أفكار وآراء

عن التحول في السياسات الغربية.. قراءة للأحداث التونسية

ارتبطت موجات التغيير التي شهدتها المنطقة العربية في العام 2011 وما بعده بالتدخل الغربي إلى حد مباشر وصريح. ولكن التجربة على أرض الواقع قادت إلى تغير هذا الدور ليأخذ طابع الحياد أو النأي بالتدخل. ومن الأوضاع في تونس الآن العام 2021 إلى ليبيا مرورا بالعراق، هناك ما يدلل بالوقائع حدوث هذا التحول في السياسات الغربية. فما هي هذه الدلائل، وما أسبابها، وما هي النتائج التي ترتبت عليها؟.

بداية لسنا هنا في موضع التعرض للتطورات الداخلية في أي من هذه الأمثلة، لأنها من حق شعوبها فقط, فهي الأولى بالتحدث فيها وتحمل نتائج تجربتها أيا تكن. ولكن ما يعد مشروعا من حيث التأمل والنقاش, هو الدور الخارجي, وتحديدا المواقف الغربية, فيما يتعلق بحدوث موجات التغيير تحت ما أصبح يسمى بالربيع العربي, وما لحق بهذه المواقف من تطورات. والسبب هو أن العواصم الغربية الكبرى لم تنكر يوما أنه كان لها دور في هذه الأحداث انطلاقا من أجندات محددة لها بهذا الخصوص ليس هنا المجال لاستعادة الجدل حول ما إذا كان لها الحق في ذلك أم لا, فقد ولى زمن هذا الجدل بعد مضي عقد كامل يعد زمنا كافيا لوضع المواقف الغربية تحت المجهر مجددا لتبيان إلى أي حد حافظت على أجندتها أو قامت بمراجعة جوهرية بدلت الأمور تماما.

ولا يقف التحليل كثيرا عند مناقشة هذه الأجندات, بقدر التوقف عند رصد التحول الصريح في المواقف من الدعم والتأييد إلى التحفظ والتمهل في ردة الفعل واتخاذ موقف النأي عن التدخل واستبداله بدعوة الأطراف المحلية إلى الحوار وتجنب الانزلاق إلى العنف أو تعميق حدة الانقسامات القائمة, ولا شك أنه تطور مهم وله مغزاه لأنه يحمل رسالة سياسية جديدة إلى هذه الأطراف المحلية تتعلق بمصير حاضرها ومستقبلها السياسي.

المثال الأبرز للتحول في المواقف الغربية هو ما جرى بخصوص الأوضاع في تونس رائدة موجات التغيير العربية وآخر معاقل المراهنة الغربية على الأجندات التي صاحبت الصخب الذي أحاط على مدى سنوات عديدة بهذه الموجات 'الزلزالية' إن جاز التعبير. ولكن التحول في الحقيقة أوسع من هذا المثال حيث يشمل حالات أخرى وإن كانت بدرجات مختلفة مثل تطورات الأوضاع في ليبيا والعراق, وليس كل من لبنان والسودان بعيدين عن هذا التحول أيضا, وهي حالات تستحق التوقف عندها في وقت أخر.

والمناسبة بالنسبة للحالة التونسية كما تابع الجميع, هي القرارات التي اتخذها الرئيس التونسي قيس سعيد وتقضي بتجميد عمل البرلمان وإعفاء الحكومة والتوجه لتشكيل حكومة جديدة تتبعه مباشرة وتولي مهمة النائب العام, وقال إنه استند في هذا إلى الفصل 80 من دستور 2014, وبرر قراراته التي مثلت هزة شديدة في منظومة الحكم بتونس, بأنها لمجابهة خطر داهم بما يتيح اتخاذ إجراءات استثنائية وفقا لما ورد في هذا الفصل من الدستور. ولكن خصومه السياسيين وتحديدا حزب حركة النهضة سارعوا على الفور بوصف هذه الخطوة بأنها انقلاب على الشرعية الدستورية لا يمكن القبول بها, وباتت البلاد على شفى أزمة سياسية كبرى تهدد أمن واستقرار البلاد. وتبع ذلك مباشرة وقوع انقسام داخلي بين من يؤيد ومن يعارض على خلفية جدل حول تفسير نص الفصل 80, وكذلك تحرك من جانب حركة النهضة هدف إلى دخول البرلمان, والقيام باعتصام, ودعوة الشارع للتحرك ضد الرئيس التونسي, ومناشدة العالم الخارجي التدخل لإلغاء ما قام به الرئيس دفاعا عن الحريات والدستور والثورة التونسية.

ووفقا لما كان متوقعا, في ضوء تجارب سابقة وقعت في بلدان موجات التغيير, كانت حسابات خصوم الرئيس التونسي قائمة على أن الحالة الجديدة ستنتهي بأسرع ما يمكن تصوره على أساس وصف ما جرى بأنه انقلاب, الأمر الذي لن تقبله العواصم الغربية تحديدا وستتدخل فورا لإيقافه، فهكذا كانت تمضي الأمور في تجارب سابقة عند آخرين في المنطقة. ولكن ما حدث هو العكس إلى حد ملفت للغاية، مما كان له أثره في الأيام التالية مباشرة. فالخارجية الألمانية سارعت بالقول إن ما جرى ليس انقلابا، والخارجية الأمريكية قالت إنها تدرس الأمر وستنتظر نتائج الدراسة من الناحية القانونية! وبوجه عام التزمت العواصم الغربية الصمت والترقب وحرصت أن تكون مواقفها الرسمية محايدة ولا ترغب في التدخل. وبات هذا واضحا بعد بضعة أيام قليلة من صدور القرارات من حيث الدعوة إلى الحوار والحفاظ على الدستور، أي العمل على تجاوز الأزمة بعيدا عن الشجب والإدانة والتهديد والوعيد كما كان يحدث في الماضي مع الآخرين!.

والملفت في رصد هذه التطورات الدراماتيكية أن خصوم الرئيس التونسي وأنصارهم عادوا سريعا إلى المربع الأول أى إلى التهدئة والتخلي عن التحركات المضادة على الأرض, حيث تراجع تشخيص ما جرى من جانبهم على أنه انقلاب, أو توارى في خطابهم السياسي, وبدلا منه جرى التأكيد على أهمية الحوار بين جميع القوى السياسية, أي أنهم تبنوا سريعا خطاب العواصم الغربية الداعي للتهدئة بعكس ما صدر منهم فور صدور القرارات!.

ما يهم هنا ليس تتبع تطورات الشأن الداخلي التونسي وتحليله, لأنه كما سبق القول شأن داخلي من حق التونسيين وحدهم التعامل معه بما يقررونه, وبناء عليه لا أحد غيرهم يملك رفاهية الحكم على ما يمكن أن تقود إليه التطورات, وإنما التوقف عند المواقف الغربية التي تغيرت 180 درجة فيما يتعلق بجديد الأحداث في بلدان موجات التغيير العربية, حيث ألا رغبة في إقحام النفس في هذه الأحداث أو تلك, وترك الأمور لأصحابها يديرونها كما يشاؤون ويتحملون نتائج مواقفهم وقراراتهم, الأمر الذي لم يكن قائما بالمطلق في 2011 وما تلاها من بضعة سنوات, لقد كانت التجربة كاشفة لعديد الأخطاء التي وقعت فيها الأجندات الغربية التي تبنت التدخل المباشر والصريح في الشأن الداخلي العربي.

وأول هذه الأخطاء هو استعجال التدخل بهدف تغيير بعض الأنظمة السياسية العربية دون مراعاة لحقائق الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي, وبناء عليه أدركت أن التدخل بأجنداتها التي طرحتها لا يؤدي إلى الإصلاح كما كانت تتصور, بحكم كونها أجندات مفروضة قسرا على واقع لا ينسجم معها ولا يملك مقومات إنجاحها, وإنما يؤدي إلى الفوضى وعدم الاستقرار وتعميق الانقسامات الداخلية, وهو ما حدث في تجارب التغيير الأخرى, ومن ثم كان من غير المعقول الوقوع في نفس الخطأ مرة ثانية بتكراره في الحالة التونسية الجديدة.

وثاني هذه الأخطاء هو عدم تقدير المخاطر الأمنية المترتبة على التدخل فيما يتعلق بأمن البلدان الغربية ذاتها وليس فقط أمن البلدان التي تعرضت للتغيير. وأبرز مثال على ذلك هو أن حالة الفوضى وعدم الاستقرار قادت إلى إيجاد أزمة هجرة غير شرعية إلى أوروبا الغربية لم تكن تتوقعها, ومؤخرا وتحت وطأة الظروف الاجتماعية والاقتصادية الصعبة في تونس زادت الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا.

وثالث الأخطاء أن التدخل بهدف التغيير السياسي لم يقترن من جانب الغرب بتقديم أوجه الدعم الأمني والاقتصادي للبلدان التي تعرضت للتغيير بغض النظر عن طبيعة أنظمة الحكم الجديدة التي قادت إليها موجات التغيير, بل إن ما حدث هو أنها تركتها لمصيرها الصعب المتوقع, بما يعني أنها لم تكن مستعدة لتدفع ثمن المراهنة على هذه الموجات. وقد انطبق ذلك على الموقف الغربي من التغير الذي حدث في تونس, حيث كان من المفترض أن يكون هذا الموقف أكثر صلابة ودعما لتجربة اعتبرها الغرب نموذجا ناجحا لمراهنته على الثورة هناك, إلا أن ذلك لم يحدث, لسبب واضح هو أن الغرب لم يشأ من البداية أن يكفل نجاح تجارب التغيير, أو بمعنى أدق لم يرد أن يدفع التكلفة!.

ومما زاد الأمور تعقيدا في وجه العواصم الغربية أن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في تونس وصلت إلى شفى الكارثة لأسباب تعود للأوضاع الداخلية الصعبة وتحديدا على المستوى السياسي لا مجال هنا للتطرق إليها لأنها تخص تجربة الشعب التونسي في مجمله, ثم دخلت البلاد في أزمة صحية خطيرة بعد تفشي وباء كورونا وعدم قدرة المؤسسات المعنية مجابهة الوضع الخطير (كان ذلك من الحجج التي استند إليها الرئيس التونسي في توضيح معنى الخطر الداهم). ومع وضع بالغ التعقيد كهذا لم يكن مفيدا للعواصم الغربية أن تلقي المزيد من الزيت على النار المشتعلة إذا ما سارعت بتكرار نفس المواقف القديمة.

وهكذا وفقا للتحول في المواقف الغربية تبدلت سريعا مواقف القوى السياسية التونسية, من استعجال الصدام, بناء على تجارب الماضي, إلى تبني الحوار والتهدئة لتجنيب البلاد أزمة ساخنة لا يحمد عقباها. حدث شيء من هذا على وجه السرعة ليس فقط من جانب خصوم الرئيس التونسي, بل من جانب مؤيديه أيضا, حيث اتفاق مواقف الطرفين على أهمية وجود خريطة طريق للخروج من الأزمة, وكذلك من جانب الرئيس نفسه الذي شدد على أن ما جرى أمر مؤقت, ومن ثم لن يطول. ومع أنه حتى كتابة هذه السطور لا أحد يستطيع الجزم بما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع، إلا أن المواقف الغربية التي أكدت منذ بداية الأحداث تبنيها للدعوة إلى الحوار والعودة بأسرع وقت إلى الأوضاع السياسية الطبيعية, من شأنها العمل على ضبط حدة الخلافات والمساعدة في التوصل إلى صيغة مرضية على المستوى الداخلي تنقذ البلاد من الأزمة الراهنة, شرط أن تتجاوب معها مواقف القوى السياسية بمختلف توجهاتها.

ويبقى أن الدرس المستفاد بعد كل التجارب المريرة التي مرت بها بلدان التغيير العربية, هو أن اللد في الخصومة والصراع على السلطة لن يؤدي سوى إلى عدم الاستقرار وبناء عليه تزداد معاناة الشعوب, كما أنه لم يعد مفيدا في هذا الزمان, بعد عشر سنوات حافلة بالعبر, التعامل مع الأطراف الغربية على أنها ورقة ضغط بهدف نصرة هذا الفريق أو ذاك, مثلما كان يحدث في الماضي القريب.

** ينشر بالترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة