أفكار وآراء

سنّة الاقتضاء عند المفكر صادق جواد سليمان

بدر العبري

من السّنن الطّبيعيّة الّتي يجري عليها الاجتماع البشريّ عند المفكر صادق جواد سليمان [ت 2021م] سنّة الاقتضاء، ويربط سنّة الاقتضاء بالماهيّة الإنسانيّة من جهة، وبالمشيئة الإلهيّة من جهة ثانية من خلال نظام الكون ذاته، وجريان سنن الطّبيعة، وفي هذا يتمثل التّرابط بين الإنسان والعالم الخارجي، «فطبيعة الإنسان من النّوع الّذي لا ينفصل عن فهمه الكلّي للوجود مهما كان الفهم، فيبقى متمّسكا بشكل أو بآخر بصلته الكونيّة، فهو كالغريق لو أعطيته قشة لظلّ متمسّكا بها».

والاقتضاء في اللّغة العربيّة من قضى ويأتي لمعان عديدة مرجعها الحكم والفصل وانتهاء المراد، ولهذا منها مسألة القضاء والقدر، فالقدر تقدير الله لما سيحدث لعباده، والقضاء إسقاط أو تنفيذ لهذا القدر، أي تحقق وقوع ما حدث، ولهذا يرى صادق جواد أن «هناك ثلاثة تفسيرات تفسّر ما يحدث في الحراك الإنسانيّ من أمور وأشياء، والأشياء ما لها طابع مادّي ملموس، والأمور ما تكمن في الإنسان من حسد أو بغض أو كراهيّة، ويدخل فيها أيضا النّبل والصّراحة مثلا، والأمور والأشياء تنتهي إلى نتائج، ولكن كيف تحصل؟».

يذكر ابتداء المذهب الأول وهو القائل إلى «أنّها قضاء وقدر، فكلّ ما حصل هو مقضي من قبل، فهو يحقق ما كان مكتوبا، فنقول مثلا لمن مات غرقا: هذا مكتوب، ونحكم بعد حدوث الحدث لا قبله».

والمذهب الثّاني هو «التّفسير العبثي الذي يرى أنّ هذا خبط شعواء، يحصل بدون حساب، كما يقول زهير بن أبي سلمى [ت 609م]:

رأيتُ المنايا خبطَ عشواءَ من تُصب....... تُمته ومن تخُطئ يُعمّر فيهرمِ».

والمذهب الثّالث أنّها «اقتضاءات وليس قضاء، بمعنى ما يحدث يحدثُ بمقدّمات توصله إلى الحدث أو الفعل، هذا الاقتضاء له طريقه ومساره، والإنسان نفسه عامل في هذا الاقتضاء، فالمريض مثلا يؤخذ إلى الطّبيب ثمّ يشفى، فالمرض نتيجة اقتضاء وكذا الشّفاء، وأمّا مشيئة الله فهي مودعة في السّنن الكونيّة، وليست منفصلة عنها، حيث يحدث في حينه بمسبباته عكس القضاء الّذي يفيد أنّه مقضي من سابق».

والجدل قديم جدّا بين بعض الفلاسفة والمتكلمين، والّذي يرتبط بعلم الله، هل هو عالم بذاته والكليات فقط، أم أيضا بالجزئيات، ونسب بعضهم علم الله بالكليات إلى ابن سينا [ت 427هـ]، ولكن صادق جواد لا يهمّه هذا الجانب، فهو على نهج الفلاسفة ما بعد عصر التّنوير إلى اليوم مدارهم هو الإنسان ذاته، والبحث عن الإنسان من خلال الطّبيعة، فهو جزء من هذه الطّبيعة لا ينفصل عنها، بمعنى هناك سنن طبيعيّة تجري على الإنسان تماما كما تجري على الطّبيعة، فالفلاسفة المسلمون اشتغلوا كثيرا بالجانب اللّاهوتي، وفي هذا يقول: إنّ «الفلاسفة المسلمين، مثل ابن سينا [ت 427هـ] وابن رشد [ت 595هـ] وآخرين، لم يخرجوا عن الإطار اللّاهوتيّ، فالفلسفة تبحث عن نظم صالحة للمجتمع، وهذا الكلّ يتفق عليه، إلا أنّ الخلاف أنّ الفلسفة الإسلاميّة لم تخرج عن الإطار اللّاهوتيّ».

وبما أنّ هذا الإنسان هو جزء من هذه الطّبيعة، فهناك اقتضاءات فيها، «فلمّا تنظر إلى الظّواهر الطّبيعيّة مثلا النّهر يتكوّن من مياه في أعالي الجبال، ثمّ تسري المياه وتأخذ مسارها وتصبّ في البحر، فهناك شيء يحرّكها من أعلاها إلى أسفلها، وصخرة كبيرة في أعلى الجبل تحرّكها الرّياح فتسقط إلى أسفل، وتفاحة تنضج، ويضعف الغصن الماسك لها، بعد ذلك تسقط، هذه ظواهر متعددة، فهل هي متشتتة أم هناك ما يجمع بينها ويوحدها؟ الحقيقة كلّ هذه الظّواهر يجمعها مبدأ واحد، وهو الجاذبيّة، فالتّوحيد فيها جمع الشّتات في الظّواهر، ورجوعها إلى مبدأ موّحد واحد».

لهذا يرى أنّ الموحدات حتّى الآن أربعة، «وفي التّفكير العلمي يتكلّمون الآن عن أربع قوى تتحكم في الكون: الجاذبيّة، والكهرباء المغناطيس، وقوّة جامعة للأشياء، وقوّة مفككة للأشياء، لهذا العلم يحاول فهمها بشكل موحد، أيّ يعيد كلّ الظّواهر لفكرة موحّدة لها، وأنشتاين [ت 1955م] يشاع عنه في أواخر حياته كان يبحث عن معادلة واحدة الجامعة لجميع الحراك الكوني، ولم يهتد إليها، وظلّت إلى اليوم ينظر إليها بهذه الموحّدات الأربعة».

وما يحدث في الطّبيعة هو ذاته ما يحدث في عالم الإنسان لا ينفصل عنه، وليس عبثا، على مستوى الفرد أم على مستوى الحضارة وإدارة الشّأن العام، فالإيمان بالاقتضاء لا ينفصل عن هذا الكون، والمرتبط بالعلم أولا، ثمّ الخلق، فهو حالة منسجمة مع الذّات من جهة ومتصالحة معها، ومسالمة للآخر، ومنسجمة مع الكون.

وعلى مستوى الفرد يضرب مثلا «في السّابق أنّ الشّخص الآثم كشارب الخمر أنّ هذا من إرادته، لكن النّظرة اللّاحقة لا ترى هكذا، وإنّما هناك اقتضاءات أدّت إلى شربه للخمر، واقتضاءات تصعّب عليه تركه»، لهذا التّغيير يكون منطلقا من الذّات، وفق سببية أدّت إلى الحال، وسننيّة كليّة طبيعيّة تؤدي إليه.

وبما أنّ المدار هو الإنسان، فالتّغيير الحضاريّ لا يكون ابتداء عن طريق الحداثة الماديّة الطّبيعيّة، كالبنيان والطّرق والتّرف، ولكن يكون ابتداء من الطّبيعة المتمثلة في هذا الإنسان، بأخذ سنن الاقتضاء في التّقدّم، حيث يقول: «من بصائر القرآن المجيد بصيرة يجدر وعيها صميما بهذا الصّدد: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرّعد/ 11]، نقطة الاستيعاب هنا: أنّ منشأ التّغيير في الحال الإنساني، سلبا أو إيجابا، هو الإنسان نفسه: بمعنى أنّ ساحة التّغيير المنشود لا تكون ابتداء في عمارة الأرض أو التّرفه في المعاش بقدر ما تكون، كأمر أول وأساس، في استصلاح النّفس، وهو السّعي المستدام الذي عُرّف في الحكمة المتعاليّة الموروثة من سائر الدّيانات والمدارس الفكريّة، بالجهاد الأكبر، باعتبار أنّ باستصلاح النّفس يُستصلح المحيط».

هذا الاقتضاء في التّغيير الحضاري لا ينطلق من الانتماءات والهوّيّات والثّقافات المفرقة والمتعددة، حيث يرى صادق جواد أنّها تنطلق من الماهيّة المنسجمة مع الطّبيعة، فلكي «تصحح كلّ أمّة وضعها وتقوّمَ مسارها» عليها أن تكون «متأصلة وعيّا في ماهيّتها الوجوديّة المشتركة بينها وسائر الأمم» حيث «تزداد كلّ أمّة سعة في المعرفة العلميّة، وتحليّا بمكارم الأخلاق، وبذا كلّه، تغدو مزدهرة في ذاتها، منيرة الدّرب لغيرها، متعاونة عالميّا في كلّ ما يصلح الإنسان ويسعده وينّميه، وحاضنةِ بالحسنى جميع الثّقافات والأديان والمذاهب والمواطن والأعراق».

لهذا يركز صادق جواد في أن يتمثل الاقتضاء ابتداء في الحضارة قبل الحداثة؛ لأنّ الحضارة لا تبدأ إلا من خلال الإنسان من جهة أي ماهيّته، ومن خلال الاجتهاد الإنساني وفق كليّات وسنن الطّبيعة، لا وفق الانتماءات والهوّيّات والماضي، «فلمّا تتكلّم عن الحضارة فأنت تتكلّم عن الإنسان في أكله وشربه ونومه، حيث يكون حاضرا تماما كليّا، والمجتمع الّذي ينمّي أفراده يكون لهم وعي تماما، وهذا الّذي يكوّن الحضارة، ولهذا الصّحيح أن نقول: إنّ الحضارة لا تتحقق إلا بالأنسنة وليس الحداثة».