار بن برد، وآخرون اجتمعوا في (خزانة العرب)، كما كانت تسمّى، و(ثغر العراق الباسم)، يقول محمد علي اليعقوبي:
وإذا تبسّمت البلاد لأهلها
بشرا فإنك ثغرها البسّام
في موسمها الشعري، أعود للمدينة التي كانت حاضنة فكرية، وساحة خصبة للثقافات، والمدارس اللغويّة، والتوجهات الفقهية، لقمر البصرة الذي يصهل مثل المهر كما يقول الشاعر نزار قباني:
«يستوقفني قمر البصرة
هل أبصرتم قمرا يصهل مثل المهر
كيف أمشط شعر البصرة بالكلمات
وأشهد أن البصرة شِعرَ الشِعرِ»
أعود لأتمشّى على (كورنيش العشّار)، الذي كثيرا ما تذكّرته، وأنا أسير على (كورنيش مطرح)، وهكذا توقظ الأماكن ذاكرتنا، وتتبادل المواقع، ففي مطرح الغافية على بحر عمان، نستحضر (العشار)، وفي الأخير نستحضر (مطرح)، وهنا يحقّ لنا أن نتساءل: هل نحن نسكن المدن؟ أم أنّ المدن تسكننا؟
يبدو أنها تسكننا أكثر مما نسكنها، بدليل أننا أحيانا ننسى أين نحن على وجه التحديد، ولو للحظات! يقول الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس: لست متأكدا هل أنا موجود أم لا، أنا كلّ المدن التي زرت.
حينما أصغيت لحديث سائق سيارة الأجرة العماني باهتمام، وهو ينقل لي الصورة الذهنية التي رسمتها أجيال متعاقبة، تمثّلت لي مدينة من مدن التي تصنعها ( اليوتوبيا)، كانت الصور التي تتناقلها مواقع التواصل الاجتماعي تعكس ما آلت إليه المدينة، من إهمال، بعد سنوات الحروب والصراعات، وعندما كتبت، ذات يوم مقالا ثقافيا عن البصرة في ذاكرة القصيدة العربيّة، طلبت مني إدارة المجلة تزويدها بصور تظهر وجها مشرقا للبصرة، فلم أجد سوى صور البؤس التي تضج بها المواقع، استحضرت قول أبي نواس:
يا دارُ! ما فعَلَتْ بكِ الأيّامُ
ضَـامَتْكِ، والأيامُ ليسَ تُضامُ
عَرَمَ الزّمانُ على الّذينَ عهدتهمْ
بكِ قاطِنين، وللزّمان عُرامُ
حاولت التواصل مع زملاء يعملون في الصحافة العراقية، فلم يسعفوني، وهنا لابد للمجلة من التصرّف، والعودة لرسام يمتح من مخيلته الخصبة صورا عششت في الذاكرة عن المدينة لتنتعش عين القارئ ومخيلته، المزدحمة بصور جميلة، للحظات سعيدة عشناها فيها، يقول مارك توين: كم هو مؤلم أن تحزن في المكان الذي ابتسمت فيه كثيرا.
في زيارتي لها، أتمنى أن يمدّنا الواقع الجديد للبصرة التي تسعى لتنظيم النسخة ٢٥ من كأس الخليج، كما أعلن اتحاد كأس الخليج لكرة القدم، بصور جديدة لـ (ثغر العراق الباسم) الذي يظل فاتحا ذراعيه، بكرم أهلها المعروف، لاحتضان زوّار قدموا إليها من مناطق بعيدة، جنبا إلى جنب مع الطيور المهاجرة التي تبحث عن المناطق الدافئة شتاء، فتوجّهها بوصلتها للبصرة، وإذا كانت النصيحة العمانية ترى أن الدنيا عندما تضيق، علينا بالبصرة، ولكن لو ضاقت البصرة، أين يمضي طائر القصيدة في موسم الهجرة؟
لكنني أزورها اليوم، ليس لأنها ضاقت، ولا امتثالا لقول عمرو بن الأهتم التميمي:
لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها
ولكنّ أخلاق الرجال تضيق
بل للمشاركة في مهرجان المربد الشعري، الذي حمل هذا الاسم إحياء لسوق قديم كان ملتقى للشعراء والنحاة في العصور الأدبية الزاهرة، ولم تكن شهرته أقل من شهرة سوق عكاظ، قبل الإسلام، وقد ازدهر سوق المربد في العصر الأموي، وفي عام 1971م انطلقت فعاليات مهرجان حمل هذا الاسم، وسرعان ما اكتسب شهرة واسعة في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، وها أنا أعود ثانية بعد مرور أحد عشر عاما، على آخر زيارة لها عام ٢٠١٠، مستحضرا بيت الشافعي:
ما لي سوى قَرعي لبابك حيلةٌ
فَلَئِن رُدِدْتُ فأيَّ بابٍ أقرعُ؟
مثقلا بالحنين لمدينة الرائد بدر شاكر السيّاب، وغابات النخيل، والأنهار التي قيل أنّ عددها بلغ 1000 نهر! وهو رقم يغدو متواضعا حين نتحدّث عن شعرائها، وكتّابها منذ القدم: الجاحظ، وأبي نواس، وجرير، والفرزدق، والأخطل، وبشّار بن برد، وآخرون اجتمعوا في (خزانة العرب)، كما كانت تسمّى، و(ثغر العراق الباسم)، يقول محمد علي اليعقوبي:
وإذا تبسّمت البلاد لأهلها
بشرا فإنك ثغرها البسّام
في موسمها الشعري، أعود للمدينة التي كانت حاضنة فكرية، وساحة خصبة للثقافات، والمدارس اللغويّة، والتوجهات الفقهية، لقمر البصرة الذي يصهل مثل المهر كما يقول الشاعر نزار قباني:
«يستوقفني قمر البصرة
هل أبصرتم قمرا يصهل مثل المهر
كيف أمشط شعر البصرة بالكلمات
وأشهد أن البصرة شِعرَ الشِعرِ»
أعود لأتمشّى على (كورنيش العشّار)، الذي كثيرا ما تذكّرته، وأنا أسير على (كورنيش مطرح)، وهكذا توقظ الأماكن ذاكرتنا، وتتبادل المواقع، ففي مطرح الغافية على بحر عمان، نستحضر (العشار)، وفي الأخير نستحضر (مطرح)، وهنا يحقّ لنا أن نتساءل: هل نحن نسكن المدن؟ أم أنّ المدن تسكننا؟
يبدو أنها تسكننا أكثر مما نسكنها، بدليل أننا أحيانا ننسى أين نحن على وجه التحديد، ولو للحظات! يقول الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس: لست متأكدا هل أنا موجود أم لا، أنا كلّ المدن التي زرت.
حينما أصغيت لحديث سائق سيارة الأجرة العماني باهتمام، وهو ينقل لي الصورة الذهنية التي رسمتها أجيال متعاقبة، تمثّلت لي مدينة من مدن التي تصنعها ( اليوتوبيا)، كانت الصور التي تتناقلها مواقع التواصل الاجتماعي تعكس ما آلت إليه المدينة، من إهمال، بعد سنوات الحروب والصراعات، وعندما كتبت، ذات يوم مقالا ثقافيا عن البصرة في ذاكرة القصيدة العربيّة، طلبت مني إدارة المجلة تزويدها بصور تظهر وجها مشرقا للبصرة، فلم أجد سوى صور البؤس التي تضج بها المواقع، استحضرت قول أبي نواس:
يا دارُ! ما فعَلَتْ بكِ الأيّامُ
ضَـامَتْكِ، والأيامُ ليسَ تُضامُ
عَرَمَ الزّمانُ على الّذينَ عهدتهمْ
بكِ قاطِنين، وللزّمان عُرامُ
حاولت التواصل مع زملاء يعملون في الصحافة العراقية، فلم يسعفوني، وهنا لابد للمجلة من التصرّف، والعودة لرسام يمتح من مخيلته الخصبة صورا عششت في الذاكرة عن المدينة لتنتعش عين القارئ ومخيلته، المزدحمة بصور جميلة، للحظات سعيدة عشناها فيها، يقول مارك توين: كم هو مؤلم أن تحزن في المكان الذي ابتسمت فيه كثيرا.
في زيارتي لها، أتمنى أن يمدّنا الواقع الجديد للبصرة التي تسعى لتنظيم النسخة ٢٥ من كأس الخليج، كما أعلن اتحاد كأس الخليج لكرة القدم، بصور جديدة لـ (ثغر العراق الباسم) الذي يظل فاتحا ذراعيه، بكرم أهلها المعروف، لاحتضان زوّار قدموا إليها من مناطق بعيدة، جنبا إلى جنب مع الطيور المهاجرة التي تبحث عن المناطق الدافئة شتاء، فتوجّهها بوصلتها للبصرة، وإذا كانت النصيحة العمانية ترى أن الدنيا عندما تضيق، علينا بالبصرة، ولكن لو ضاقت البصرة، أين يمضي طائر القصيدة في موسم الهجرة؟