مرفأ قراءة... مختارات قصصية عالمية.. الآباء المؤسسون
السبت / 12 / محرم / 1443 هـ - 15:17 - السبت 21 أغسطس 2021 15:17
إيهاب الملاح
- 1 -
في سياق البحث عن معرفة فنية وجمالية ناضجة بفن القصة القصيرة، وأشكالها المختلفة، ثمة رافد مهم جدًّا لا يمكن إغفاله في سياق التأسيس المعرفي والجمالي بالفن، وهو قراءة نماذج مختارة بعناية واحتراف من (القصة القصيرة) تتمثل بداياته وتطوره، وتعرض لقصصٍ مختارة توضح وتكشف عن مساراته وتحولاته، بدءًا من أشكاله التقليدية الكلاسيكية، وصولًا إلى أحدث أشكال القصة الحداثية، وما بعد الحداثية أمس التجريبية'.
ولطبيعة وكثافة واختزال القصة القصيرة وشكلها الأساسي؛ من حيث هي نص سردي يُقرأ في حدود من ربع الساعة إلى 45 دقيقة أو ساعة ونصف (قد تزيد قليلًا على ذلك، وبعض التعريفات الكلاسيكية تصل بهذا الزمن إلى ساعتين وثلاث ساعات) فقد صارت ثقافة المجموعات المختارة شائعة جدًّا، ومنتشرة سواء في الأدب العالمي أو الأدب العربي.
وكل عشاق هذا الفن ورواده تعرفوا على قصص تشيخوف العظيم أحد أضلاع المثلث المكون لآباء فن القصة القصيرة في العالم أجمع من مجلد القصص القصيرة ضمن أعماله المختارة في الطبعة الشهيرة ذات الغلاف الأخضر في الأصفر (أعادت دار الشروق طبعها قبل سنوات في 4 أجزاء).
لكن ثمة مختارات أخرى ترجمها وقدّم لها المرحوم محمد القصاص بعنوان «مختارات من قصص تشيخوف»، بالإضافة إلى «مختارات من قصص جي دي موباسان»، وهما المجموعتان اللتان أعادت دار (أقلام عربية) نشرهما ضمن مشروعها لإعادة نشر كلاسيكيات الأدب العالمي، وسنلقي نظرة مركزة على هاتين المجموعتين من المختارات الرائعة؛ بالإضافة إلى التنويه بمجلد الأعمال النثرية لإدجار آلن بو.
- 2 -
يتضمن المجلد الأول قصصًا وروايات قصيرة لسيد القصة القصيرة، ورائدها الأول، الكاتب الروسي الفذ أنطون تشيكوف (أو تشيخوف كما ينطقها الروس) الذي تجاوز أثره في فن الكتابة القصصية حدود زمانه ومكانه إلى اللحظة الراهنة؛ وأزعم أنه لا يوجد كاتب قصة معتبر إلا وبه لمحة من «تشيخوف» أو روحه الفنية الخالصة، كما أنه وضع بصماتٍ لا تمحى في تاريخ الأدب العالمي عبر العصور بأعماله السردية العظيمة؛ قصصًا ورواياتٍ قصيرة ومسرحيات، رغم سنوات عمره القليلة التي عاشها (توفي عن 44 عامًا).
تعرفتُ على «تشيخوف» للمرة الأولى قبل ما يزيد على الثلاثين سنة! في الجناح الروسي العظيم بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، كانت المجلدات الأربعة لمختارات تشيخوف بترجمة د.أبو بكر يوسف بعشرة جنيهات أو أقل! طبعة فخمة أنيقة مجلدة بجاكيت ملون أخضر بإطار برتقالي والغلاف تتوسطه صورة تشيكوف الشهيرة..
«تشيخوف» أحد العظماء الثلاثة الذين أسَّسوا لفن القصة القصيرة في العالم، بجانب الفرنسي العبقري «جي دي موباسان»، والأمريكي الملهم «إدجار آلان بو». حياة تشيخوف العاصفة ومعاناته النفسية والإنسانية، تصلح لكتابة رواية عظيمة أو مسرحية استثنائية، هو نفسه كان حكاية لا تخلو من الألم؛ مثله في ذلك مثل صنوه الأمريكي إدجار آلان بو، بالضبط.
- 3 -
من أوائل من قرأتُ لهم قصصا قصيرة، من الأدباء العالميين، إدجار آلن بو (1809-1849)، قرأتُ له كتابًا صادرًا عن دار الهلال بعنوان «بيت الأشباح»؛ وهو كتاب قديم به ترجمات لبعض قصصه المرعبة، وما زلتُ مفتونًا بهذه القصص حتى اليوم، أما «بو» نفسه ككاتب قصة قصيرة، فقد عمل ناقدًا صحفيًّا وكاتبًا محترفًا طوال حياته. لعب بو خلال السنوات الأربعين التي عاشها أدوارًا متعددة في أدب العالم الحديث، وتخطت شهرته حدود الأدب الأمريكي، وتُرجمت أعماله إلى معظم لغات الأرض.
وقد اشتهر بو بقصصه القوطية المرعبة، وقدَّم عوالمه وتحليلاته القصصية الغريبة مُنطلِقًا من أرضية فن الشعر التي بدأ منها، ومركزًا على فكرته النقدية الأساسية عن «وحدة الأثر» أو «وحدة الانطباع».
وقد عرفتُ فيما بعد أنه أحد الثلاثة الكبار الذين وضعوا أساس هذا الفن، كتابة وتنظيرًا، وهو أيضًا من من أوائل من قدموا تصورًا نظريًّا للقصة القصيرة؛ مفهومًا، وخصائص جمالية، وشكلية. ولعل تعريفه الذي وضعه للقصة القصيرة أشهرها وأسيرها وأذيعها صيتًا؛ وفيه أن القصة «ينبغي أن تكون قصيرة حقًّا أي لا تستغرق أكثر من ساعتين في قراءتها، من نصف ساعة إلى ساعة أو ساعتين».
وقد سبق للمركز القومي للترجمة بالقاهرة إصدار مجلد رائع بعنوان «إدجار آلان بو... الأعمال النثرية» (الجزء الأول)؛ من ترجمة غادة الحلواني، يتضمن هذا المجلد 26 قصة قصيرة من روائع الكاتب والصحفي والشاعر الأمريكي الكبير، وكان المركز ذاته قد أصدر في 2011 مجلدًا لأشعار إدجار آلان بو تحت عنوان «وادي القلق»، وهو الذي أثر عميقًا في عددٍ لا بأس به من الأدباء، كما وضع بصمة لا تنمحي في تاريخ الأدب العالمي شعرًا ونثرًا.
القصص الست والعشرون التي تضمنها مجلد الأعمال النثرية؛ من أشهر قصص إدجار آلن بو، مثل «الرسالة المسروقة»، و«سقوط بيت أوشر»، و«حكاية شهرزاد الثانية بعد الألف»؛ وهي كلها قصص متنوعة الموضوعات، لعبت بعالمها وبأسلوبها المميز، ولغتها الخاصة، دورًا رائدًا في بلورة فن القصة القصيرة، هذا فضلًا عن مقالاته النقدية التي نظَّر فيها للنوع الأدبي الناشئ؛ نوع القصة القصيرة.
وليس في قصص «بو» ما يشير إلى حياته، فقد آمن أنه «مؤلف» و«صانع قصص»، يصنع عوالمه القصصية المتخيلة؛ مستهدفا إمتاع قرائه والتأثير فيهم على نحو معين، وليس التعبير المباشر عن آلامه وعن حياته الخاصة.
- 4 -
أما المجلد الثاني فـ «مختارات من جي دي موباسان»؛ الضلع الثاني في مثلث تأسيس وترسيخ فن القصة القصيرة في العالم كله. حين ظهر موباسان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان يعتقد أن الحياة تختلف عما ترسمه القصص المتداولة في عصره، فليس أهم ما فيها هو «الفراق» أو «الزواج»، ولكن بين طيَّاتها من الأمور العادية التي تحدث كل يوم ما قد تعكس زوايا وأضواء ومعاني جديرة بالاعتبار، ويمكن أن يصور الكاتب أفرادًا عاديين في مواقف عادية للغاية، كي يفسر الحياة تفسيرًا سليمًا، ويبرز ما فيها من معانٍ خفية، فالواقعية الطبيعية التي كان ينتمي إليها موباسان كانت ترى أن في الحياة لحظات عابرة، قد تبدو في نظر الإنسان العادي لا قيمة لها، ولكنها تحوي من المعاني والمشاعر والتأملات قدرًا كبيرًا، هكذا كانت واقعية موباسان ترى أن الحياة تتكون من لحظات «منفصلة»، «مفصلية»، ولذلك فإن مفهوم القصة عنده ينسجم مع هذه الرؤية؛ فهي تصور حدثًا معينًا محددًا، لا يهتم كاتب القصة بما قبله أو بعده.
وكان هم موباسان كله، وتركيزه الأساسي، أن يقتنص هذه اللحظة 'المفصلية' الخاصة، ويصورها أصدق تصوير وأبرعه، وأن يستشف ما تعنيه، وقد اهتدى إلى أن هذه اللحظات العابرة المفصلية لا يمكن أن تعبر عنها إلا «القصة القصيرة».
وقد كان هذا اكتشافًا خطيرًا، بل هو من أهم الاكتشافات الأدبية في العصر الحديث؛ لأن القصة القصيرة كانت تلائم مزاج موباسان تمامًا وعبقريته الفريدة، بل لأنها (أي القصة القصيرة) كانت تلائم روح العصر كله، فهي الوسيلة الطبيعية للتعبير عن الواقعية الجديدة التي لا تهتم بشيءٍ أكثر من اهتمامها باستشفاف الحقائق من التفاصيل والأمور والأشياء الصغيرة العادية، المألوفة، ولعل هذا هو السبب في انتشار القصة القصيرة منذ عصره إلى يومنا هذا.
ولهذا كله، برع موباسان في التقاط جوهر المشاعر الإنسانية، والنفاذ إلى أعمق أعماقها، وتكثيفها حد البكاء؛ قصصه نماذج بالمسطرة لما تحدث عنه النقاد فيما بعد تحت عنوان «وحدة الانطباع» أو«وحدة الأثر».. كان موباسان بارعًا كل البراعة في ترجمة شغفه بكل ما يتعلق بالنفس الإنسانية، وخباياها ودهاليزها، إلى تطبيق عملي في صورة «قصة»، ودراسة تحليلية فنية لمختلف المشاعر والأحوال الإنسانية مترجمة إلى «قصة».
يقول عنه الناقد الفرنسي الشهير إميل فاجيه: «إن عقله أشبه بقاطعةٍ ميكانيكية يوجهها دائمًا إلى تدفق الأشياء المضطرب». إنه يعشق الحياة البسيطة بكل قوتها وصراحتها ويسخر من التكلف والخداع..
بالتأكيد يعدُّ «موباسان» أستاذًا رائدًا من أساتذة كتابة هذا الفن الصعب..
- 1 -
في سياق البحث عن معرفة فنية وجمالية ناضجة بفن القصة القصيرة، وأشكالها المختلفة، ثمة رافد مهم جدًّا لا يمكن إغفاله في سياق التأسيس المعرفي والجمالي بالفن، وهو قراءة نماذج مختارة بعناية واحتراف من (القصة القصيرة) تتمثل بداياته وتطوره، وتعرض لقصصٍ مختارة توضح وتكشف عن مساراته وتحولاته، بدءًا من أشكاله التقليدية الكلاسيكية، وصولًا إلى أحدث أشكال القصة الحداثية، وما بعد الحداثية أمس التجريبية'.
ولطبيعة وكثافة واختزال القصة القصيرة وشكلها الأساسي؛ من حيث هي نص سردي يُقرأ في حدود من ربع الساعة إلى 45 دقيقة أو ساعة ونصف (قد تزيد قليلًا على ذلك، وبعض التعريفات الكلاسيكية تصل بهذا الزمن إلى ساعتين وثلاث ساعات) فقد صارت ثقافة المجموعات المختارة شائعة جدًّا، ومنتشرة سواء في الأدب العالمي أو الأدب العربي.
وكل عشاق هذا الفن ورواده تعرفوا على قصص تشيخوف العظيم أحد أضلاع المثلث المكون لآباء فن القصة القصيرة في العالم أجمع من مجلد القصص القصيرة ضمن أعماله المختارة في الطبعة الشهيرة ذات الغلاف الأخضر في الأصفر (أعادت دار الشروق طبعها قبل سنوات في 4 أجزاء).
لكن ثمة مختارات أخرى ترجمها وقدّم لها المرحوم محمد القصاص بعنوان «مختارات من قصص تشيخوف»، بالإضافة إلى «مختارات من قصص جي دي موباسان»، وهما المجموعتان اللتان أعادت دار (أقلام عربية) نشرهما ضمن مشروعها لإعادة نشر كلاسيكيات الأدب العالمي، وسنلقي نظرة مركزة على هاتين المجموعتين من المختارات الرائعة؛ بالإضافة إلى التنويه بمجلد الأعمال النثرية لإدجار آلن بو.
- 2 -
يتضمن المجلد الأول قصصًا وروايات قصيرة لسيد القصة القصيرة، ورائدها الأول، الكاتب الروسي الفذ أنطون تشيكوف (أو تشيخوف كما ينطقها الروس) الذي تجاوز أثره في فن الكتابة القصصية حدود زمانه ومكانه إلى اللحظة الراهنة؛ وأزعم أنه لا يوجد كاتب قصة معتبر إلا وبه لمحة من «تشيخوف» أو روحه الفنية الخالصة، كما أنه وضع بصماتٍ لا تمحى في تاريخ الأدب العالمي عبر العصور بأعماله السردية العظيمة؛ قصصًا ورواياتٍ قصيرة ومسرحيات، رغم سنوات عمره القليلة التي عاشها (توفي عن 44 عامًا).
تعرفتُ على «تشيخوف» للمرة الأولى قبل ما يزيد على الثلاثين سنة! في الجناح الروسي العظيم بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، كانت المجلدات الأربعة لمختارات تشيخوف بترجمة د.أبو بكر يوسف بعشرة جنيهات أو أقل! طبعة فخمة أنيقة مجلدة بجاكيت ملون أخضر بإطار برتقالي والغلاف تتوسطه صورة تشيكوف الشهيرة..
«تشيخوف» أحد العظماء الثلاثة الذين أسَّسوا لفن القصة القصيرة في العالم، بجانب الفرنسي العبقري «جي دي موباسان»، والأمريكي الملهم «إدجار آلان بو». حياة تشيخوف العاصفة ومعاناته النفسية والإنسانية، تصلح لكتابة رواية عظيمة أو مسرحية استثنائية، هو نفسه كان حكاية لا تخلو من الألم؛ مثله في ذلك مثل صنوه الأمريكي إدجار آلان بو، بالضبط.
- 3 -
من أوائل من قرأتُ لهم قصصا قصيرة، من الأدباء العالميين، إدجار آلن بو (1809-1849)، قرأتُ له كتابًا صادرًا عن دار الهلال بعنوان «بيت الأشباح»؛ وهو كتاب قديم به ترجمات لبعض قصصه المرعبة، وما زلتُ مفتونًا بهذه القصص حتى اليوم، أما «بو» نفسه ككاتب قصة قصيرة، فقد عمل ناقدًا صحفيًّا وكاتبًا محترفًا طوال حياته. لعب بو خلال السنوات الأربعين التي عاشها أدوارًا متعددة في أدب العالم الحديث، وتخطت شهرته حدود الأدب الأمريكي، وتُرجمت أعماله إلى معظم لغات الأرض.
وقد اشتهر بو بقصصه القوطية المرعبة، وقدَّم عوالمه وتحليلاته القصصية الغريبة مُنطلِقًا من أرضية فن الشعر التي بدأ منها، ومركزًا على فكرته النقدية الأساسية عن «وحدة الأثر» أو «وحدة الانطباع».
وقد عرفتُ فيما بعد أنه أحد الثلاثة الكبار الذين وضعوا أساس هذا الفن، كتابة وتنظيرًا، وهو أيضًا من من أوائل من قدموا تصورًا نظريًّا للقصة القصيرة؛ مفهومًا، وخصائص جمالية، وشكلية. ولعل تعريفه الذي وضعه للقصة القصيرة أشهرها وأسيرها وأذيعها صيتًا؛ وفيه أن القصة «ينبغي أن تكون قصيرة حقًّا أي لا تستغرق أكثر من ساعتين في قراءتها، من نصف ساعة إلى ساعة أو ساعتين».
وقد سبق للمركز القومي للترجمة بالقاهرة إصدار مجلد رائع بعنوان «إدجار آلان بو... الأعمال النثرية» (الجزء الأول)؛ من ترجمة غادة الحلواني، يتضمن هذا المجلد 26 قصة قصيرة من روائع الكاتب والصحفي والشاعر الأمريكي الكبير، وكان المركز ذاته قد أصدر في 2011 مجلدًا لأشعار إدجار آلان بو تحت عنوان «وادي القلق»، وهو الذي أثر عميقًا في عددٍ لا بأس به من الأدباء، كما وضع بصمة لا تنمحي في تاريخ الأدب العالمي شعرًا ونثرًا.
القصص الست والعشرون التي تضمنها مجلد الأعمال النثرية؛ من أشهر قصص إدجار آلن بو، مثل «الرسالة المسروقة»، و«سقوط بيت أوشر»، و«حكاية شهرزاد الثانية بعد الألف»؛ وهي كلها قصص متنوعة الموضوعات، لعبت بعالمها وبأسلوبها المميز، ولغتها الخاصة، دورًا رائدًا في بلورة فن القصة القصيرة، هذا فضلًا عن مقالاته النقدية التي نظَّر فيها للنوع الأدبي الناشئ؛ نوع القصة القصيرة.
وليس في قصص «بو» ما يشير إلى حياته، فقد آمن أنه «مؤلف» و«صانع قصص»، يصنع عوالمه القصصية المتخيلة؛ مستهدفا إمتاع قرائه والتأثير فيهم على نحو معين، وليس التعبير المباشر عن آلامه وعن حياته الخاصة.
- 4 -
أما المجلد الثاني فـ «مختارات من جي دي موباسان»؛ الضلع الثاني في مثلث تأسيس وترسيخ فن القصة القصيرة في العالم كله. حين ظهر موباسان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان يعتقد أن الحياة تختلف عما ترسمه القصص المتداولة في عصره، فليس أهم ما فيها هو «الفراق» أو «الزواج»، ولكن بين طيَّاتها من الأمور العادية التي تحدث كل يوم ما قد تعكس زوايا وأضواء ومعاني جديرة بالاعتبار، ويمكن أن يصور الكاتب أفرادًا عاديين في مواقف عادية للغاية، كي يفسر الحياة تفسيرًا سليمًا، ويبرز ما فيها من معانٍ خفية، فالواقعية الطبيعية التي كان ينتمي إليها موباسان كانت ترى أن في الحياة لحظات عابرة، قد تبدو في نظر الإنسان العادي لا قيمة لها، ولكنها تحوي من المعاني والمشاعر والتأملات قدرًا كبيرًا، هكذا كانت واقعية موباسان ترى أن الحياة تتكون من لحظات «منفصلة»، «مفصلية»، ولذلك فإن مفهوم القصة عنده ينسجم مع هذه الرؤية؛ فهي تصور حدثًا معينًا محددًا، لا يهتم كاتب القصة بما قبله أو بعده.
وكان هم موباسان كله، وتركيزه الأساسي، أن يقتنص هذه اللحظة 'المفصلية' الخاصة، ويصورها أصدق تصوير وأبرعه، وأن يستشف ما تعنيه، وقد اهتدى إلى أن هذه اللحظات العابرة المفصلية لا يمكن أن تعبر عنها إلا «القصة القصيرة».
وقد كان هذا اكتشافًا خطيرًا، بل هو من أهم الاكتشافات الأدبية في العصر الحديث؛ لأن القصة القصيرة كانت تلائم مزاج موباسان تمامًا وعبقريته الفريدة، بل لأنها (أي القصة القصيرة) كانت تلائم روح العصر كله، فهي الوسيلة الطبيعية للتعبير عن الواقعية الجديدة التي لا تهتم بشيءٍ أكثر من اهتمامها باستشفاف الحقائق من التفاصيل والأمور والأشياء الصغيرة العادية، المألوفة، ولعل هذا هو السبب في انتشار القصة القصيرة منذ عصره إلى يومنا هذا.
ولهذا كله، برع موباسان في التقاط جوهر المشاعر الإنسانية، والنفاذ إلى أعمق أعماقها، وتكثيفها حد البكاء؛ قصصه نماذج بالمسطرة لما تحدث عنه النقاد فيما بعد تحت عنوان «وحدة الانطباع» أو«وحدة الأثر».. كان موباسان بارعًا كل البراعة في ترجمة شغفه بكل ما يتعلق بالنفس الإنسانية، وخباياها ودهاليزها، إلى تطبيق عملي في صورة «قصة»، ودراسة تحليلية فنية لمختلف المشاعر والأحوال الإنسانية مترجمة إلى «قصة».
يقول عنه الناقد الفرنسي الشهير إميل فاجيه: «إن عقله أشبه بقاطعةٍ ميكانيكية يوجهها دائمًا إلى تدفق الأشياء المضطرب». إنه يعشق الحياة البسيطة بكل قوتها وصراحتها ويسخر من التكلف والخداع..
بالتأكيد يعدُّ «موباسان» أستاذًا رائدًا من أساتذة كتابة هذا الفن الصعب..