ثقافة

شنْكر ...

مشهد من مسرحية السردال
 
مشهد من مسرحية السردال
تجمع أغلب الدراسات النقدية تمتع فنون السرد بقدرة عالية على التوغل في العلاقات الاجتماعية غير المنظورة على السطح، إلى جانب تفاعلها مع ما تراه العين من علاقات تجري بين الناس على المستوى الظاهر. وتظَّل مهمة المبدع هي القدرة على التقاط حيوات التفاصيل الصغيرة الباطنية أو المخفية أو المسكوت عنها والدفع بها إلى المقدمة، بُغية تحقيق أهداف عدة؛ كأن يراها الجميع مرأى العين المجرّدة، أو يتأملونها، أو يتدبرونها، أو يمرون دون حدوث أي اهتمام نحوها، وفي أحسن الأحوال أن يتشابكوا معها تشابكا جدليا.

لقد سعى كتّاب النص المسرحي في مجتمعات الخليج إلى رصد الواقع الاجتماعي وحركته لتقديم نماذجهم البشرية وبأنماط متباينة. وكانوا عبر شخصيات نصوصهم يهدفون على أنحاء مختلفة وفق تصوراتهم لمعنى النص المسرحي، إما إلى الاكتفاء بتصوير الحياة الاجتماعية البسيطة للناس، أو السعي إلى ابتكار معادل موضوعي للحياة وللشخصيات في أزمان قصية وأخرى متحولة، جرى التعارف على تلك الأزمان بزمن ما قبل النفط أو زمن ما بعده!

تُعدُّ شخصية البانيان إحدى شخصيات النص المسرحي الخليجي، فقد شكّل وجوده في حياة مجتمعات أهل الخليج مادة أساسية لما تعرضت له هذه المجتمعات من تحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية، لا تزال مستمرة حتى اليوم. وعلى الرُّغم من حضور شخصيات البانيان ودورهم الذي لعبوه في تلك المتغيرات المركزية لحياة هذه المجتمعات فإن ملاحظة تتصل بتتبع أبعاده النفسية والاجتماعية والمادية أو ملاحظة ملامحه وسماته أو الغوص إلى أفكاره أو محاولات جسّ نبض عواطفه- على الرغم من السلطة التي حققها- فهو غير موجود في النصّ المسرحي وجودا حقيقيا وفاعلا. ولا يمكن النظر إلى غياب هذا الاشتغال أو الإغفال إلاّ كشكل من أشكال المعرفة الناقصة أو يرجع إلى التحفظ برغم اتساع رقعة الكتابة الدرامية للمسرح.

في دراستها المعنونة (الوجود الهندي في الخليج العربي ١٨٢٠- ١٩٤٧م) تذكر الدكتورة نورة محمد القاسمي في موضعين بالكتاب أسباب اختيارها لهذا العنوان كأطروحة لبحث الدكتوراة فتقول: 'وكان السبب في اختياري لهذا الموضوع ما يكتنفه مثل هذا الاختيار من تهيب أكثر الباحثين عن الإقدام عليه، خاصة إذا ما كان من أبناء الخليج، بحكم تداخل العلاقات الاقتصادية والاجتماعية مع المواطنين المنحدرين من أصول هندية على نحو لا يعفي صاحب العمل من حرج آثر الباحثون تجنبه'.

أما في الموضع الثاني فتقول: '... الهنود رغم وجودهم في الخليج قبل ذلك التاريخ -أي ١٩٤٧م- وجودهم كان وجودا محدودا اتسع نطاقه على نحو كبير بعدها، مما أخذ شكلا منظما، فيما بدأ في عملية تصدير بشرية إلى الخليج من مناطق هندية بعينها، وفيما ظهر في تمركز هؤلاء في مناطق بذاتها من سائر الإمارات مما لم يكن معروفا من قبل'. ولعل هذا ما يدفعنا إلى تفسير ذلك الجانب المتمثل بقلة تناول بعض المسرحيين الخليجيين لوجود البانيان في مجتمعات الخليج، أو تناولهم تناولا سطحيا.

تشير دراسات سيميولوجيا المسرح إلى صعوبة تقديم مفهوم الشخصية بوجه عام، لكن الناقدة آن أوبرسفيلد قد سعت إلى تقديم النموذج العملي لدراستها. وفي تأملي لشخصية 'شنكر' رجل البانيان الأول في مسرحية السردال، سأبتعد عن تلك الدراسات، ولا أريد التضحية بالتاريخ أو التخلّص من صور حياة المجتمع في داخل النص، ولا التغافل عن تداخل الوهمي بالواقعي، فلا أستطيع الرمي بهذه الحمولة التاريخية الثقيلة إلى عرض الحائط! إنها حمولة أيديولوجية كبيرة لا زال لها أشكالها وعلاماتها في الذهنية الثقافية المتوارثة عبر العصور والأجيال، فغدت بذلك مرجعية على الدراس تنظيم أفكاره إذا ما أراد تناولها سواء في عمل نقدي أو إنتاج إبداعي. وتكمن مهمة الباحث الأكاديمي وهو يقترب من تناول هذه الشريحة، السؤال عن الكيفية التي وجدت عليها في النص المسرحي الخليجي. لهذا فإن سؤالنا عن قلة وجودها في النصوص المسرحية مؤشر مهم.

في مسرحية السردال التي تجري أحداثها في مساءات شهور رحلة غوص عام 1897م، لمؤلفها الإماراتي عبدالله صالح، يضعنا المؤلف إبان الاحتلال الإنجليزي لمنطقة الخليج، وفي فترة بدء نشاط الشركة الهندية الشرقية، في قرية ساحلية غنية باللؤلؤ تدعى قرية عيال بن شاهين، يضعنا المؤلف أمام شخصية (شنكر) أحد رجال البانيان التجار المتنفذين وفي الخمسينيات من العمر. هو شخصية محاطة بالالتباس والتعقيد. ولا يرجع ذلك التعقيد إلى تكوين الشخصية فحسب، بل ينتج من خلال علاقاتها مع ما حولها من حيوانات وأناس وأشياء ومفاهيم وأفكار وموجودات، وطموحها الذي تكشف عنه بالتناوب مع الشخصيات الأجنبية، ومع القوى الاجتماعية للقرية.

نتعرّف على بعض تكوين هذه الشخصية من خلال حواراتها مع من يشبهها من محيطها، فعندما يسأل راجيش عن المصير الذي سوف ينتهي إليه وجودهم في القرية، يجيبه شنكر بثقة عالية بعدما يُخرج من جيبه مجموعة من الأوراق الملفوفة؛ الأوراق هي الضمان، وأنهم هم من سيبقون لأنهم ليسوا محتلين كالإنجليز والفرنسيين، مؤكدا في الموضع نفسه على أنهم أصحاب تجارة وقَدَموا إلى الخليج برأس مالهم من أجل التجارة فقط!

إن الآلية التي صاغ بها المؤلف وجود شخصية شنكر يجعلنا نستبعد مقارنتها مع من سبقها من شخصيات البانيان في نصوص أخرى. إذّ يضطلع المؤلف بتقديم أنموذجا إنسانيا يتقاطع مع الحياة والسلطة والاستعباد والنفوذ والرومانسية، مجسدا من خلاله صورة الرجل المُحب والمنتمي والمُخلص والمتعاون، يقول شنكر معاتبا حصة التي وصفته بالرجل الغريب: 'بعد كل هذا سنه شنكر يصير غريب! بس أنا مُخلص مشان هذا أرض'. ولا يقف شنكر عند هذا الحد، فانطلاقا من عدِّه لنفسه أحد المنتمين للقرية، العارف أناسها ومشكلاتهم، فنراه لا يتردد عن مساعدة امرأة فقيرة في علاج ابنها، كما ويسدد عنها الضرائب التي فرضتها عليها الإنجليز والشيخ! ويتقدم نمو الشخصية النصية فنشاهد شنكر مؤديا لطقوس عباداته الدينية العتيقة، بالإضافة إلى ذلك، نراه يتجه بفضول نحو الأشياء، فيلتفت إلى كلّ ما يجري في السوق من حوله، ويقاطع حوار الشخصيات تارة مبتسما، وتارة متخابثا، ثم نجده يتذمر ويغضب ويصفع ليؤدب المخطئين، ويمتدح اللؤلؤ والمكان الذي يعيش فيه، ولذلك ينجح في تحقيق طموحه فيكون السردال المهيمن والمتسلّط على الجميع. ويجتمع النصر الذي جاء به النص، عبر الاستفادة من تضافر قوتي التسلّط والهيمنة مع السير بالقراء نحو تقدم نشاط الشركة الهندية، ومن خلال الكشف عما يتصل بداخل شخصية شنكر من عاطفة حبّ ورغبة في التملّك، تجسّد ذلك كله في مشاعره تجاه حصة زوجة الغيص صالح. فأمام حبه والحرص على امتلاكها لا يتردد في تدبير مكيدة مع أحد أفراد أهل القرية لقتل زوجها، فينجح مخططه! هل السردال نص مغلق؟ بتعبير إمبرتو إيكو وتعريفه للنص المغلق، فإنّ السردال نصا ينفتح على كلّ احتمالات القراءة والتفسير وكلّ تأويل محتمل. وأن نموذج شنكر، يقدر القارئ أن يتعرّف عليه ويُدركه، قد يتحاور معه، أو قد يتركه!