الاقتصادية

واضعو السياسات والصراع مع التضخم في بلدان الاقتصادات الصاعدة

متسوقون في أحد المتاجر في الصين. رويترز
 
متسوقون في أحد المتاجر في الصين. رويترز
أوضاع التعافي الاقتصادي في العالم لم تكن متساوية. فالوضع الجيد للصناعات التصديرية لم يتحول إلى تعاف أوسع نطاقا في سوق العمل

لقد واجهت بلدان الاقتصادات الصاعدة التوترات الاقتصادية خلال الثماني عشرة شهرا الماضية بثبات وجلَد.. لكن الانفراج يتأخر

دفع تصاعدُ أسعار الغذاء والطاقةِ التضخمَ إلى مستويات غير مريحة ففي البرازيل أسعار المستهلك أعلى بحوالي 9% من معدلها قبل عام وبما يزيد عن ضعف المعدل المستهدف من قِبل البنك المركزي

الإيكونومست- ترجمة قاسم مكي

كانت تلك شهورا قليلة وبطيئة لبلدان العالم الصاعد. فدرجات الحرارة قاسية (شهر يوليو سجل أعلى معدل للحرارة على مستوى العالم، حسب تحليل ظهر مؤخرا) والحرائق طوقت سواحل المتوسط في تركيا. وذبلت حقول القمح في روسيا. وتسارع انتشار كوفيد -19 في البلدان التي بها معدلات تطعيم متدنية. فقد حصل 24% من البرازيليين و9% من الهنود و7% من الجنوب إفريقيين فقط على الجرعة الثانية من اللقاح. وفوق كل هذا يحتدم التضخم أيضا.

دفع تصاعدُ أسعار الغذاء والطاقةِ التضخمَ إلى مستويات غير مريحة في ارتفاعها. ففي البرازيل أسعار المستهلك أعلى بحوالي 9% من معدلها قبل عام وبما يزيد عن ضعف المعدل المستهدف من قِبل البنك المركزي. وفي روسيا بلغ التضخم 6.5%. وهذا رقم أعلى كثيرا من نسبة 4% التي يستهدفها البنك المركزي. أما في الهند فالتضخم الذي كان مرتفعا في عام 2020 تجاوز نسبة 6% هذا الصيف. هذا المعدل أيضا يفوق النطاق المستهدف من البنك المركزي. لقد سلك واضعوا السياسات مسارا محفوفا بالمخاطر في رسم خططهم هذا العام. ووضَعَهم ارتفاعُ الأسعار أمام اختبار قاسِ آخر.

استأنفت الاقتصادات في الغالب نموها على الرغم من استمرار أهوال جائحة كوفيد -19. وفي أجزاء من عالم الاقتصادات الصاعدة (الناشئة) مثل الهند استعاد الإنتاج مستواه السابق للجائحة. وفي بلدان أخرى مثل روسيا من المتوقع أن يحدث ذلك بنهاية العام. وحلَّ ارتفاعُ أسعار النفط والمعادن والمنتجات الزراعية 'بركةً' على مصدِّري السلع.

لكن أوضاع التعافي لم تكن متساوية. فالوضع الجيد للصناعات التصديرية لم يتحول إلى تعاف أوسع نطاقا في سوق العمل. نعم قطاع الأعمال يزدهر في مدن التعدين بالبرازيل، على سبيل المثال. لكن معدل البطالة الذي يتراوح عند 14.6% هناك بالكاد تراجع عن ذروته التي بلغها في أثناء الجائحة.

ذلك بدوره شكل ضغطا على الحكومات لتمديد أو حتى زيادة الإنفاق على برامج الدعم الإسعافي. حقا، النمو الاقتصادي يعزز الآن الإيرادات الضريبية في العديد من البلدان ويحسِّن أوضاع المالية العامة التي تضررت من كوفيد-19. رغما عن ذلك، لا تزال عجوزات الموازنات الحكومية كبيرة.

والقرار الذي اتخذته الحكومة المركزية في الهند في يونيو بالتوسع في التوزيع المجاني للحبوب يعني أنها في الغالب ستقترض ما يزيد عن نسبة الاقتراض المتوقعة في موازنة العام المالي 2022 والتي تساوي 6.8% من الناتج المحلي الإجمالي.

والبرازيل التي اقترضت نسبة مذهلة من الناتج المحلي الإجمالي بلغت 13.4%في العام الماضي مدَّدت تحويلاتها النقدية الطارئة.

وشيلي وكولومبيا، اللتان قيدتا اقتراضهما عند نسبة متواضعة بلغت 7% من الناتج المحلي الإجمالي في العام الماضي، تخططان لاقتراض حوالى نفس النسبة أو أعلى هذا العام، بحسب معهد التمويل الدولي.

لكن عندما نجمَع تدفق المزيد من المال في الاقتصاد إلى اختلالات الإمداد ستكون النتيجة ضغوطات تضخمية.

يرى مسؤولو البنوك المركزية في البلدان الصاعدة، مثلهم في ذلك مَثَل نظرائهم في البلدان الغنية، إن ارتفاع التضخم ظاهرة مؤقتة. لكن على العكس منهم ، يشعر بعضهم بارتياح كاف يدفعهم إلى الانتظار ومراقبة الوضع. فهم لديهم تجربة أكثر قربا لنوبات من الارتفاع في مستوى التضخم. ولا يعتقدون أن التوقعات العامة بانخفاضه في بلدانهم بنفس رسوخها كما في البلدان المتقدمة. لذلك تحركوا بقوة لكبح التضخم. فالبنك المركزي البرازيلي رفع أسعار الفائدة بنقطة مئوية كاملة في 4 أغسطس فوق ثلاث زيادات بمعدل 0.75% لكل منها منذ مارس الماضي.

وأعلن البنك المركزي في روسيا عن رفع سعر الفائدة بنقطة مئوية كاملة في 23 يوليو. وكانت هذه أيضا الزيادة الرابعة له هذا العام.

ورفعت المكسيك وبيرو معدلات الفائدة في الثاني عشر من أغسطس. أما البنوك المركزية الأخرى التي لم تتحرك حتى الآن فمن المتوقع أن تتشدد في سياستها النقدية خلال الشهور القادمة.

هذا الإصرار على كبح التضخم ربما أبقى على اهتمام المستثمرين الأجانب باقتصادات هذه البلدان. ففي وقت مبكر من هذا العام عبر بعض خبراء الاقتصاد عن قلقهم من أن تسارع التعافي في أمريكا واحتمال ارتفاع أسعار الفائدة هناك قد يقود إلى خروج الأموال من بلدان الاقتصادات الصاعدة. وهذا ما سيردد أصداء ما حدث في عام 2013 عندما بدأ بنك الاحتياط الفيدرالي تطبيع سياسته النقدية بعد الأزمة المالية. (أعلن وقتها رئيس البنك المركزي الأمريكي بن برنانكه عن الاتجاه إلى التخلي التدريجي عن سياسة التيسير الكمي مما قاد إلى نوبة من الذعر وسط المستثمرين نتج عنها تراجع في قيمة سندات الخزانة الأمريكية وارتفاع في عائداتها- المترجم).

ترافق ارتفاع عائدات الخزانة الأمريكية في فبراير ومارس هذا العام مع تباطؤ في تدفقات المحافظ الاستثمارية إلى بلدان الاقتصادات الصاعدة. وهو ما كان يبدو نذيرا بما هو أسوأ في مقبل الأيام.

لكن ذلك لم يتحقق، ليس فقط لأن عائدات سندات الخزانة تراجعت عن مستوياتها المرتفعة في الربيع. ولكن لأنه أيضا يعكس إطار سياسات أكثر متانة في الاقتصادات الصاعدة ومرونة أكبر تجاه تقلبات السوق.

في العقود الأخيرة راكمت هذه البلدان احتياطيات من النقد الأجنبي وحدَّت من اعتمادها على الدَّين المقوَّم بالعملة الأجنبية. وصمد معظمها أمام ضغط قاسٍ في مارس 2020 وبأدنى قدر من الخسائر الاقتصادية عندما اندفع المستثمرون المذعورون إلى الملاذات الآمنة وتهاوت عملات الاقتصادات الصاعدة.

بالمقارنة، كانت تقلبات أسعار الصرف الأخيرة متواضعة مما حدَّ من أثر ارتفاع أسعار الواردات على الضغوطات التضخمية.

حتى الآن انخفض السعر التبادلي لعملتي الريال البرازيلي والروبية الهندية في مقابل الدولار بنسبة 2% (هبط الريال بما يقرب من الربع في العام الماضي وبحوالي 20% أثناء اضطرابات عام 2013). وربما ساهمت يقظة البنوك المركزية في الحيلولة دون إثارة ذعر المستثمرين.

لكن أسعار الفائدة المرتفعة دواء قاس محليا. فالزيادات الكبيرة تشكل خطرا على النمو. والنمو الأكثر بطئا بدوره يؤذي الخزانة العامة (الإيرادات الحكومية) فيما تزيد أسعار الفائدة المرتفعة في ذات الوقت من تكاليف اقتراض الحكومات.

ربما أن خطر وقوع أزمة وسط الاقتصادات الصاعدة الكبيرة أكثر وضوحا في البرازيل حيث ساهم فقدان الثقة في أوضاع المالية العامة في حدوث انكماش حاد خلال 2015 - 2016. وإذا استمر ارتفاع علاوة الخطر المالي التي تطالب بها الجهات المشترية للسندات قد تواجه الحكومة قريبا خيارا مرعبا بين خفض الإنفاق مع ارتفاع معدل البطالة وبين نشوب أزمة مالية ناجزة.

في الواقع في الثاني عشر من أغسطس عبر روبيرتو كامبوس نيتو، رئيس البنك المركزي البرازيلي، عن قلقه من أن الأسواق بدأت تتصور تدهورا ماليا حكوميا' يمكن أن يعرض التعافي الاقتصادي للخطر.

المتاعب الأخيرة ليس من شأنها سوى جعل مشكلة التضخم أكثر حدة وتخاطر بتمددها إلى بلدان أخرى. فالجفاف الشديد في البرازيل قلل من الطاقة الإنتاجية بمحطات التوليد الكهرومائي ورفع أسعار الكهرباء. وهو أيضا يهدد إنتاج حبوب التصدير كالقهوة مما يقود إلى خفض الإمدادات وارتفاع الأسعار. وأجبر انخفاضُ مناسيب المياه في نهر بارانا شركاتٍ مثل 'فالي للتعدين'على تقليص أحمال خام الحديد التي تنقلها المراكب المسطَّحة مما أدي إلى أوضاع شُحِّ في الأسواق العالمية.

وتفرض الحكومة الروسية ضريبة على شحنات القمح المتجهة إلى الخارج مما يساهم في ارتفاع الأسعار حول العالم.

قد تزول الحمَّى لاحقا هذا العام مع انفراج حدة الاختناقات وفتور الطلب قليلا من أمريكا والصين.

لكن هنالك خطر حدوث اختلالات جديدة كأن تشهد هذه البلدان حالات جديدة لانتشار كوفيد-19 والمزيد من الكوارث الطبيعية أو اضطراب اجتماعي قد يرتبط بارتفاع أسعار الغذاء.

أما بالنسبة لبلدان التصدير كالبرازيل فانخفاض أسعار السلع يأتي بمشاكله الخاصة به كتدهور سعر العملة والتباطؤ الاقتصادي. ويمكن أن يجعل التحول إلى الأسوأ في إحدى البلدان المستثمرين أقل استعدادا للاستثمار في بلدان أخرى.

لقد واجهت بلدان الاقتصادات الصاعدة التوترات الاقتصادية خلال الثماني عشرة شهرا الماضية بثبات وجلَد. لكن الانفراج يتأخر.