ثقافة

أقدم تجار سوق بهلا .. في بورتريهات قصيرة

آخر الباقين

 
بلقطة علوية لولاية بهلا في الساعة السادسة صباحا، وشاب يفتح بابا حديديا يبدو لدكان قديم ثم يفتح بابًا خشبيًا آخر قبل أن يغرق المشهد في الظلمة، يبدأ فيلم (آخر الباقين) سرد الحكاية.

حكاية سوق بهلا، وإن كان السوق قد أخذ ظاهريا دور البطولة، فإن الفيلم صوّر بورتريهات تغلبت على المكان وتسيّدت الحكاية، فصارت الأساس فيها، وما كان السوق سوقًا لو لم تكن حكايات أولئك الأشخاص الذين تجاوزوا السبعين والستين من العمر وبقوا مرابطين في سوق قديم وحيد ومهجور.

تقسم الفيلم أربعة مداخل تمهيدية، كل مدخل يفتتح باقتباس، ولكن الحقيقة هي أن كل مدخل كان يحمل سؤالا خلفه.

يقول ماركيز في المدخل الأول: «السن ليس ما بلغه أحدنا، بل ما يشعر به». فيأتيك عبيد الشوكري في دراجة مسترجعًا أصل حكايته التي روتها الزراعة: «ابن فلاح ابن فلاح ابن فلاح».

ثم يأتي بعده حمد الشريقي في «بيكاب» بيضاء داخلًا السوق الذي عمل فيه خمسة وستين عاما، وهكذا في ومضات يأتي خلف المحروقي فاتحا باب دكانه الخشبي كما تعود أن يفعل منذ ثمانية وأربعين عاما، ثم يرفع حمد المفرجي بابه إلى الأعلى كما جرت العادة منذ ثلاثة وسبعين عاما، وفي ومضة أخيرة يظهر عبدالله المحروقي وهو أكبرهم سنا، ماشيا وسط سكة السوق الضيقة بنظارة سوداء وكنزة صوفية.

بهذا الترتيب -من أصغرهم عمرا إلى أكبرهم- عرّف الفيلم بأبطال الحكاية، ولكن لدى الدخول في التفاصيل والبدايات، بدأ الفيلم عكسيا بأقدمهم وبآخر من عُرّف به.

فسرد المحروقي البداية والرحلة والمسير الذي تجاوز سبعين عاما في السوق، وقصة جلبه للبضاعة، ثم الشوكري الذي تجاوز ستين عاما متحدثا عن مكوثه في زنجبار قبل أن يدخل السوق، وتلاه خلف المحروقي ساردا قصة سفره إلى الكويت، ثم انتهى حديث البدايات عند المفرجي الذي لازم السوق أربعة وأربعين عاما في دكانه الصغير، قبل أن تغوص الكاميرا ببطء داخل السوق ووجهها للخارج مصطحبة المشاهد عند تاجر آخر، ولكن في السوق المرمم حديثا هذه المرة.

يعد حارب الشكيلي القهوة على الجمر متحدثا عن السوق الذي يجزم أن عمره من عمر بناء حصن بهلا، ولكنه رغم ذلك -في إشارة حزينة- هُجر في الثمانينيات واندثر، ثم أضيف إلى قائمة التراث العالمي، ورمم منذ تسع سنوات.

في المدخل الثاني الذي كان عنوانه السعادة بوصفها بسيطة جدا، تحدث التجار عما سلب سعادتهم في السوق: «تعبان بارد لحد النهاية»، «الآن ضعفت التجارة وتوزعت»، «السوق تقسم»، «تشوفوا أوادم؟؟ سمعتوا شي نداء؟؟»

أحاديث جرتها ذكريات المنتجات المحلية التي كانوا يبيعونها، ذكريات دكاكينهم التي كانت تبيع كل شيء وأي شيء «كل هذا نبيعه، ما شي ما نبيعه».

يحمل المدخل الثالث قولا من أقوال السلطان الراحل قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه: «العمل قيمة نبيلة وواجب مقدس يحتمه الإيمان»، فكان السؤال المباغت: لماذا هم باقون هنا رغم كل هذا الهدوء الموحش؟ ولا من ضجة بيع أو شراء ولا أرباح في أيام كثيرة قالوا: «السوق بيتنا»، «إذا صبرت على شيء فالزمه»، «أجي السوق حتى لو ما أبيع شي».

بعد ثلاثة مداخل سيطر فيها الحزن الشفيف، كانت مفاجأة المدخل الرابع (الضحك أخيرا)، على خلفية سؤال: «ما شي معكم تقاعد؟»، أجابوا منفرجي الأسارير: «أتقاعد عن مصدر رزقي ليش؟!»، «ما شي تقاعد ما دام قادرين نجي السوق»، «ما يهجيني عن السوق»، وضرب أحدهم مثلا بأبي علي الزائر الدائم للسوق الذي اقتنص فريق العمل فيما يبدو وجوده ليصور قفلة رائعة لفيلم الوثائقي هذا، فأبو علي لا يبيع شيئا، توصله سيارة بشكل يومي إلى السوق ويبقى فيه نصف ساعة و«يخوز عنه الهم».

(آخر الباقين)ّ فيلم وثائقي من إنتاج خط للأفلام عام ٢٠٢١، وهو من إخراج علي البيماني، وإنتاج عبدالرحمن التميمي، وفكرة وسيناريو حمد القصابي وعلي البيماني وعبدالرحمن التميمي.