درس كابول .. الاحتلال أصل الداء في التطرف والفوضى
السبت / 19 / محرم / 1443 هـ - 15:04 - السبت 28 أغسطس 2021 15:04
اهتز العالم لسقوط كابول مجددا في قبضة حركة طالبان، ولهول الحدث وتطوراته المتسارعة انتشرت التعليقات والتقديرات حول تأثيره على مستقبل أفغانستان، ودول الجوار، ومصداقية دور الدول الغربية، وبوجه خاص الولايات المتحدة في حل الأزمات الدولية الساخنة. وبغض النظر عن مدى الغموض أو الوضوح الذي رافق هذه التعليقات والتقديرات أو تلك، فإن السؤال الذي فرض نفسه دون إجابات شافية، كان حول ما هو الدرس المستفاد حاضرا ومستقبلا من كل ما جرى طوال عشرين عاما مضت أريقت فيها الدماء واستنزفت الأموال بلا نتيجة سوى العودة إلى نقطة البداية مرة أخرى.
القصة بتطوراتها في الشهور القليلة الأخيرة لم تكن تحمل جديدا عما صوره المشهد وقت دخول قوات طالبان القصر الرئاسي في كابول بسهولة ودون إراقة دماء وقد كان ذلك متوقعا بل ومتفقا عليه بين الإدارة الأمريكية وحركة طالبان وفقا للاتفاق الذي تم في الدوحة بين الجانبين بعد نحو سنتين من المفاوضات. ولكن ما أحدث حالة الهلع والفوضى التي تابعها العالم على شاشات الفضائيات المختلفة يرجع إلى الاختلاف المفاجئ بالنسبة لتوقيت نقل السلطة سلميا فور الانسحاب الأمريكي، حيث وقع تقدم قوات طالبان في السيطرة على غالبية مناطق البلاد بسرعة شديدة ودون مقاومة من الجيش الأفغاني الذي دربته وأنفقت عليه الولايات المتحدة، بينما كان مقررا أن يحدث ما حدث خلال عدة أشهر، ولكن التحول على الأرض تم خلال 11 يوما فقط على عكس تقديرات الأجهزة المعنية الأمريكية. والأرجح هو أن هذا التطور السريع في الأحداث، والذي جاء على عكس ما كانت تتوقع الإدارة الأمريكية، وتسبب في حالة الهلع والقلق والارتباك التي سادت الأوساط الغربية إلى حد الشعور بالحرج الشديد وتوجيه الانتقادات اللاذعة لإدارة الرئيس بايدن الذي وجد نفسه في موقف لا يحسد عليه وسارع إلى الدفاع عن قراره وإدارة فريقه للأزمة.
وبما أن ذلك كان السبب وراء المشهد المحرج الذي عاشته الإدارة الأمريكية فور سقوط العاصمة الأفغانية مجددا في أيدى 'طالبان الجديدة' والتي توصف الآن بالمعتدلة، وبما أن الأمر في مجمله كان متفقا عليه مسبقا، فإنه ما كان مفهوما أو مقبولا أن تسارع بعض التحليلات والتعليقات في برامج الفضائيات المختلفة إلى تناول الحدث وكأنه صدمة أو مفاجأة تهدد أمن واستقرار العالم كله!. ولذلك ليس هناك من جدوى للاستغراق في تفاصيل الأسباب أو تعجل الحكم على المستقبل السياسي للبلاد، فالجميع يعلم شدة تعقيد المشهد الأفغاني ليس الآن وإنما منذ الاحتلال السوفييتي عام 1979، سواء على مستوى التركيبة المجتمعية القبلية المعقدة والتنوع المذهبي، أو التاريخ الطويل للأفغان في مواجهة القوى الأجنبية، وموقع البلاد الذي يشترك مع حدود دول عديدة محورية في شرق ووسط آسيا، وتباين مواقف الدول المجاورة والعالمية عموما من الأوضاع الداخلية هناك على مدى زمن طويل. ولا جدوى أيضا من تقبل التبريرات التي طرحتها إدارة بايدن للتسرع في قرارها دون إعداد جيد، ولا لقبول ما قاله بايدن بأن بلاده ذهبت إلى أفغانستان لهدفين محددين تم إنجازهما وهما الرد على من قاموا بضرب برجي مركز التجارة العالمية 2001 ومعاقبة طالبان على احتضانها لهم، والقضاء على تنظيم القاعدة من ناحية، وضمان عدم تعرض بلاده لهجمات إرهابية مجددا من ناحية أخرى. فقد حدث هذا فعلا ولكن منذ سنوات عديدة وما كان للولايات المتحدة أن تستمر بقواتها طالما كان هذا هو الهدف فقط.
ولكن بجانب هذين الهدفين من حيث واقع الأمور، كان هناك هدف آخر أهم وأشمل وهو القضاء على حركة طالبان ذاتها وبناء دولة جديدة بنظام سياسي مختلف تماما عن النظام الذي حكمت به الحركة البلاد عدة سنوات، وإلا ما كان للولايات المتحدة وحلفاؤها أن يبقوا على قواتهم وأن ينفقوا أكثر من 2 تريليون دولار تقريبا على بناء نظام سياسي جديد بما يشمله من بناء جيش أفغاني قوامه نحو 300 ألف جندي وإقامة مؤسسات ومنح الحريات للمرأة.
في هذا الإطار حدث فعلا تغيير في وجه الحياة الأفغانية على مدى السنوات الماضية منذ مغادرة الحركة كابول بعد الحرب الأمريكية 2001 تركز في اتجاه تحويل البلاد إلى النمط الحديث سياسيا وثقافيا. يعزز هذا أن جوزيف بوريل مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كان قد أكد قبل أيام في سياق تعليقه على الحدث الكبير (وصفه بأنه كابوس أو كارثة بالنسبة للغرب الأوروبي) أن الهدف الأول من الحرب في أفغانستان كان محاربة تنظيم القاعدة الإرهابي بعد هجمات 11 سبتمبر، ولكن الأهداف تغيرت في وقت لاحق لتصبح بناء دولة حديثة، وبعد 20 عاما يمكننا القول - حسب تعبيره - إننا نجحنا في الهدف الأول ولكن فشلنا في الهدف الثاني. وطالما هذه هي حقيقة الأمر فيما يتعلق بالتدخل الأمريكي في أفغانستان، فإنه من الصعب قبول التفسير الذي قدمه بايدن حول قرار الانسحاب في التوقيت الراهن، عندما قال إن بلاده لم تذهب إلى هناك لبناء نظام سياسي بديل لنظام طالبان، وإنما للرد على هجمات 11 سبتمبر والقضاء على القاعدة وقد نجحت في الهدفين ومن ثم لا مبرر للبقاء هناك حيث يتعين على الشعب الأفغاني بنفسه أن يقرر طريقة حياته. الأصح أن الولايات المتحدة وحلفاؤها قد فشلوا في مهمة الحرب على أفغانستان وباتت مصداقيتهم على المحك في نظر المجتمع الدولي المعاصر، حيث تغيب الثقة في دورهم لحل الأزمات الدولية مستقبلا.
إن المسكوت عنه من جانب الإدارة الأمريكية وحلفائها على ضوء ما جرى في أفغانستان هو أن الاحتلال في حد ذاته هو المصدر الرئيس سواء لإنتاج التطرف الديني أو الفوضى في الشرق الأوسط الكبير (في تقدير كثير من الخبراء يمتد ليشمل أفغانستان وباكستان وإيران). ولأن ما جرى منذ 2001 كان احتلالا من جانب الولايات المتحدة لأفغانستان وليس مجرد شن حرب، وبغض النظر عن مبرراته وأهدافه، فإن ما يجب التوقف عنده هو الانطلاق من مسألة الاحتلال في حد ذاتها لفهم الأسباب والنتائج ومن ثم إمكانية استشراف المستقبل ليس فقط لأفغانستان بل للشرق الأوسط أيضا بوجه عام. فوفقا لتجارب التاريخ في نشأة الجماعات المتطرفة التي تنطوي تحت عباءة ما يسمى اليوم بالإسلام السياسي، كانت هناك ثلاثة أسباب رئيسية وراء هذه النشأة هي إما وجود تهديد للعقيدة أو الظلم والافتقاد للعدالة أو وقوع الاحتلال، وقد تكون النشأة نتيجة أحدها أو كلها مجتمعة. وفي الحالة الأفغانية فإن الأسباب الثلاثة قد اجتمعت معا لتقدم لنا أنموذجا لهذه الجماعات هو طالبان. ودون اللجوء إلى تفاصيل، لا يخفى أن أفغانستان وما حولها واجهوا عبر التاريخ تهديدا للعقيدة الإسلامية، والحركة ذاتها تعود جذور نشأتها قديما لهذا الاعتبار، فهم خريجو مدارس تعلم الشريعة الإسلامية التي انتشرت سواء في أفغانستان أو ما يجاورها كرد فعل لوجود هذا التهديد للعقيدة، كما أن تاريخ البلاد يحفل بنضال طويل وشرس مع القوى الأجنبية التي احتلتها، وتحديدا الاستعمار البريطاني ثم الاحتلال السوفييتي الشيوعي وصولا إلى الاحتلال الأمريكي. وقد لا تقبل السياسة الأمريكية وصف ما جرى على أنه احتلال بل كان مجرد تدخل مسلح أو حرب محدودة لتحقيق أهداف لا ينطبق عليها وصف الاحتلال أو الاستعمار. ولكن بماذا يسمى تدخل واسع النطاق (ضم تحالفا دوليا) استمر عشرين عاما وأدى إلى تغيير السلطة الوطنية أيا كان نوعها وإلغاء السيادة على كامل التراب الأفغاني. ألا يعد هذا احتلالا من حيث الواقع؟!. والاحتلال بوجه عام يؤدى إلى غياب ثلاثة عناصر أساسية تتعلق بقيام الدولة الوطنية، وهي الافتقاد للسيادة كما سبق الذكر، والتكامل الجغرافي حيث تتفتت الوحدة الوطنية سياسيا وجغرافيا، والافتقاد للسلطة الوطنية. ولا غرابة في هذا الإطار أن تمتد صور المقاومة الوطنية الأفغانية للتخلص من هذا الوضع سواء خلال الاحتلال السوفييتي أو الاحتلال الأمريكي. ودون الدخول في تفاصيل انحصرت المقاومة في المجاهدين الأفغان باختلاف انتماءاتهم السياسية والعرقية والمذهبية. وقادت موازين القوى المحلية عقب الغزو الأمريكي إلى أن تنفرد طالبان بزمام المقاومة. وعندما نجحت الولايات المتحدة في إخراج 'طالبان القديمة' الشديدة التطرف من العامة تصورت أنها بذلك تمكنت من إلغاء طالبان سياسيا وأنها بالعمل على إيجاد البديل، وهو ما حدث بالفعل، يمكن أن تنطوي صفحة الأزمة دون أن تدرك أن أصل الداء يكمن في وجود الاحتلال أو هكذا ساد الفهم عند قادة طالبان وشبابهم الجدد. وأصبح البديل الذي حاول بناء النظام الجديد بالنسبة لهم سببا إضافيا لتعميق الشعور بأن الاحتلال في حد ذاته هو المشكلة الكبرى استنادا إلى أن البديل ينفذ مخطط الاحتلال!. هذا إضافة إلى مشهد الفوضى الذي عم البلاد على مدى عشرين عاما مما رجح كفة نظرة طالبان للوضع وكيفية إنهائه.
ومما يؤكد ما سبق أن الكلمات القليلة التي قالها قادة طالبان فور سقوط كابول والتي تعد مفتاحا لفهم ما جرى وما يترتب عليه، هي تهنئة الشعب الأفغاني كله بمختلف انتماءاته بالحرية والاستقلال، أي التخلص من الاحتلال. قالوا هذا بوضوح في رسالتهم إلى الشعب الأفغاني وإلى العالم أيضا، مما يعني أنه كان الهدف الأسمى والملاذ للخروج من الأزمة الدامية التي امتدت عشرين عاما. وأما ما يأتي بعد ذلك من حديث عن الوضع السياسي الجديد، فهو بالنسبة لهم يخضع لمتطلبات الواقع، وتلك قصة أخرى.
القصة بتطوراتها في الشهور القليلة الأخيرة لم تكن تحمل جديدا عما صوره المشهد وقت دخول قوات طالبان القصر الرئاسي في كابول بسهولة ودون إراقة دماء وقد كان ذلك متوقعا بل ومتفقا عليه بين الإدارة الأمريكية وحركة طالبان وفقا للاتفاق الذي تم في الدوحة بين الجانبين بعد نحو سنتين من المفاوضات. ولكن ما أحدث حالة الهلع والفوضى التي تابعها العالم على شاشات الفضائيات المختلفة يرجع إلى الاختلاف المفاجئ بالنسبة لتوقيت نقل السلطة سلميا فور الانسحاب الأمريكي، حيث وقع تقدم قوات طالبان في السيطرة على غالبية مناطق البلاد بسرعة شديدة ودون مقاومة من الجيش الأفغاني الذي دربته وأنفقت عليه الولايات المتحدة، بينما كان مقررا أن يحدث ما حدث خلال عدة أشهر، ولكن التحول على الأرض تم خلال 11 يوما فقط على عكس تقديرات الأجهزة المعنية الأمريكية. والأرجح هو أن هذا التطور السريع في الأحداث، والذي جاء على عكس ما كانت تتوقع الإدارة الأمريكية، وتسبب في حالة الهلع والقلق والارتباك التي سادت الأوساط الغربية إلى حد الشعور بالحرج الشديد وتوجيه الانتقادات اللاذعة لإدارة الرئيس بايدن الذي وجد نفسه في موقف لا يحسد عليه وسارع إلى الدفاع عن قراره وإدارة فريقه للأزمة.
وبما أن ذلك كان السبب وراء المشهد المحرج الذي عاشته الإدارة الأمريكية فور سقوط العاصمة الأفغانية مجددا في أيدى 'طالبان الجديدة' والتي توصف الآن بالمعتدلة، وبما أن الأمر في مجمله كان متفقا عليه مسبقا، فإنه ما كان مفهوما أو مقبولا أن تسارع بعض التحليلات والتعليقات في برامج الفضائيات المختلفة إلى تناول الحدث وكأنه صدمة أو مفاجأة تهدد أمن واستقرار العالم كله!. ولذلك ليس هناك من جدوى للاستغراق في تفاصيل الأسباب أو تعجل الحكم على المستقبل السياسي للبلاد، فالجميع يعلم شدة تعقيد المشهد الأفغاني ليس الآن وإنما منذ الاحتلال السوفييتي عام 1979، سواء على مستوى التركيبة المجتمعية القبلية المعقدة والتنوع المذهبي، أو التاريخ الطويل للأفغان في مواجهة القوى الأجنبية، وموقع البلاد الذي يشترك مع حدود دول عديدة محورية في شرق ووسط آسيا، وتباين مواقف الدول المجاورة والعالمية عموما من الأوضاع الداخلية هناك على مدى زمن طويل. ولا جدوى أيضا من تقبل التبريرات التي طرحتها إدارة بايدن للتسرع في قرارها دون إعداد جيد، ولا لقبول ما قاله بايدن بأن بلاده ذهبت إلى أفغانستان لهدفين محددين تم إنجازهما وهما الرد على من قاموا بضرب برجي مركز التجارة العالمية 2001 ومعاقبة طالبان على احتضانها لهم، والقضاء على تنظيم القاعدة من ناحية، وضمان عدم تعرض بلاده لهجمات إرهابية مجددا من ناحية أخرى. فقد حدث هذا فعلا ولكن منذ سنوات عديدة وما كان للولايات المتحدة أن تستمر بقواتها طالما كان هذا هو الهدف فقط.
ولكن بجانب هذين الهدفين من حيث واقع الأمور، كان هناك هدف آخر أهم وأشمل وهو القضاء على حركة طالبان ذاتها وبناء دولة جديدة بنظام سياسي مختلف تماما عن النظام الذي حكمت به الحركة البلاد عدة سنوات، وإلا ما كان للولايات المتحدة وحلفاؤها أن يبقوا على قواتهم وأن ينفقوا أكثر من 2 تريليون دولار تقريبا على بناء نظام سياسي جديد بما يشمله من بناء جيش أفغاني قوامه نحو 300 ألف جندي وإقامة مؤسسات ومنح الحريات للمرأة.
في هذا الإطار حدث فعلا تغيير في وجه الحياة الأفغانية على مدى السنوات الماضية منذ مغادرة الحركة كابول بعد الحرب الأمريكية 2001 تركز في اتجاه تحويل البلاد إلى النمط الحديث سياسيا وثقافيا. يعزز هذا أن جوزيف بوريل مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كان قد أكد قبل أيام في سياق تعليقه على الحدث الكبير (وصفه بأنه كابوس أو كارثة بالنسبة للغرب الأوروبي) أن الهدف الأول من الحرب في أفغانستان كان محاربة تنظيم القاعدة الإرهابي بعد هجمات 11 سبتمبر، ولكن الأهداف تغيرت في وقت لاحق لتصبح بناء دولة حديثة، وبعد 20 عاما يمكننا القول - حسب تعبيره - إننا نجحنا في الهدف الأول ولكن فشلنا في الهدف الثاني. وطالما هذه هي حقيقة الأمر فيما يتعلق بالتدخل الأمريكي في أفغانستان، فإنه من الصعب قبول التفسير الذي قدمه بايدن حول قرار الانسحاب في التوقيت الراهن، عندما قال إن بلاده لم تذهب إلى هناك لبناء نظام سياسي بديل لنظام طالبان، وإنما للرد على هجمات 11 سبتمبر والقضاء على القاعدة وقد نجحت في الهدفين ومن ثم لا مبرر للبقاء هناك حيث يتعين على الشعب الأفغاني بنفسه أن يقرر طريقة حياته. الأصح أن الولايات المتحدة وحلفاؤها قد فشلوا في مهمة الحرب على أفغانستان وباتت مصداقيتهم على المحك في نظر المجتمع الدولي المعاصر، حيث تغيب الثقة في دورهم لحل الأزمات الدولية مستقبلا.
إن المسكوت عنه من جانب الإدارة الأمريكية وحلفائها على ضوء ما جرى في أفغانستان هو أن الاحتلال في حد ذاته هو المصدر الرئيس سواء لإنتاج التطرف الديني أو الفوضى في الشرق الأوسط الكبير (في تقدير كثير من الخبراء يمتد ليشمل أفغانستان وباكستان وإيران). ولأن ما جرى منذ 2001 كان احتلالا من جانب الولايات المتحدة لأفغانستان وليس مجرد شن حرب، وبغض النظر عن مبرراته وأهدافه، فإن ما يجب التوقف عنده هو الانطلاق من مسألة الاحتلال في حد ذاتها لفهم الأسباب والنتائج ومن ثم إمكانية استشراف المستقبل ليس فقط لأفغانستان بل للشرق الأوسط أيضا بوجه عام. فوفقا لتجارب التاريخ في نشأة الجماعات المتطرفة التي تنطوي تحت عباءة ما يسمى اليوم بالإسلام السياسي، كانت هناك ثلاثة أسباب رئيسية وراء هذه النشأة هي إما وجود تهديد للعقيدة أو الظلم والافتقاد للعدالة أو وقوع الاحتلال، وقد تكون النشأة نتيجة أحدها أو كلها مجتمعة. وفي الحالة الأفغانية فإن الأسباب الثلاثة قد اجتمعت معا لتقدم لنا أنموذجا لهذه الجماعات هو طالبان. ودون اللجوء إلى تفاصيل، لا يخفى أن أفغانستان وما حولها واجهوا عبر التاريخ تهديدا للعقيدة الإسلامية، والحركة ذاتها تعود جذور نشأتها قديما لهذا الاعتبار، فهم خريجو مدارس تعلم الشريعة الإسلامية التي انتشرت سواء في أفغانستان أو ما يجاورها كرد فعل لوجود هذا التهديد للعقيدة، كما أن تاريخ البلاد يحفل بنضال طويل وشرس مع القوى الأجنبية التي احتلتها، وتحديدا الاستعمار البريطاني ثم الاحتلال السوفييتي الشيوعي وصولا إلى الاحتلال الأمريكي. وقد لا تقبل السياسة الأمريكية وصف ما جرى على أنه احتلال بل كان مجرد تدخل مسلح أو حرب محدودة لتحقيق أهداف لا ينطبق عليها وصف الاحتلال أو الاستعمار. ولكن بماذا يسمى تدخل واسع النطاق (ضم تحالفا دوليا) استمر عشرين عاما وأدى إلى تغيير السلطة الوطنية أيا كان نوعها وإلغاء السيادة على كامل التراب الأفغاني. ألا يعد هذا احتلالا من حيث الواقع؟!. والاحتلال بوجه عام يؤدى إلى غياب ثلاثة عناصر أساسية تتعلق بقيام الدولة الوطنية، وهي الافتقاد للسيادة كما سبق الذكر، والتكامل الجغرافي حيث تتفتت الوحدة الوطنية سياسيا وجغرافيا، والافتقاد للسلطة الوطنية. ولا غرابة في هذا الإطار أن تمتد صور المقاومة الوطنية الأفغانية للتخلص من هذا الوضع سواء خلال الاحتلال السوفييتي أو الاحتلال الأمريكي. ودون الدخول في تفاصيل انحصرت المقاومة في المجاهدين الأفغان باختلاف انتماءاتهم السياسية والعرقية والمذهبية. وقادت موازين القوى المحلية عقب الغزو الأمريكي إلى أن تنفرد طالبان بزمام المقاومة. وعندما نجحت الولايات المتحدة في إخراج 'طالبان القديمة' الشديدة التطرف من العامة تصورت أنها بذلك تمكنت من إلغاء طالبان سياسيا وأنها بالعمل على إيجاد البديل، وهو ما حدث بالفعل، يمكن أن تنطوي صفحة الأزمة دون أن تدرك أن أصل الداء يكمن في وجود الاحتلال أو هكذا ساد الفهم عند قادة طالبان وشبابهم الجدد. وأصبح البديل الذي حاول بناء النظام الجديد بالنسبة لهم سببا إضافيا لتعميق الشعور بأن الاحتلال في حد ذاته هو المشكلة الكبرى استنادا إلى أن البديل ينفذ مخطط الاحتلال!. هذا إضافة إلى مشهد الفوضى الذي عم البلاد على مدى عشرين عاما مما رجح كفة نظرة طالبان للوضع وكيفية إنهائه.
ومما يؤكد ما سبق أن الكلمات القليلة التي قالها قادة طالبان فور سقوط كابول والتي تعد مفتاحا لفهم ما جرى وما يترتب عليه، هي تهنئة الشعب الأفغاني كله بمختلف انتماءاته بالحرية والاستقلال، أي التخلص من الاحتلال. قالوا هذا بوضوح في رسالتهم إلى الشعب الأفغاني وإلى العالم أيضا، مما يعني أنه كان الهدف الأسمى والملاذ للخروج من الأزمة الدامية التي امتدت عشرين عاما. وأما ما يأتي بعد ذلك من حديث عن الوضع السياسي الجديد، فهو بالنسبة لهم يخضع لمتطلبات الواقع، وتلك قصة أخرى.