أفكار وآراء

مسارات جديدة للعنف في الخليج .. استشراف للاستدراك العاجل

كيف ينبغي أن نؤسس الدولة والمجتمع لخمسين سنة مقبلة؟ تساؤل تتوفر لدى الكثير من العوامل لطرحه الآن، ونلح على بحثه من قبل أطر وكوادر وطنية متخصصة ومستقلة، وغير منتفعة من صراعات المصالح والمنافع الناجمة عن إعادة تجديد الدولة الخليجية، وبالتالي، لا بدّ من معرفة طبيعة المجتمع الذي ستصنعه عملية إعادة تجديد الدولة في منطقة الخليج؟ وكذلك ما طبيعة علاقته بأنظمته السياسية، فالمشهد السياسي العام في كل دولة يظهر على أن بدايات مرحلة التجديد الراهنة، شبيهة ببدايات انطلاقة مرحلتها الأولى في بداية السبعينيات الذي كان النفط المؤسس للدولة والمجتمع على مدى خمسين سنة الماضية، والآن تعتمد هذه الدول في مرحلة إعادة التجديد على الضرائب ورفع الدعم التقليدي عن المجتمع، في مرحلة دولية بدأت فيه الجماعات الأيديولوجية المسلحة يتعاظم طموحاتها بعد انتصار طالبان في أفغانستان.

لقد أصبح المشهد الخليجي بكل تحدياته الداخلية والخارجية، واضحًا الآن، وهو لم يكن كذلك قبل أقل من شهر، رغم وجود مؤشرات ملموسة سابقة فالدول الست في مرحلة يتراجع فيها الحليف الأمريكي عن المسرح الدولي بصورة مدهشة، وليس بمقدور حليفتها التاريخية بريطانيا أن تكون بديلا عن واشنطن لوحدها، وعجزها عن تأمين مغادرة رعاياها والمتعاونين معها من مطار كابول، يطرح مجموعة علامات استفهام كبيرة حول نجاعة عودتها للخليج مجددا دون واشنطن.

وينبغي أن تتذكر الدول الخليجية الست دائمًا الانسحاب الأمريكي المهين من أفغانستان، في نسخة متكررة من انسحابها من فيتنام في الخمسينيات، الأهم هنا، ما نتج عنه من انتصار جماعة أيديولوجية مسلحة على حلف غربي بقيادة واشنطن بعد عشرين عاما من الحرب، وما يشكله هذا الانتصار من حالة إلهام للجماعات الأيديولوجية المسلحة في المنطقة، إذ يرفع طموحها لتكراره في جغرافيات تموقعاتها ورسالة انتصار طالبان قد وصلت الآن لقناعات الجماعات الأيديولوجية، ومفادها أن الأمريكان لا ينصاعون إلا لمن يمتلك القوة، سواء المادية أو المعنوية، لذلك تعيد هذه الجماعات استراتيجيتها بطموحات انتصار طالبان، وستستغل التداعيات الاجتماعية البنيوية الشاملة الناجمة عن تبني الدول الخليجية سياسة الضرائب وسياسات مالية غير مسبوقة تثير الاستياءات الاجتماعية، فهل ستنجح؟

ويتقاطع معها بروز تيارات فكرية إقليمية تتطاول على الثوابت الاجتماعية، وتنفث سمها بهدف إحداث تغيير في منظومة القيم الأخلاقية والعقائدية مع سماح بعض الدول بتغيير مناهجها التعليمية تحت ضغوطات دولية، فماذا نتوقع من ردة فعل المجتمعات الخليجية إذا لم تتدخل فورا الحكومات الخليجية سريعا في حماية ثوابت مجتمعاتها؟ ومثل هذه القضايا، لا يظهر تفاعلاتها فوق السطح سريعًا، وإنما تحتقن تحت السطح حتى تنضج، ولا تظهر عند العامة، وإنما عند النخب والجماعات الأيديولوجية، وقد تحرك العامة لاحقا.

ويمكن أن نضيف إكراها آخر، وهو التواجد الصهيوني في بعض العواصم الخليجية، فقد أصبح له كيانات سياسية واقتصادية وأيديولوجية في المنطقة، ويملكون المال، وإذا لم يخترقوا بقية الخليج عن طريق التطبيع، فالمداخل القانونية لهم قد أصبحت مشرعة عن طريق قوانين الإقامة الخليجية، وفرص نجاحهم في اختراق المجتمعات الخليجية تتوقف على ما ستصنعه الدول الخليجية من بيئات مواتية لها.

تظل تلكم مشروعات مسارات جديدة محتملة للعنف في المنطقة، وستكون مرتبطة بوجود بيئات حاضنة لها، ومنطلقة منها، وداعمة لأجنداتها، ولو تأملنا في واقعنا الخليجي، سنجد أنها - أي هذه البيئات - تصنع مسبقا من خلال سياسات مالية وضريبية، ومعطيات أخرى مهمة نرصدها في مجموعة مفارقات كبرى تتنج هذه البيئات داخل كل دولة خليجية، فلنتصور تلاقي تلك الإكراهات في ضوء هذه المفارقات:

المفارقة الأولى: وطأة الضرائب والرسوم ورفع دعم الحكومات عن مجتمعاتها، وانكشافها - أي المجتمعات في ظل قضايا معقدة، كالباحثين عن عمل، وتراكم إعدادهم السنوي.

المفارقة الثانية: الشعور المجتمعي باختلالات توزيع الموارد والثروات، وبأفضلية المتجنس والوافد على المواطن في العيش الكريم في مسيرة الانتقال من الدولة الريعية إلى دولة الضرائب.

المفارقة الثالثة: المشاركة السياسية في الخليج بين غيابها وتقليص مكتسباتها، وتبني سياسة الإلزام على المجتمعات.

المفارقة الثالثة: تغليب خطاب التشاؤم على خطاب التفاؤل، رغم وجود مساحات تدعو للتفاؤل.

المفارقة الرابعة: تراجع الحماية الأمنية الأمريكية للحلفاء في الخليج، لم تغير القناعات الخليجية نحو حتمية سرعة التكامل العسكري والأمني بين الدول الست.

ربما تكون الآن الصورة واضحة لما نبديه من مخاوف مرتفعة من صناعة البيئات المواتية لمشروعات العنف الجديدة في الخليج، فالمفارقات سالفة، تفرغ منظومات الولاء المتجذرة بين الشعوب وأنظمتها الخليجية، وسيصبح معها من السهولة تحويل بوصلتها باتجاه الفرد أو الجماعات أو الدول التي تملك المال، وتتمكن من احتواء الديموغرافيا.

ويلوح في الأفق الآن صراع ثلاثي أضلاعه «السياسة والهوية والأمن» وسيكون نتيجة حتمية للضغوطات المالية على المجتمعات وأزمة القيم البنيوية التي ستنتجها طبيعة المرحلة الخليجية، وغياب المشاركة السياسية، ولدينا قلق مرتفع على القيم الأصيلة التي كانت تؤطر الذهنية الاجتماعية الخليجية، فهناك أندية إعلامية وتيارات فكرية، تدعمها سفارات أجنبية تسعى إلى ترسيخ التشكيك فيما هو إسلامي، وقد تنجح مستقبلا في ظل اتساع الفراغ الوجداني عند الشباب الخليجي، وحاجتهم للوظيفة، وصناعة الفقر.

ووفقًا لروايات كثيرة، من بينها الرؤية الأمريكية، ترى أن الفقر والاستبداد والجهل تشكل التربة الخصبة لنمو الأفكار وحركات العنف، وهناك مقولة شهيرة في تاريخنا الإسلامي، تقول «لو كان الفقر رجلا لقتلته» لما للفقر من تداعيات قيمية ودينية ووطنية على الفرد والمجتمع، فلنسقط هذا التنظير على واقعنا الخليجي الآن، إلى مدى ستحافظ التحولات الاقتصادية والمالية الراهنة في الخليج على التربة التي انتجت قيم مثل التسامح ونبذ العنف؟

مع قناعتي أصلًا بأن التداعيات الاجتماعية المتتالية للانتقال الدراماتيكي السريع من الدولة الريعية إلى دولة الضرائب، لن تترك للحكومات الوصول إلى الاستدامة المالية لو خلال المدى المتوسط عن طريق الضرائب ورفع الدعم.. لذلك، ليس هناك من خيار خليجي سوى إعادة تحصين جبهاتها الاجتماعية لقطع كل الطرق لمشاريع العنف الجديدة، والانتقال السريع كذلك إلى الوحدة الاقتصادية بين الدول الست عبر استكمال مشروعاتها المؤجلة والتي من شأنها أن تعمق حالة الترابط بين الاقتصاديات الست، وتتوفر لها الآن الفرصة التاريخية لانطلاقة اقتصادية وتنموية تكاملية قوية، وبصورة غير مسبوقة.

كما تتوفر للدول الست كل الفرص الممكنة للتكامل العسكرية والأمني فيما بينها، بعد التهديدات الأمريكية الشديدة مؤخرًا للدول للخليجية أثر إبرام الرياض اتفاقية التعاون العسكري مع موسكو الأسبوع الماضي، مما بدا هذا التطور غريبا كونه يظهر للعلن بين القوة العالمية الأولى مع حلفائها في الخليج، وهنا تبدو المفارقة، فلا الحليف أصبح قادرا على الاستمرار في حماية حلفائه، ولا يترك لحلفائه الحرية في البحث عن تعدد حمايتهم دوليا، مما يصبح الهامش ضيقا أمام الخليج الآن حتى لا يتعرض لعقوبات بموجب قانون مواجهة خصوم أمريكا، لذلك الخيار الممكن والأمن سيكولوجيا هو التكامل العسكري والأمني.

وهذا لا يعني ترك خيار التعدد والتنوع الدولي للتعاون العسكري والأمني الخليجي، وإنما تأجيله مؤقتًا لكسب الوقت، ترقبًا للتداعي المتصاعد للانكفاء الأمريكي، وما يشهده الداخل الأمريكي من تفكك نسيجه الاجتماعي، ومخاطر المليشيات اليمينة الأمريكية والمسلحة التي تهدد بتفكك أمريكا كأسوأ الاحتمالات، أو على الأقل، ستنشغل بها فترة من الزمن، وهذان الاحتمالان قد تعززا بعد أحداث الكونجرس الأمريكي في عهد ترامب، والمظاهرات الأخيرة التي تشهدها الكثير من الولايات الأمريكية.

وحتى انتصار طالبان، واستيلائها على الحكم في أفغانستان، يشكل حالة إلهام كذلك للجماعات المتطرفة الأمريكية، بل كل الجماعات اليمينية في أوروبا، وستدخل واشنطن وأوروبا في أتون صراعات داخلية مع هذه الجماعات التي بعضها تتمنهج لاستلام السلطة من خلال الانتخابات المقبلة.