القضيّة النّسويّة من خلال رؤية صادق جواد سليمان
الاثنين / 19 / صفر / 1443 هـ - 23:39 - الاثنين 27 سبتمبر 2021 23:39
بدر العبري
قبل وفاة صادق جواد سليمان - رحمه الله – كان يحثني كثيرا أن أرجع إلى محاضرته في النّادي الثّقافيّ والّتي بعنوان: القضيّة النّسويّة: أبعادها ومحاورها على صعيد الوطن والعالم، وألقاها في النّادي الثّقافي بدعوة من أسرة الكاتبات العمانيات في الأول من أبريل 2006م، وذكرني بذلك أكثر من مرة، وقال لي إنّه كتب ورقة حولها وعدلها، ويريدني أن أعيد نشرها، لولا أنّ الأجل سبق، وممّا أسعدني وجدت سعيد بن سلطان الهاشمي أضاف الورقة مع تنقيح وإضافة من قبل صادق جواد في كتاب سلامة الفكر بسلامة التّفكير، والّذي صدر قريبا.
وقبل تحليل الموضوع نجد أنّ قضيّة النّسويّة لم تكن حينها بتلك الحساسيّة الّتي ظهرت مؤخرا عندنا، وارتبطت بالجانب الحقوقي للمرأة، وهي قضيّة قديمة وليست حديثة، شاع في بدايات القرن العشرين مثلا في مصر تحرير المرأة عند قاسم أمين [ت 1908م]، فمنهم قبل المصطلح، ومنهم رفضه، إلا أنّ المصطلح كان في جملته يدور حول حقوق المرأة من حيث قيمة المساواة، ودراستها من حيث الدّين والقانون والعادات والتّقاليد والأعراف، والاختلاف يكمن في بعض جزئيات الموضوع باعتبار المرجعيّة، إلا أنّ المدار الأكبر هي قيمة المساواة، وتمكين المرأة من حقوقها، وجعل القانون حافظا لها من حيث الشّأن العام، مع ترك تدافع الهوّيّات طبيعيّا، فالجدليّة حقوقيّة من حيث الابتداء وليست سياسيّة، وقد تستغل كأيّ مطالبات، إلا أنّ الاستغلال السّلبيّ لا يعني جعل القضيّة برمتها سلبيّة، والتّعامل معها بحساسيّة مفرطة، وتصنيف النّاس حولها ممّا يحدث ضبابيّة في دارسة القضّية، وقد يتطور إلى قمع يترتب عليه استبداد بالرّأي، وإقصاء وإيذاء بالفعل من جهة أخرى.
ولمّا ظهرت الدّراسات الثّقافيّة عام 1964م، كردة فعل للتّخصصيّة المبالغة في الغرب عند ريتشارد هوجرت [ت 2014م]؛ كان موضوع المرأة حاضرا بقوّة أيضا من حيث علاقتها بالسّلطة من جهة، وبالهوّيّة من جهة ثانيّة، فالقضيّة معرفيّة تدرس من الخارج، بيد أنّه مشكلتنا من جهتين: جهة ترفض القضيّة بالكليّة، وتعيش في وهم المؤامرة الغربيّة والصّهيونيّة، وجهة تتعصب لها كردة فعل بعيدا عن دراستها بشكل عقلانيّ وفق الهوّيّات وحالات المجتمع وتشكلاته.
ما قام به صادق جواد أنّه قرأ القضيّة من الخارج بعيدا عن أيّ تصنيف مسبق، مبينا من الابتداء أنّه ليس «عالم اجتماع .... [ولا] ناشطا في مجال حقوق المرأة»، إلا أنّ القضيّة «لا [تخرج] عن عموم اهتمامي بقضايا العصر... تلك الّتي أراها قضايا كليّة قد اكتسبت حراكا حيويّا على الصّعيد العالمي، وبذا غدت أنشط عوامل التّطوير للحياة المعاصرة عبر العالم».
وصادق جواد يرى أنّه لا يمكن الفصل بين خصوصيّة المجتمع [الهوّيّة]، وعالميّة القضيّة [الإنسانيّة]، معللا ذلك لأنّ «العالم بأسره قد أفاق على حقيقة أنّ في تحجيم وضع المرأة تحجيم لوضع المجتمع، وأنّ في تفويت الاستفادة القصوى من المواهب والقدرات النّسويّة تفويت للاستفادة القصوى من المواهب والقدرات المختزنة في الرّصيد الوطني، وأنّ تخلف المرأة في أيّما مجتمع سرعان ما ينقلب إلى تخلف المجتمع ككل».
وبما أنّ المدار الّذي يدور عليه فكر صادق جواد هو إرجاع الهوّيّات إلى الماهيّة، يرى أنّ الماهيّة من حيث الفطرة [التّكوين] مستغرقة لأربع مبادئ كليّة، لا يفرق بين جنس وجنس، أو لون ولون، فهي واحدة من حيث الماهيّة، رجلا كان أو امرأة، وهي: الكرامة الإنسانيّة، والعدل، والمساواة، والشّورى، وهنا في قضيّة النّسويّة يركز بعد الكرامة الإنسانيّة على مبدأ المساواة، لهذا قام بطرح هذا السّؤال: «هل الرّجل والمرأة حقيقة متكافئان في القابليّة العقليّة حتّى تبرر بذلك ضرورة سن تشريعات تساوي بينهما في الحقوق؟».
يجيب صادق جواد على هذا السّؤال من خلال العلم أولا، ثمّ الدّين ثانيا، فيرى من حيث العلم في قضيّة التّفاوت يستقى من مصدرين: الإحصاء والموضوع، أمّا من جهة الإحصاء فيبين أنّه «لايوجد دليل على وجود تفاوت، لا من حيث الاستيعاب المعرفي، ولا من حيث الأداء المعرفي»، مبرهنا أنّ «الإناث عبر العالم تجلس في نفس صفوف الدّراسة مع الذّكور، تنهل من نفس المعرفة، وتحقق فيها تحصيلا متكافئا مع تحصيل الذّكور»، كذلك «لا يوجد مجال عملي لم تدخله المرأة في العقود الأخيرة، وتثبت فيه جدارة تتعادل مع جدارة الرّجل»، بيد أنّه يفسر قلّة حضور المرأة في بعض الأعمال إلى العامل الثّقافيّ العرفيّ، «وليس كمؤشر إلى تفاوت في الاستعداد الطّبيعيّ».
وأمّا من حيث الجانب الموضوعيّ فيرى أنّه من «حيث دراسة وجود فوراق نورولوجيّة بين دماغ الذّكر ودماغ الأنثى، وهي دراسة تيسرت كثيرا في الفترة الأخيرة بفضل أجهزة متقدّمة تعكس وضعيّة الدّماغ وما يحدث فيه من حراك بشكل دقيق، لا يحكم العلم بأنّ المرأة دون الرّجل في ملكة الإدراك، نعم، يخبرنا العلم بتغاير ملحوظ بين دماغ كلّ من الجنسين، تغاير لم يكن يُدرك مداه قبل عقد من الزّمن كما يدرك اليوم، إلا أنّ العلم هنا أيضا لا يحكم بوجود تفاوت بين الجنسين في الملكة العقليّة، العلم يخبرنا أيضا أنّ حجم دماغ الرّجل أكبر بعشرة بالمائة من حجم دماغ المرأة، لكنه يخبرنا أيضا أنّ هذا يتسق مع عموم فارق الحجم الجسمي بين الجنسين، حيث الرّجال في المعدل أطول من النساء بنسبة ثمانية بالمائة، هنا أيضا يؤكد لنا العلم أنّ فارق حجم الدّماغ لم يوصل العلماء إلى تبين فارق في المقدرة العقليّة، أمّا اختبارات الذّكاء ... فباطراد تظهر نتائج متكافئة بين الذّكور والإناث».
ومن حيث الدّين يطرح صادق جواد هذا السّؤال من حيث المنظومة الإسلاميّة، ولم يتطرق إلى الأديان الأخرى، «ما الأصل في المنظور الإسلامي: أهو المساواة بين الجنسين أم هو عدم المساواة؟»، وهنا يشير صادق جواد لمعرفة الجواب علينا بالقرآن الكريم فقط بعيدا عن النّصوص الرّوائيّة والتّأريخيّة، فيرى من خلال تأمله في القرآن الكريم «ما أراه استنباطا من الذّكر الحكيم هو تساوٍ بينهما في الخلق، تساوٍ بينهما في أهليّة الولاية، وتساوٍ بينهما في قيمة العمل المؤدى من كلّ منهما، والأجر المستحق عليه، وما أراه بعد ذلك هو خطاب قرآني مكرر للنّاس والإنسان، وكلا اللّفظين – النّاس والإنسان - شاملٌ الذّكور والإناث»، وهنا لم يتطرق صادق جواد إلى الأمور الإجرائيّة كقضيّة الميراث والقوامة، فتطرق إلى بعضها من خلال حوارنا معه والّذي صدر قريبا في كتاب الماهيّة والهوّيّة؛ لأنّه يرى الأمور الإجرائيّة ظرفيّة متحركة، والمبادئ الأربعة ثابتة لا تتحرك، لهذا أغلب النّاس في قضيّة النّسويّة وغيرها يخلطون بين الثّابت والمتحرك، وبين القيم والمبادئ والأمور الإجرائيّة.
لهذا يخلص صادق جواد من خلال مبدأ المساواة أنّه إذا «نظرتَ من منظور ديني أو علمي، المرأة والرّجل متساويان، فإذا تغايرا في الأدوار، فلا يعني ذلك أن يتفاوتا في الحقوق»، ويرى أنّ الحقوق تتمثل في الحقوق السياسيّة، والحقوق المدنيّة، وحقوق تكافؤ فرص التّعليم والعمل.
أمّا الحقوق السّياسيّة فيرى أنّها «ما عادت محل جدال، فقد استقرت في دساتير غالبيّة دول العالم، وغدت تفّعل بشكل أحسن وأكثر ضبطا في الأداء الوطنيّ، هي أيضا سالكة في الخبرة العربيّة بوجه عام، بمعنى أنّه يُفسح لها أكثر فأكثر أمام تزمت يتراجع تحت ضغط وطني وعالمي».
وأمّا في الحقوق المدنيّة فلا يرى «إشكالا يوجد إزاءه لدى تلك المجتمعات الّتي فكت ارتباطها بالتّشريع الدّينيّ، وأرست اجتهادها في الأمور المدنيّة على النّهج العلمانيّ، من دون أن تتخلى عن أديانها من حيث الارتباط الرّوحيّ، وإقامة شعائر التّعبد، ولأنّ المجتمعات العربيّة، إلى جانب الارتباط الرّوحي، وأداء الشّعائر؛ ظلّت ولا تزال وفيّة لأحكام الشّريعة، فما تطفح من إشكاليات تطبيقيّة أحيانا إزاء حكم شرعي أو آخر، بسبب تغير أو تعقد ظروف الحياة، فإنّها تعالج باجتهاد مرن مستنير، على غرار ما عولج بعض منها في بعض البلاد العربيّة مؤخرا (تونس والمغرب)، دونما الإخلال بجوهر الحكم الشّرعيّ»، وهذا يدخل كما أسلفنا في الثّابت والمتحرك، لهذا يرى صادق جواد «من الحكمة التّعرض للمحور المدني... بالّتي هي أحسن، أي في إطار اجتهاد إسلامي سمح، مستنير، ومستوعب لتغيّر ظروف الحياة، في جوهر الأمر، علينا أن ندرك أنّ مجتمعاتنا لا ترغب في الافتراق عن أحكام الشّريعة الّتي انتظمت بها حياتها الخاصّة والعامّة على امتداد قرون، لكنها ترغب في اجتهاد أكثر سعة في التّعامل مع قضايا العصر، وفي ذلك لمجتمعاتنا الاستحقاق فيما تطالب، والحق في أن تقرر وفق ما تريد».
وأمّا في تكافؤ فرص التّعليم والعمل فلا يرى أيضا «إشكالا يذكر لدى المجتمعات المعاصرة بوجه عام، على هذا المحور المجتمعات العربيّة تجاري المجتمعات الأخرى في توجهها نحو تحقيق المساواة دونما تحفّظ، لدينا، مثلا، المرأة العمانيّة أخذت تسجل حضورا متقاربا طردا مع حضور الرّجل في مختلف مجالات العمل في القطاعين العام والخاص».
وقد تطرق صادق جواد في ابتداء ورقته إلى الجانب التّأريخي للمرأة، والّذي جعل من العالم المعاصر يتحرك أكثر في مناقشة قضيّة النّسويّة، وفي العالم العربي يرى «كانت قسوة مفرطة في معاملة المرأة، بقدر ما كانت استهانة بها، إهمال لها، واستغلال لضعفها من قبل الرّجل، كانت الاستهانة من قبيل تهميش دورها في المجتمع، الإهمال من حيث تحريمها من التّعليم، والإيذاء من قبيل التّعسف في معاملتها وإرضاخها لطاعة الرّجل ومسايرة رغباته، وإذ أقصيت عن التّعلم، وحجبت عنها فرص التّمرس في مهن منتجة؛ غدت فاقدة القدرة على التّكفل بنفسها في أمر المعاش، بذلك ازداد اعتمادها على الرّجل كمنفق ومنعم، وفي المقابل زادت قدرته على التّحكم في أمرها فاستغل ضعفها، وأملى عليها فروض الطّاعة والتّبعيّة، وجعلها، في أحسن الحالات الشّريك الأدنى في الحياة»، خلاصة ما سبق يتضح مدار صادق جواد حول مبدأ المساواة المترتب عليه الحقوق الثّلاثة السّالف ذكرها.
قبل وفاة صادق جواد سليمان - رحمه الله – كان يحثني كثيرا أن أرجع إلى محاضرته في النّادي الثّقافيّ والّتي بعنوان: القضيّة النّسويّة: أبعادها ومحاورها على صعيد الوطن والعالم، وألقاها في النّادي الثّقافي بدعوة من أسرة الكاتبات العمانيات في الأول من أبريل 2006م، وذكرني بذلك أكثر من مرة، وقال لي إنّه كتب ورقة حولها وعدلها، ويريدني أن أعيد نشرها، لولا أنّ الأجل سبق، وممّا أسعدني وجدت سعيد بن سلطان الهاشمي أضاف الورقة مع تنقيح وإضافة من قبل صادق جواد في كتاب سلامة الفكر بسلامة التّفكير، والّذي صدر قريبا.
وقبل تحليل الموضوع نجد أنّ قضيّة النّسويّة لم تكن حينها بتلك الحساسيّة الّتي ظهرت مؤخرا عندنا، وارتبطت بالجانب الحقوقي للمرأة، وهي قضيّة قديمة وليست حديثة، شاع في بدايات القرن العشرين مثلا في مصر تحرير المرأة عند قاسم أمين [ت 1908م]، فمنهم قبل المصطلح، ومنهم رفضه، إلا أنّ المصطلح كان في جملته يدور حول حقوق المرأة من حيث قيمة المساواة، ودراستها من حيث الدّين والقانون والعادات والتّقاليد والأعراف، والاختلاف يكمن في بعض جزئيات الموضوع باعتبار المرجعيّة، إلا أنّ المدار الأكبر هي قيمة المساواة، وتمكين المرأة من حقوقها، وجعل القانون حافظا لها من حيث الشّأن العام، مع ترك تدافع الهوّيّات طبيعيّا، فالجدليّة حقوقيّة من حيث الابتداء وليست سياسيّة، وقد تستغل كأيّ مطالبات، إلا أنّ الاستغلال السّلبيّ لا يعني جعل القضيّة برمتها سلبيّة، والتّعامل معها بحساسيّة مفرطة، وتصنيف النّاس حولها ممّا يحدث ضبابيّة في دارسة القضّية، وقد يتطور إلى قمع يترتب عليه استبداد بالرّأي، وإقصاء وإيذاء بالفعل من جهة أخرى.
ولمّا ظهرت الدّراسات الثّقافيّة عام 1964م، كردة فعل للتّخصصيّة المبالغة في الغرب عند ريتشارد هوجرت [ت 2014م]؛ كان موضوع المرأة حاضرا بقوّة أيضا من حيث علاقتها بالسّلطة من جهة، وبالهوّيّة من جهة ثانيّة، فالقضيّة معرفيّة تدرس من الخارج، بيد أنّه مشكلتنا من جهتين: جهة ترفض القضيّة بالكليّة، وتعيش في وهم المؤامرة الغربيّة والصّهيونيّة، وجهة تتعصب لها كردة فعل بعيدا عن دراستها بشكل عقلانيّ وفق الهوّيّات وحالات المجتمع وتشكلاته.
ما قام به صادق جواد أنّه قرأ القضيّة من الخارج بعيدا عن أيّ تصنيف مسبق، مبينا من الابتداء أنّه ليس «عالم اجتماع .... [ولا] ناشطا في مجال حقوق المرأة»، إلا أنّ القضيّة «لا [تخرج] عن عموم اهتمامي بقضايا العصر... تلك الّتي أراها قضايا كليّة قد اكتسبت حراكا حيويّا على الصّعيد العالمي، وبذا غدت أنشط عوامل التّطوير للحياة المعاصرة عبر العالم».
وصادق جواد يرى أنّه لا يمكن الفصل بين خصوصيّة المجتمع [الهوّيّة]، وعالميّة القضيّة [الإنسانيّة]، معللا ذلك لأنّ «العالم بأسره قد أفاق على حقيقة أنّ في تحجيم وضع المرأة تحجيم لوضع المجتمع، وأنّ في تفويت الاستفادة القصوى من المواهب والقدرات النّسويّة تفويت للاستفادة القصوى من المواهب والقدرات المختزنة في الرّصيد الوطني، وأنّ تخلف المرأة في أيّما مجتمع سرعان ما ينقلب إلى تخلف المجتمع ككل».
وبما أنّ المدار الّذي يدور عليه فكر صادق جواد هو إرجاع الهوّيّات إلى الماهيّة، يرى أنّ الماهيّة من حيث الفطرة [التّكوين] مستغرقة لأربع مبادئ كليّة، لا يفرق بين جنس وجنس، أو لون ولون، فهي واحدة من حيث الماهيّة، رجلا كان أو امرأة، وهي: الكرامة الإنسانيّة، والعدل، والمساواة، والشّورى، وهنا في قضيّة النّسويّة يركز بعد الكرامة الإنسانيّة على مبدأ المساواة، لهذا قام بطرح هذا السّؤال: «هل الرّجل والمرأة حقيقة متكافئان في القابليّة العقليّة حتّى تبرر بذلك ضرورة سن تشريعات تساوي بينهما في الحقوق؟».
يجيب صادق جواد على هذا السّؤال من خلال العلم أولا، ثمّ الدّين ثانيا، فيرى من حيث العلم في قضيّة التّفاوت يستقى من مصدرين: الإحصاء والموضوع، أمّا من جهة الإحصاء فيبين أنّه «لايوجد دليل على وجود تفاوت، لا من حيث الاستيعاب المعرفي، ولا من حيث الأداء المعرفي»، مبرهنا أنّ «الإناث عبر العالم تجلس في نفس صفوف الدّراسة مع الذّكور، تنهل من نفس المعرفة، وتحقق فيها تحصيلا متكافئا مع تحصيل الذّكور»، كذلك «لا يوجد مجال عملي لم تدخله المرأة في العقود الأخيرة، وتثبت فيه جدارة تتعادل مع جدارة الرّجل»، بيد أنّه يفسر قلّة حضور المرأة في بعض الأعمال إلى العامل الثّقافيّ العرفيّ، «وليس كمؤشر إلى تفاوت في الاستعداد الطّبيعيّ».
وأمّا من حيث الجانب الموضوعيّ فيرى أنّه من «حيث دراسة وجود فوراق نورولوجيّة بين دماغ الذّكر ودماغ الأنثى، وهي دراسة تيسرت كثيرا في الفترة الأخيرة بفضل أجهزة متقدّمة تعكس وضعيّة الدّماغ وما يحدث فيه من حراك بشكل دقيق، لا يحكم العلم بأنّ المرأة دون الرّجل في ملكة الإدراك، نعم، يخبرنا العلم بتغاير ملحوظ بين دماغ كلّ من الجنسين، تغاير لم يكن يُدرك مداه قبل عقد من الزّمن كما يدرك اليوم، إلا أنّ العلم هنا أيضا لا يحكم بوجود تفاوت بين الجنسين في الملكة العقليّة، العلم يخبرنا أيضا أنّ حجم دماغ الرّجل أكبر بعشرة بالمائة من حجم دماغ المرأة، لكنه يخبرنا أيضا أنّ هذا يتسق مع عموم فارق الحجم الجسمي بين الجنسين، حيث الرّجال في المعدل أطول من النساء بنسبة ثمانية بالمائة، هنا أيضا يؤكد لنا العلم أنّ فارق حجم الدّماغ لم يوصل العلماء إلى تبين فارق في المقدرة العقليّة، أمّا اختبارات الذّكاء ... فباطراد تظهر نتائج متكافئة بين الذّكور والإناث».
ومن حيث الدّين يطرح صادق جواد هذا السّؤال من حيث المنظومة الإسلاميّة، ولم يتطرق إلى الأديان الأخرى، «ما الأصل في المنظور الإسلامي: أهو المساواة بين الجنسين أم هو عدم المساواة؟»، وهنا يشير صادق جواد لمعرفة الجواب علينا بالقرآن الكريم فقط بعيدا عن النّصوص الرّوائيّة والتّأريخيّة، فيرى من خلال تأمله في القرآن الكريم «ما أراه استنباطا من الذّكر الحكيم هو تساوٍ بينهما في الخلق، تساوٍ بينهما في أهليّة الولاية، وتساوٍ بينهما في قيمة العمل المؤدى من كلّ منهما، والأجر المستحق عليه، وما أراه بعد ذلك هو خطاب قرآني مكرر للنّاس والإنسان، وكلا اللّفظين – النّاس والإنسان - شاملٌ الذّكور والإناث»، وهنا لم يتطرق صادق جواد إلى الأمور الإجرائيّة كقضيّة الميراث والقوامة، فتطرق إلى بعضها من خلال حوارنا معه والّذي صدر قريبا في كتاب الماهيّة والهوّيّة؛ لأنّه يرى الأمور الإجرائيّة ظرفيّة متحركة، والمبادئ الأربعة ثابتة لا تتحرك، لهذا أغلب النّاس في قضيّة النّسويّة وغيرها يخلطون بين الثّابت والمتحرك، وبين القيم والمبادئ والأمور الإجرائيّة.
لهذا يخلص صادق جواد من خلال مبدأ المساواة أنّه إذا «نظرتَ من منظور ديني أو علمي، المرأة والرّجل متساويان، فإذا تغايرا في الأدوار، فلا يعني ذلك أن يتفاوتا في الحقوق»، ويرى أنّ الحقوق تتمثل في الحقوق السياسيّة، والحقوق المدنيّة، وحقوق تكافؤ فرص التّعليم والعمل.
أمّا الحقوق السّياسيّة فيرى أنّها «ما عادت محل جدال، فقد استقرت في دساتير غالبيّة دول العالم، وغدت تفّعل بشكل أحسن وأكثر ضبطا في الأداء الوطنيّ، هي أيضا سالكة في الخبرة العربيّة بوجه عام، بمعنى أنّه يُفسح لها أكثر فأكثر أمام تزمت يتراجع تحت ضغط وطني وعالمي».
وأمّا في الحقوق المدنيّة فلا يرى «إشكالا يوجد إزاءه لدى تلك المجتمعات الّتي فكت ارتباطها بالتّشريع الدّينيّ، وأرست اجتهادها في الأمور المدنيّة على النّهج العلمانيّ، من دون أن تتخلى عن أديانها من حيث الارتباط الرّوحيّ، وإقامة شعائر التّعبد، ولأنّ المجتمعات العربيّة، إلى جانب الارتباط الرّوحي، وأداء الشّعائر؛ ظلّت ولا تزال وفيّة لأحكام الشّريعة، فما تطفح من إشكاليات تطبيقيّة أحيانا إزاء حكم شرعي أو آخر، بسبب تغير أو تعقد ظروف الحياة، فإنّها تعالج باجتهاد مرن مستنير، على غرار ما عولج بعض منها في بعض البلاد العربيّة مؤخرا (تونس والمغرب)، دونما الإخلال بجوهر الحكم الشّرعيّ»، وهذا يدخل كما أسلفنا في الثّابت والمتحرك، لهذا يرى صادق جواد «من الحكمة التّعرض للمحور المدني... بالّتي هي أحسن، أي في إطار اجتهاد إسلامي سمح، مستنير، ومستوعب لتغيّر ظروف الحياة، في جوهر الأمر، علينا أن ندرك أنّ مجتمعاتنا لا ترغب في الافتراق عن أحكام الشّريعة الّتي انتظمت بها حياتها الخاصّة والعامّة على امتداد قرون، لكنها ترغب في اجتهاد أكثر سعة في التّعامل مع قضايا العصر، وفي ذلك لمجتمعاتنا الاستحقاق فيما تطالب، والحق في أن تقرر وفق ما تريد».
وأمّا في تكافؤ فرص التّعليم والعمل فلا يرى أيضا «إشكالا يذكر لدى المجتمعات المعاصرة بوجه عام، على هذا المحور المجتمعات العربيّة تجاري المجتمعات الأخرى في توجهها نحو تحقيق المساواة دونما تحفّظ، لدينا، مثلا، المرأة العمانيّة أخذت تسجل حضورا متقاربا طردا مع حضور الرّجل في مختلف مجالات العمل في القطاعين العام والخاص».
وقد تطرق صادق جواد في ابتداء ورقته إلى الجانب التّأريخي للمرأة، والّذي جعل من العالم المعاصر يتحرك أكثر في مناقشة قضيّة النّسويّة، وفي العالم العربي يرى «كانت قسوة مفرطة في معاملة المرأة، بقدر ما كانت استهانة بها، إهمال لها، واستغلال لضعفها من قبل الرّجل، كانت الاستهانة من قبيل تهميش دورها في المجتمع، الإهمال من حيث تحريمها من التّعليم، والإيذاء من قبيل التّعسف في معاملتها وإرضاخها لطاعة الرّجل ومسايرة رغباته، وإذ أقصيت عن التّعلم، وحجبت عنها فرص التّمرس في مهن منتجة؛ غدت فاقدة القدرة على التّكفل بنفسها في أمر المعاش، بذلك ازداد اعتمادها على الرّجل كمنفق ومنعم، وفي المقابل زادت قدرته على التّحكم في أمرها فاستغل ضعفها، وأملى عليها فروض الطّاعة والتّبعيّة، وجعلها، في أحسن الحالات الشّريك الأدنى في الحياة»، خلاصة ما سبق يتضح مدار صادق جواد حول مبدأ المساواة المترتب عليه الحقوق الثّلاثة السّالف ذكرها.