المحنة العربية التى لم تتحول إلى منحة برغم مرور السنين!
السبت / 5 / محرم / 1443 هـ - 19:39 - السبت 14 أغسطس 2021 19:39
يقول التاريخ إن الشعوب التي حققت نهضة كبرى تعلمت من المحن الكثير من العبر بما جعلها تحقق هذه المكانة, بينما من لم تتعلم تعثرت خطواتها إن لم تكن عادت إلى الوراء. ومنطقتنا العربية أقرب إلى النوع الثاني للأسف, حتى بات يطلق عليها أمة الفرص الضائعة. وبما أننا في أجواء الذكرى الواحدة والثلاثين للغزو العراقي للكويت, فإن المراجعة والمصارحة بالحقائق ضرورية, حيث التأمل والتدبر لما حدث كواحدة من المحن التي مرت على منطقتنا العربية, وكانت بالمقابل فرصة للتعلم وتحويلها إلى منحة تجسد التعافي من الأخطاء والانطلاق إلى التقدم, ولكن برغم مرور زمن طويل كان كافيا لقنص هذه الفرصة, لم يحدث التعافي.
ليست هذه السطور بكائية مثل كل البكائيات العربية وما أكثرها, ولا مشهدا جديدا من مشاهد جلد الذات, ولكنها مراجعة لاكتشاف سلسلة الأخطاء التي تم التساهل معها وتركها تتراكم حتى أصبح ما تعاني منه اليوم منطقتنا العربية في عديد المجالات مرتبط ارتباطا وثيقا بما جرى في الثاني من أغسطس العام 1990. ولعل المراجعة تكون مناسبة للإفاقة من الغيبوبة السياسية إن جاز التعبير, ووضع الحقائق أمام الأجيال الشابة التي لم تعش تلك الفترة السوداء للاستفادة منها ومن ثم الانطلاق إلى تصحيح المسار.
لا نريد إعادة عرض القصة أو نكأ الجراح فليس هذا هو الهدف, وإنما ربط الواقع المؤلم المعاصر بذلك التاريخ للتدليل على أن تلك المحنة كان من الممكن أن تتحول إلى منحة فلا نعاني مما نعاني منه اليوم, لو فعلت منطقتنا العربية ما فعلته شعوب أخرى واجهت محنا أصعب ولكنها سارعت بوضع الخطوات التي لا تعيدها مجددا إليها, بل دفعتها للانطلاق بسرعة الصاروخ لإحراز التقدم والأمن والاستقرار, وما جرى لأوروبا في الحربين العالميتين الأولى (1914- 1919) والثانية (1939- 1945) هو خير مثال على حسن التدبر وتحويل المحن إلى منح. وبالعودة إلى موضوعنا فإنه من غير المفيد لصانع القرار العربي ولا للشعوب العربية كافة وضع الرؤوس في الرمال حتى يقال إن كل الأمور طيبة ولا داعي لتثبيط الهمم, وإنما المفيد هو التأكيد على المشهد العربي العام المعاصر حيث الفرقة والضعف ما هو إلا نتيجة لتعمد التغطية على الأخطاء وعدم المكاشفة والمصارحة, وفي هذا الإطار تكون ذكرى الغزو العراقي للكويت حاضرة بامتياز لمن أراد الخير لأمتنا العربية. وبهذا الصدد يمكن الوقوف عند بعض الحقائق التي تعين على تغيير المشهد العربي إلى الأفضل.
لقد وجه الغزو العراقي للكويت ضربة موجعة للتوجه العربي القومي أو لفكرة القومية العربية من الأساس. فبعد أن ظهرت هذه الفكرة أواخر القرن التاسع عشر كحركة ضد الحكم العثماني للمنطقة العربية, وتطورت في المؤتمر العربي الأول بباريس 1913 إلى أن راجت وازدهرت في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين, إذا بهذا الغزو يضربها في الصميم لأنه كان اجتياحا من دولة عربية لأراضي دولة عربية أخرى ضد كل تقاليد وقيم هذه الدعوة.
ومع أن هذه الدعوة تعرضت لضربات سابقة هزت الإيمان بها كالانفصال بين مصر وسوريا وهزيمة 1967 التي أظهرت ضعف الفكرة في مواجهة إسرائيل, إضافة للانشقاقات التي دبت بين التيارات السياسية التي انضوت لفترة من الزمن تحت هذه الراية, إلا أن الغزو كان أشد قسوة في تراجع العمل بها لأنه ضربها في صميم بنائها الفكري. وبرغم التصدي العربي لهذا الغزو ورفضه لكل مبرراته حفاظا على الحد الأدنى من التضامن العربي, إلا أنه أحدث شرخا في جدوى العمل العربي المشترك منذ ذلك الوقت, حيث تراجعت الثقة بين الدول العربية في بناء مواقف مشتركة لمواجهة التحديات داخلية كانت أم خارجية. وليس بجديد في هذا الإطار القول بأن العرب انقسموا فعليا في تحديد مواقفهم من هذا الحدث الجلل, مما عزز تراجع الثقة المتبادلة في العلاقات العربية - العربية.
ولنا أن نتذكر ما ظهر عقب انتهاء الغزو باسترجاع الكويت لسيادتها فيما يتعلق بطرح فكرة المصارحة قبل المصالحة لاستعادة اللحمة العربية, وواقعيا لم تجد دعوة المصارحة استجابة تساعد في تصحيح الأوضاع. وبناء عليه أصبحت هناك تحفظات جمة منذ ذلك الوقت من داخل البيت العربي فيما يتعلق باستدعاء عناصر القوة العربية لمواجهة ما استجد من تحديات وما أكثرها.
كما ارتبط الغزو ببداية التدخل الخارجي في الشأن الداخلي العربي, وفقا لما هو معروف للكافة من قيام الولايات المتحدة مدعومة بدول غربية أخرى بشن حرب شرسة على العراق أدت إلى سقوط نظام صدام حسين. ومن تداعيات هذا التدخل اتساع رغبة الغرب عمقا وشمولا لتغيير الأنظمة العربية في المنطقة واعتبار ما جرى في العراق نموذجا يجب تعميمه في المنطقة, وظهر هذا جليا كما هو معروف للكافة أيضا في تبنى فكرة الشرق الأوسط الجديد منذ 2005 وامتد الضغط في نفس الهدف خلال ما جرى فيما يسمى بثورات الربيع العربي العام 2011.
توجها كهذا, أي التدخل الصريح حتى لو اتخذ شكل الحرب لم يكن قائما قبل 1990, ولكنه أصبح عاديا أو ليس مفاجئا منذ ذلك الوقت. ومن التداعيات الأخرى بداية ظهور وانتشار الجماعات المتطرفة في المنطقة ممثلة في القاعدة أو التنظيمات الجهادية الأخرى وصولا إلى تنظيم 'داعش'. ومن الصحيح أن وجود هذه الجماعات سبق الغزو بسنوات قليلة حيث الحرب في أفغانستان, إلا أنه وجد مكانته الأساسية خارج المنطقة العربية, وبعد الغزو أوجد لنفسه مواقع داخل هذه المنطقة بدعوى التصدي للوجود الغربي من جهة والعمل على إسقاط الأنظمة بمبرر أنها حليفة للغرب. ومن هذه التداعيات أيضا تشجيع التيارات الإسلامية المسيسة أن تكون بديلا للنظم القائمة, لأن ظروف الغزو وهشاشة النظام العراقي, وانكشاف ضعف فكرة القومية العربية, وما ترتب على الغزو من تدخل خارجي صريح, طرح على السطح إمكانية وجود البديل من داخل ما يسمى بالإسلام السياسي الذي ينتهج طريق الصندوق الانتخابي وليس العنف.
ففي ديسمبر 1991 أي بعد عام تقريبا من تحرير الكويت, كانت الجزائر على موعد مع إجراء الانتخابات البرلمانية التي حققت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ فوزا كاسحا ضد الحزب الحاكم (جبهة التحرير) وذلك في الجولة الأولى, وسريعا رد الجيش بالتدخل وألغى النتائج ليبدأ الصراع المسلح بين الجبهة وأنصارها والجيش وتعيش البلاد عشر سنوات تسمى بالعشرية السوداء.
ومنذ ذلك الوقت تعززت لدى المؤمنين بتوجه 'الإسلام السياسي' فكرة المظلومية أي أنهم ضحايا القمع, هذا بجانب اتساع نشاط من اتخذوا العنف منهجا لهم. وهكذا نشأت مشكلة داخلية في عديد البلدان العربية تتعلق بكيفية التعامل مع هذه القوى.
ولم تسلم القضية الفلسطينية من التداعيات السلبية لهذا الغزو برغم كل الخطوات التي ظهرت تباعا في الأفق في أعقابه لحل القضية. فمن اللافت أن الولايات المتحدة التي قامت بالحرب على العراق قررت عقب تحرير الكويت أن تتحرك بقوة للعمل على إيجاد حل سلمي للقضية الفلسطينية استنادا إلى ما أعلنته بأنها راغبة في تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط واقتناعها بأن الصراع العربي الإسرائيلي هو جوهر كل الأزمات التي تعرضت لها المنطقة منذ حرب 1948. وظهر هذا التحرك في عقد مؤتمر مدريد 1991 لإيجاد حل سلمي عبر المفاوضات المباشرة, وقد دعمت العواصم الأوروبية هذا التوجه. ومع أن الفلسطينيين شاركوا آنذاك بأفراد داخل الوفد الأردني, إلا أن ذلك كان مؤشرا على وجود تغير في الموقف الأمريكي يعترف بالطرف الفلسطيني, وأيضا ترحيب من هذا الطرف بالفرصة حتى لو لم تكن كما ينبغي. وبرغم كل ما شهده المسار الذي تم بناؤه على مقررات مؤتمر مدريد من جهود سياسية من الجميع للتوصل إلى حل يؤدي إلى قيام الدولة الفلسطينية, إلا أنها لم تنجح حتى الآن في التوصل إلى هذا الهدف. وقد لا يرى البعض مبررا للربط بين الغزو العراقى للكويت وما آلت إليه القضية من خسائر. ولكن بقدر قليل من التأمل واستنادا لبعض الحقائق يمكن البرهنة على صحة هذا الربط. فمما يجب تذكره أن الطرف الفلسطيني بقيادة أبو عمار اتخذ موقف داعما للعراق في بداية الغزو, الأمر الذي شكل صدمة للجانب الكويتي الذي ساعد الفلسطينيين كثيرا على مدى زمني طويل. ولا شك أن هذا الموقف ترك أثره السيئ ليس فقط على الموقف الكويتي لاحقا فيما يتعلق بدعم جهود السلام بعد مؤتمر مدريد, وإنما على مواقف دول عربية أخرى, مما جعل المفاوضات محصورة بدرجة كبيرة بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي, وجعل الدعم العربي يأخذ شكل المساعدة غير المباشرة أو بمعنى أدق ترك القضية لهذين الطرفين.
وإذا أخذنا في الاعتبار تراجع الثقة بين الأطراف العربية نتيجة للدرس القاسي الناتج عن الغزو, فإن هذا يؤكد اتجاه التحفظ من الجانب العربي, خاصة أن التجارب أكدت أن الفلسطينيين ليسوا على قلب رجل واحد, وغالبا ما يتراجعوا عن تحركات عربية لدعم القضية, ومسألة الانقسام الفلسطيني واضحة للعيان منذ سنوات.
ومن جهة أخرى جاء مؤتمر مدريد بعد ظهور مؤثر لحركة حماس ذات التوجه الإسلامي. وقد تعززت مكانتها وسط الساحة الفلسطينية عقب الغزو العراقي للكويت بوصفها الأحق والأجدر بمواجهة إسرائيل, والحركة لا تنكر عداءها للولايات المتحدة استنادا إلى دعمها القوى لإسرائيل, ومن جهتها فإنها كانت في صف الأطراف التي أيدت الغزو وقت حدوثه, مثلها مثل القوى ذات التوجه الإسلامي السياسي.
وهكذا فإن ما يجري اليوم ما هو إلا جانب من حصاد ما ترتب على هذه الكارثة القومية أو بمعنى آخر لم تتحول المحنة إلى منحة.
** ينشر بالترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة سعادة الأستاذ
ليست هذه السطور بكائية مثل كل البكائيات العربية وما أكثرها, ولا مشهدا جديدا من مشاهد جلد الذات, ولكنها مراجعة لاكتشاف سلسلة الأخطاء التي تم التساهل معها وتركها تتراكم حتى أصبح ما تعاني منه اليوم منطقتنا العربية في عديد المجالات مرتبط ارتباطا وثيقا بما جرى في الثاني من أغسطس العام 1990. ولعل المراجعة تكون مناسبة للإفاقة من الغيبوبة السياسية إن جاز التعبير, ووضع الحقائق أمام الأجيال الشابة التي لم تعش تلك الفترة السوداء للاستفادة منها ومن ثم الانطلاق إلى تصحيح المسار.
لا نريد إعادة عرض القصة أو نكأ الجراح فليس هذا هو الهدف, وإنما ربط الواقع المؤلم المعاصر بذلك التاريخ للتدليل على أن تلك المحنة كان من الممكن أن تتحول إلى منحة فلا نعاني مما نعاني منه اليوم, لو فعلت منطقتنا العربية ما فعلته شعوب أخرى واجهت محنا أصعب ولكنها سارعت بوضع الخطوات التي لا تعيدها مجددا إليها, بل دفعتها للانطلاق بسرعة الصاروخ لإحراز التقدم والأمن والاستقرار, وما جرى لأوروبا في الحربين العالميتين الأولى (1914- 1919) والثانية (1939- 1945) هو خير مثال على حسن التدبر وتحويل المحن إلى منح. وبالعودة إلى موضوعنا فإنه من غير المفيد لصانع القرار العربي ولا للشعوب العربية كافة وضع الرؤوس في الرمال حتى يقال إن كل الأمور طيبة ولا داعي لتثبيط الهمم, وإنما المفيد هو التأكيد على المشهد العربي العام المعاصر حيث الفرقة والضعف ما هو إلا نتيجة لتعمد التغطية على الأخطاء وعدم المكاشفة والمصارحة, وفي هذا الإطار تكون ذكرى الغزو العراقي للكويت حاضرة بامتياز لمن أراد الخير لأمتنا العربية. وبهذا الصدد يمكن الوقوف عند بعض الحقائق التي تعين على تغيير المشهد العربي إلى الأفضل.
لقد وجه الغزو العراقي للكويت ضربة موجعة للتوجه العربي القومي أو لفكرة القومية العربية من الأساس. فبعد أن ظهرت هذه الفكرة أواخر القرن التاسع عشر كحركة ضد الحكم العثماني للمنطقة العربية, وتطورت في المؤتمر العربي الأول بباريس 1913 إلى أن راجت وازدهرت في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين, إذا بهذا الغزو يضربها في الصميم لأنه كان اجتياحا من دولة عربية لأراضي دولة عربية أخرى ضد كل تقاليد وقيم هذه الدعوة.
ومع أن هذه الدعوة تعرضت لضربات سابقة هزت الإيمان بها كالانفصال بين مصر وسوريا وهزيمة 1967 التي أظهرت ضعف الفكرة في مواجهة إسرائيل, إضافة للانشقاقات التي دبت بين التيارات السياسية التي انضوت لفترة من الزمن تحت هذه الراية, إلا أن الغزو كان أشد قسوة في تراجع العمل بها لأنه ضربها في صميم بنائها الفكري. وبرغم التصدي العربي لهذا الغزو ورفضه لكل مبرراته حفاظا على الحد الأدنى من التضامن العربي, إلا أنه أحدث شرخا في جدوى العمل العربي المشترك منذ ذلك الوقت, حيث تراجعت الثقة بين الدول العربية في بناء مواقف مشتركة لمواجهة التحديات داخلية كانت أم خارجية. وليس بجديد في هذا الإطار القول بأن العرب انقسموا فعليا في تحديد مواقفهم من هذا الحدث الجلل, مما عزز تراجع الثقة المتبادلة في العلاقات العربية - العربية.
ولنا أن نتذكر ما ظهر عقب انتهاء الغزو باسترجاع الكويت لسيادتها فيما يتعلق بطرح فكرة المصارحة قبل المصالحة لاستعادة اللحمة العربية, وواقعيا لم تجد دعوة المصارحة استجابة تساعد في تصحيح الأوضاع. وبناء عليه أصبحت هناك تحفظات جمة منذ ذلك الوقت من داخل البيت العربي فيما يتعلق باستدعاء عناصر القوة العربية لمواجهة ما استجد من تحديات وما أكثرها.
كما ارتبط الغزو ببداية التدخل الخارجي في الشأن الداخلي العربي, وفقا لما هو معروف للكافة من قيام الولايات المتحدة مدعومة بدول غربية أخرى بشن حرب شرسة على العراق أدت إلى سقوط نظام صدام حسين. ومن تداعيات هذا التدخل اتساع رغبة الغرب عمقا وشمولا لتغيير الأنظمة العربية في المنطقة واعتبار ما جرى في العراق نموذجا يجب تعميمه في المنطقة, وظهر هذا جليا كما هو معروف للكافة أيضا في تبنى فكرة الشرق الأوسط الجديد منذ 2005 وامتد الضغط في نفس الهدف خلال ما جرى فيما يسمى بثورات الربيع العربي العام 2011.
توجها كهذا, أي التدخل الصريح حتى لو اتخذ شكل الحرب لم يكن قائما قبل 1990, ولكنه أصبح عاديا أو ليس مفاجئا منذ ذلك الوقت. ومن التداعيات الأخرى بداية ظهور وانتشار الجماعات المتطرفة في المنطقة ممثلة في القاعدة أو التنظيمات الجهادية الأخرى وصولا إلى تنظيم 'داعش'. ومن الصحيح أن وجود هذه الجماعات سبق الغزو بسنوات قليلة حيث الحرب في أفغانستان, إلا أنه وجد مكانته الأساسية خارج المنطقة العربية, وبعد الغزو أوجد لنفسه مواقع داخل هذه المنطقة بدعوى التصدي للوجود الغربي من جهة والعمل على إسقاط الأنظمة بمبرر أنها حليفة للغرب. ومن هذه التداعيات أيضا تشجيع التيارات الإسلامية المسيسة أن تكون بديلا للنظم القائمة, لأن ظروف الغزو وهشاشة النظام العراقي, وانكشاف ضعف فكرة القومية العربية, وما ترتب على الغزو من تدخل خارجي صريح, طرح على السطح إمكانية وجود البديل من داخل ما يسمى بالإسلام السياسي الذي ينتهج طريق الصندوق الانتخابي وليس العنف.
ففي ديسمبر 1991 أي بعد عام تقريبا من تحرير الكويت, كانت الجزائر على موعد مع إجراء الانتخابات البرلمانية التي حققت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ فوزا كاسحا ضد الحزب الحاكم (جبهة التحرير) وذلك في الجولة الأولى, وسريعا رد الجيش بالتدخل وألغى النتائج ليبدأ الصراع المسلح بين الجبهة وأنصارها والجيش وتعيش البلاد عشر سنوات تسمى بالعشرية السوداء.
ومنذ ذلك الوقت تعززت لدى المؤمنين بتوجه 'الإسلام السياسي' فكرة المظلومية أي أنهم ضحايا القمع, هذا بجانب اتساع نشاط من اتخذوا العنف منهجا لهم. وهكذا نشأت مشكلة داخلية في عديد البلدان العربية تتعلق بكيفية التعامل مع هذه القوى.
ولم تسلم القضية الفلسطينية من التداعيات السلبية لهذا الغزو برغم كل الخطوات التي ظهرت تباعا في الأفق في أعقابه لحل القضية. فمن اللافت أن الولايات المتحدة التي قامت بالحرب على العراق قررت عقب تحرير الكويت أن تتحرك بقوة للعمل على إيجاد حل سلمي للقضية الفلسطينية استنادا إلى ما أعلنته بأنها راغبة في تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط واقتناعها بأن الصراع العربي الإسرائيلي هو جوهر كل الأزمات التي تعرضت لها المنطقة منذ حرب 1948. وظهر هذا التحرك في عقد مؤتمر مدريد 1991 لإيجاد حل سلمي عبر المفاوضات المباشرة, وقد دعمت العواصم الأوروبية هذا التوجه. ومع أن الفلسطينيين شاركوا آنذاك بأفراد داخل الوفد الأردني, إلا أن ذلك كان مؤشرا على وجود تغير في الموقف الأمريكي يعترف بالطرف الفلسطيني, وأيضا ترحيب من هذا الطرف بالفرصة حتى لو لم تكن كما ينبغي. وبرغم كل ما شهده المسار الذي تم بناؤه على مقررات مؤتمر مدريد من جهود سياسية من الجميع للتوصل إلى حل يؤدي إلى قيام الدولة الفلسطينية, إلا أنها لم تنجح حتى الآن في التوصل إلى هذا الهدف. وقد لا يرى البعض مبررا للربط بين الغزو العراقى للكويت وما آلت إليه القضية من خسائر. ولكن بقدر قليل من التأمل واستنادا لبعض الحقائق يمكن البرهنة على صحة هذا الربط. فمما يجب تذكره أن الطرف الفلسطيني بقيادة أبو عمار اتخذ موقف داعما للعراق في بداية الغزو, الأمر الذي شكل صدمة للجانب الكويتي الذي ساعد الفلسطينيين كثيرا على مدى زمني طويل. ولا شك أن هذا الموقف ترك أثره السيئ ليس فقط على الموقف الكويتي لاحقا فيما يتعلق بدعم جهود السلام بعد مؤتمر مدريد, وإنما على مواقف دول عربية أخرى, مما جعل المفاوضات محصورة بدرجة كبيرة بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي, وجعل الدعم العربي يأخذ شكل المساعدة غير المباشرة أو بمعنى أدق ترك القضية لهذين الطرفين.
وإذا أخذنا في الاعتبار تراجع الثقة بين الأطراف العربية نتيجة للدرس القاسي الناتج عن الغزو, فإن هذا يؤكد اتجاه التحفظ من الجانب العربي, خاصة أن التجارب أكدت أن الفلسطينيين ليسوا على قلب رجل واحد, وغالبا ما يتراجعوا عن تحركات عربية لدعم القضية, ومسألة الانقسام الفلسطيني واضحة للعيان منذ سنوات.
ومن جهة أخرى جاء مؤتمر مدريد بعد ظهور مؤثر لحركة حماس ذات التوجه الإسلامي. وقد تعززت مكانتها وسط الساحة الفلسطينية عقب الغزو العراقي للكويت بوصفها الأحق والأجدر بمواجهة إسرائيل, والحركة لا تنكر عداءها للولايات المتحدة استنادا إلى دعمها القوى لإسرائيل, ومن جهتها فإنها كانت في صف الأطراف التي أيدت الغزو وقت حدوثه, مثلها مثل القوى ذات التوجه الإسلامي السياسي.
وهكذا فإن ما يجري اليوم ما هو إلا جانب من حصاد ما ترتب على هذه الكارثة القومية أو بمعنى آخر لم تتحول المحنة إلى منحة.
** ينشر بالترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة سعادة الأستاذ