أفكار وآراء

الشَّفُّ العماني.. تحالفٌ خارج النسب والدين

النظام الاجتماعي.. هو مجموعة من الظواهر المؤتلفة والمتنافسة، التي تتناوبه وتتداخل فيه، ولكي نقف على طبيعة المجتمع فمن المهم دراسة هذه الظواهر. والمجتمع العماني.. كغيره يتكوّن من أنظمة؛ منها النظام الاجتماعي. والمقال.. يحاول أن يضع مدخلاً لدراسة «الشَّفّ» وهو من أهم ظواهر الاجتماع العماني، التي شكّلته لآلاف السنين، وقد أثّر على بنيته العميقة؛ بجوانبها القبلية والاقتصادية والسياسية والدينية. إلا أنه لم يحظَ بالدراسات اللازمة، بل أن كثيراً من الشباب العماني لا يعرفه، رغم أنه داخل في تكويننا عبر تشكيله للمجتمع. والباحث الوحيد -فيما أعرف- من سلط الضوء على الشَّفِّ؛ هو جون ولكنسون في كتابه «الإمامة في عمان»، ومع محاولته لدراسة تأثيره سياسياً وقبلياً، ونوعاً ما اقتصادياً، إلا أن تطبيقات دراسته جاءت على أحداث متأخرة، فركزت على التحالفات التي انبثقت عن الحزبين الهناوي والغافري؛ اللذين بدأت جذورهما في منتصف القرن الثاني عشر الهجري؛ الثامن عشر الميلادي -ليمتد تأثيرهما على كل عمان- مع أن هذه الظاهرة قديمة جداً، ولعمقها جديرة بالدراسة والتتبع والتحليل.

الشَّفّ.. تحالف قبلي، قد يكون بينياً؛ أي بين قبيلتين لأجل تبادل المصالح بينهما، والدفاع عن بعضهما؛ فيما إذا تعرضت إحداهما إلى اعتداء من قبائل أخرى. وقد يكون قُطرياً؛ أي في كل القُطر، عندما تنقسم عمان إلى حزبين كبيرين، كما حصل بعد فتنة الإمام الصلت بن مالك الخروصي (ت:273هـ)؛ حيث انقسمت القبائل إلى يمانية ونزارية متصارعة، نشبت بينهم حروب ضروس، وكما حصل أثناء النزاعات التي أعقبت إمامة سلطان بن سيف اليعربي الثاني (ت:1131هـ)، فظهر الحزبان الهناوي والغافري؛ وهما لا علاقة لهما بالنسب، فقد ينقسم أبناء العمومة؛ فيدخل كل فرع منهما في حزب، ومن يدخل في حزب يصبح شفُّه مع مجموعة قبائله.

يرى ولكنسون أن الشَّفَّ ليس حالة اجتماعية عابرة، وإنما هو نظام هيكلي للمجتمع العماني، فيعرّفه بأنه: (نظام دفاع تلقائي، يُبنى بالدعم المشترك بين العشائر لحماية الحقوق والممتلكات في مناطق الاستقرار)، وهذا تعريف جيد، ففعلاً.. هناك دوماً حاجة للتعاون بين العشائر والقبائل، لاسيما.. أن المصالح تتبدل، والنزاع يتواصل فيما بينها، وعُمان أيضاً معرضة لاستقبال القبائل المهاجرة إليها، مما يجعلها بحاجة إلى نظام من التحالف بينها، تستعمله في الدفاع عن نفسها ضد خصومها. لكن حصر ولكنسون الشَّفَّ في مناطق الاستقرار غير دقيق، فالبدو الرُحّل يشملهم هذا النظام، وهذا واضح في النزاع الكبير بين حزبي الهناوية والغافرية؛ حيث دخلت فيهما كل القبائل العمانية تقريباً؛ من حاضرة وبادية.

والشَّفُّ.. يتشكّل -عند ولكنسون- (بصورة شبه ميكانيكية)، فهو تحالف يحصل تلقائياً نتيجة الأوضاع التي تفرضها الظروف على القبائل والعشائر، إلا أنه لا ينبتّ تماماً عن الإرادة الإنسانية، وإنما يُسهِم الإنسان بإرادته في تحديد مساره، وفي التحول من حزب إلى آخر، ومن التحالف مع هذه القبيلة أو تلك العشيرة.

ويرى ولكنسون أن الشَّفَّ كما أنه يظهر بقوة في وقت الأزمات والصراع؛ فإنه كذلك يمكن أن يشكّل نظام الدولة، فيقول: (إن بالإمكان استغلال هذا النظام الدفاعي؛ أي حصيلة النشاط السياسي الإيجابي الهادف لبناء قوة المجموعة، ويعد تكوين التحالفات من نتاج زعماء القبائل، لذا.. نجد هنالك التسلسل الهرمي للتجزؤ، وهو تسلسل الزعامات؛ بدءاً من الرشداء إلى الشيوخ، ومن التميمة إلى الأمير، وكل منهم يبسط نفوذه على أقسام العشائر المقيمة في الوحدات الإقليمية، وهناك التسلسل الهرمي في بنية المستوطنات «البلدان»، بدءاً من الأحياء القبلية البسيطة «الحارات» إلى حجرات الشيوخ المحصّنة والعواصم القبلية، في حين تشكّل ديار القبائل أجزاء من الإمارة والقبيلة).

ومن يتتبع بنية الاجتماع العماني سيجد مصداق ما يذهب إليه ولكنسون؛ بيد أنه حاول أن يلج من هذه الظاهرة إلى القول بوجود الطبقية في المجتمع، ومع عدم نكران كلامه كليةً؛ قبل الدولة الحديثة، إلا أنني لا أتفق معه بأن العمانيين أخذوا نظامهم هذا من فارس. وهذا عائد إلى أن ولكنسون يرجع تشكّل المجتمع العماني إلى التأثير الفارسي، فكل شيء تقريباً هو قادم من إيران، بما في ذلك نظام الأفلاج، وهذا كلام فيه نظر كبير، أولاً: لا توجد وثائق معتبرة على التأثير الفارسي بالقدر الذي يذهب إليه ولكنسون، وثانياً: لأن الحضارة العمانية أسبق بكثير من الحضارة الفارسية المدّعي تأثيرها على عمان، وهي الدولة الساسانية التي ظهرت قبل الإسلام بحوالي 400 سنة، بينما الحضارة العمانية نشأت في الألفية الثالثة قبل الميلاد.

وإن كان من محاولة لرجع الشَّفِّ إلى أصل قديم، فلربما يرجع إلى أصل هندي، بالذات.. إلى النظام الطبقي الذي يعتبر الإله «شيفا» أحد أهم ركائزه، ويبدو.. أن النظام ولج باسمه إلى عمان، زمن التلاقح الحضاري مع حضارة السند، لكنه تعرّض للتعديل كثيراً بما يوافق طبيعة الاجتماع العماني وتطوره، حتى نُسي أصله.

إن هذا العمق لتاريخ الشَّفّ جعله راسخاً في الوجود الحضاري العماني؛ وهو كما بيّنت يعمل على وجهين: سلبي.. حيث يتحزب المجتمع زمن الفتن فيكون أتوناً للحروب. وإيجابي.. فهو يلعب دوراً في حماية القبائل وتنظيمها الداخلي، حتى مع وجود الدولة، وأُجمِل أسباب الشَّفّ في الآتي:

- التنظيم السياسي.. حيث تتحالف القبائل لتفرض وجودها على نظام الدولة، وهذا ما قامت عليه الإمامة -مع نظام الولاية والبراءة- في عُمان، حيث كان الحكم عموماً بيد اليمانيين، بينما كان رئاسة الحل والعقد بيد النزاريين.

- الحروب.. التي تخلق أحلافها، حتى تحرز أكبر قدر من الائتلاف القبلي للانتصار والغلبة، وقد رأينا هذا في النزارية واليمانية، ثم الغافرية والهناوية.

- الجوار.. فنزول أية قبيلة في أرض قبيلة أخرى، يجعل الشَّفّ يعمل تلقائياً؛ باعتبار أن القبيلة الجديدة أصبحت جزءاً من النظام القبلي الذي تتزعمه القبيلة المهيمنة.

- الاستضعاف.. فهناك العديد من القبائل التي أجبرت لضعفها أو قلتها أن تدخل في شفِّ القبائل الأقوى منها.

- الزواج والمصالح المشتركة.. التي تفرض تحالفاً جديداً تحت مظلة الشَّفّ القبلي؛ لاسيما.. التزاوج بين القيادات القبلية.

إن العمق التاريخي للشَّفِّ، والهيمنة الاجتماعية التي فرضها؛ جعل أبرز نظامين شهدتهما عمان لا يصمدان أمامه؛ وهما.. نظام الدم المتمثل في النسب، ونظام الدين المتمثل في الولاية والبراءة. فنظام النسب.. بدأ يسود عند العرب بقوة زمن الدولة العباسية، وظهرت في زمانهم «الأشجار النسبية»، فأخذ الناس يبحثون عن أصولهم القديمة التي ينتسبون إليها ليجعلوها الأساس في البناء الاجتماعي. وقد دخل علم الأنساب إلى عمان على يد سلمة بن مسلم العوتبي (ق6هـ) من خلال كتابه «الأنساب»، ورغم أنه شاعت في عمان «الأشجار النسبية» التي ترتقي إلى الآباء الأولين من عدنان وقحطان، إلا أن تأثيرها ظل هامشياً لا يكاد يذكر. وأما نظام الولاية والبراءة؛ وهو نظام ديني سياسي، فقد ظل حِكراً على دولة الإمامة، وما أن ينهار كيانها حتى ينبعث الشَّفّ من جديد، بل إنه لم يكن ينحسر كليةً أثناء الإمامة؛ فكان له تحكّمه عليها؛ حيث جعل القيادة السياسية بيد اليمانيين، ورئاسة الحل والعقد الدينية بيد النزاريين، وقد شرحت ذلك في كتابي «السياسة بالدين»، وقد يؤدي تأثير الشَّفّ إلى الانهيار السريع للإمامة كما حصل في إمامة الإمام عزان بن قيس.

وبقيام الدولة الحديثة توارى الشَّفُّ القبلي؛ لتحل محله المؤسسات، ولكن هي الأخرى أوجدت أدواتها في التحالف الاجتماعي المعتمد على مراكز القوى، والتي تحتاج كذلك إلى تحليل اجتماعي، ويبقى السؤال: هل انتهى فعلاً الشَّفّ الذي عمّر آلاف السنين، أم أنه لا يزال كامناً في عمق المجتمع؟