أفكار وآراء

المخيلة الاجتماعية ..المرآة الجانبية للذات

عندما نتحدث عن المخيلة الاجتماعية، فإننا نتحدث عن كمٍ كبيرٍ من الأرصدة العتيقة للتاريخ، وللقيم، وللموروثات، ومؤصلات الهويات، ومعززات البقاء الإنساني، ومجموع السلوكيات التي يقوم بها الأفراد لمختلف الممارسات في الحياة اليومية، وما هي هذه الممارسات وقدرة الأفراد على وضع العناوين الجانبية لها، بين الثقافة، والاقتصاد، والاجتماع، وربما السياسة أيضا، حيث إن كل فعل إنساني قابل لتوظيفه في مختلف هذه الأغراض وفي آن واحد، دون أن يحتاج إلى فاصل زمني، حيث يكفي تضمينه عنوانا ما من هذه العناوين كلها مجتمعة، أو متفرقة.

فهذه المخيلة هي الحاوية للكثير من المفصوح عنه، وللكثير من المسكوت عنه، وللكثير من الملموس، وللكثير من المحسوس، تتداخل في تكوينات هذه المحصلة الكثير من المفارقات، ومن التجاذبات، ومن الصراعات، فليس كل ما هو مرصود فيها خير، ولا كل ما هو مرصود فيها شر، مع أن الفاعل الحقيقي فيها هو هذا الإنسان بمجمل تناقضاته، وصدقه، ووفائه، وقنوطه، وأحلامه، ونزعاته، ولكن هذه المخيلة تبقى شاهدا على عصر، ومؤرخا لزمن، وحافظا لأدوات، ومنتزعا لخصوصيات، وبالتالي فهي ذخيرة من المعرفة، ومن السلوك، ومن الصور، لا يمكن التفريط فيها، لأن هناك بديلًا لمعززات حياة حاضرة، وإلا عد ذلك خيانة لكل ما تم عبر زمن مضى، لم يعد منه شيء سوى لملمته هذه المخيلة عبر تاريخها الإنسان الجميل.

تعيش المخيلة الاجتماعية بين مأزقين على درجة كبيرة من الأهمية، يجسد المأزق الأول ذلك الكم الهائل من الموروث، ويجسد المأزق الثاني مجموعة البناءات المعرفية والسلوكية التي ينجزها الأفراد في كل عصر، وينظر إلى هذين المتحققين، على أن العلاقة بينهما تعيش في مأزق، ذلك لكم الصدام والتضارب الذي يقع على عاتق هذه المخيلة الاجتماعية، وما يؤزم الموقف أكثر هو وجود الجيلين المنتميين إلى كل منهما، وحرص كل جيل على حدة على التمسك بما أنجزه، وعدم التفريط في هذا الإنجاز، وعدم القدرة كذلك على إيجاد صيغة توافقية بينهما، فكل جيل ينظر إلى مكتسبه على أنه الأحق بالبقاء، والسيادة، ولا يفك هذا المأزق مهما كانت التوافقات، ولذلك تعيش المخيلة الاجتماعية مراحلها الصعبة مع كل جيل.

تستحضر المخيلة الاجتماعية مجموعة كثيرة من القيم الإنسانية، والقيم التراثية، وتستند كثيرا على التاريخ المادي وغير المادي، في تحصينات البقاء والاستمرار، ولعل هذا ما يؤرخ لها أكثر مداومة البقاء والتميز، ذلك أن المكتسب المادي البحت يظل مرهونا بفترة تألقه وتأثيره القصير، ثم لا يلبث أن يتلاشى كلما تضاءلت المادة، وانطفى بريقها، ولذلك تحرص المجتمعات الإنسانية على تأصيل مكتسبها التاريخي غير المادي والمعزز بسلوك الأفراد، لأنه يؤصل الهوية أكثر وأكثر، ويعلي من المكانة التاريخية للمجتمع، فالمجتمعات المقطوعة من منابتها، تظل مجتمعات تعاني من مثالب، ليس يسيرا رتقها، لكي تحافظ على بقائها واستمرارها.

آمنت المخيلة الاجتماعية بالسوق كإحدى الوسائل المهمة في حياة الإنسان ولكن لم تؤمن به كسبيل للربح والخسارة، فالمقايضة التجارية غير حاضرة في هذه المخيلة، صحيح أن هناك وسيلة قائمة بين الناس، ولا يمكن الاستغناء عنها مهما وصل مستوى التضحية والبذل في العطاء بين الناس، مبلغه، لأن الربح والخسارة في المبادلات التجارية قائمة منذ بدء البشرية، ولكن تبقى الأهداف، والرؤى، والاستشرافات المستقبلية هي التي تحمل علامات استفهام وفق منطلقات هذه المخيلة التي اتكأت كثيرا على مفهوم العقد الاجتماعي أكثر من مفهوم الربح والخسارة، وبالتالي فاستنكارها اليوم لواقع الربح والخسارة البحت، والذي أفضى إلى إزاحة مجموعة الأدوار التي يقوم بها هذا العقد، يأتي أمرا طبيعيا، حتى تعتاد عليها المخيلة الحاضرة لتبني عليه قناعات جديدة تتأسس له منذ لحظة ميلادها الأول، أما القفز بمراحل الزمن بين عشية وضحاها فيصبح أمرا ثقيلا على هذه الذاكرة التي استوطنت التضحية، والعطاء، والإيمان بأهمية العلاقة مع الآخر على أساس المودة، والتعاون، والتكافل، والتوافق على مجموعة من القيم السائدة في عصر فرض على الناس أن يتقاربوا أكثر لوجود مهددات عديدة، يمكن لها أن تقض مضجع المجتمع، وتهدد استقراره، وإن كانت لذلك أسباب جوهرية، ينظر إليها في زمانها، ولا يمكن؛ طبعا؛ أن تصدر إلى أزمان متأخرة، بحكم طبيعة الحياة، وقانونها المتوافق مع الزمن الذي يعيشه الناس، ويحدد نوع ومجالات حركتهم في الحياة.

تشكل ثقافة المحسوس والمقبوض، منطلقا مهما، في حياة الناس بشكل عام، وتزداد أهميته كلما توغلت الإنسانية في التحضر والتقدم، وينظر إليها على أنها نوع من الثوابت، وهذه الصورة تجر خلفها مجموعة من المفاهيم، ففي زمن كانت الدعابة، هي السائدة، لا مكان للدعابة هنا اليوم؛ مثلا؛ لأن الدعابة تحتاج إلى مزاج، ولا مزاج هنا لأن المزاج يحتاج إلى روح، ولا روح هنا؛ بالمعنى المفضي إلى المساحات الآمنة للبهجة والسرور، فالتحول المادي القاسي على الناس، بدأ يسلب منهم مناخات اجتماعية كانت على قدر كبير من الأهمية، ولأن الذي يحدث على امتداد حيوات الشعوب، أمر ليس يسيرا، فإن تداعيات ذلك أثر بشكل كبير على هذه المناخات الإنسانية، وهنا، لا أرسم صورة قاتمة لهذه المخيلة التي تحصد شيئا من واقعها، ولكن هذا الواقع، ولا مفر منه، مهما حاولنا، تجاوز بعض المنغصات في حياتنا اليومية، فمثلا: يحل اليوم هذه المرض الفتاك بحياة الإنسانية كلها، وعلى امتداد الكرة الأرضية، وفي ظل هذا الواقع المخيف، فأي حياة آمنة تستقرئها النفس لتواسي شيئا من خساراتها الإنسانية الكثيرة؟ هل تستنزف المخيلة الاجتماعية أرصدتها اليوم أكثر من أي وقت مضى؟ لأن البناءات البديلة مختلفة جدا عما هو معتاد، فرتم الحياة يفرض على الناس مكونات أخرى لبناء الذاكرة، فالبيئة على الرغم من اتساعها الإنساني، إلا أنها ضائقة بمن فيها، ضائقة بسكانها، ضائقة بملوثاتهم، ضائقة بطموحاتهم وأحلامهم، ضائقة بصراعاتهم، ضائقة بأوهامهم، ضائقة بأطماعهم، ضائقة بصراع الكائنات، ضائقة بصراع الذات مع محيطها، فهل الإنسانية مقبلة على مخيلة مشوهة، على مخيلة مرتبكة، على مخيلة متصارعة، على مخيلة قلقة، على مخيلة مبوءة بشتى التناقضات، هل تصبح التقنية هي البديل لحفظ ماء وجه هذه المخيلة بعد أن يضنيها التشتت، وعدم القدرة على لملمة مكتسباتها الزمنية والمكانية؟ ترتكن المخيلة الاجتماعية إلى كثير من التعصب، الذي يأتي تحت عناوين كثيرة، حيث تنظر إلى هذا التعصب على أنه القادر على حفظ الهويات من التشتت والضياع، ولذلك فهي لا تؤمن كثيرا بالمنجز المادي المتحقق على الواقع، بقدر ما تربط هذا المنجز بالكم التاريخي المرصود، سواء هو مرصود بين أغلفة الكتب، أو مرصود في سلوكيات ما تبقى من الناس الذين يعيشون أدوارهم الأخيرة في الحياة، ولذلك عندما تقترب كثيرا من أحد كبار السن، لا تجد فقط جسما من لحم ودم؛ تكسوه ملابس ساترة؛ فقط، بل تجد تاريخا متحركا، وكمًا هائلًا من القيم، ومساحة لا متناهية من المواقف والقصص التي تعبّر عن الكم النوعي من الجهد الذي بذله الإنسان عبر مسيرته التاريخية الماجدة، وكم العطاء اللامحدود الذي قدمه عربون مودة للبقاء والاستمرار، وخاصة في البعد الإنساني البحت، بغض النظر عن مجموعة الإخفاقات التي لامت هذا العطاء، أو شوهته في بعض المواقف، بفعل تجربة الخطأ والصواب إلى حد بعيد.

يشتكي أناس كثيرون اليوم من تقلص غياب ضوء القمر، وتقلص مساحة ظلال الغابة، وتراجع امتداد النهر، وخفوت أمواج البحر، لأن الضوضاء الجانبية المصاحبة للحياة اليوم تكاد تقضي على كل الصور التي لا تزال المخيلة الاجتماعية تختزنها؛ انتماء؛ لحياة يتلبسها الهدوء إلى حد الصمت، لحياة كانت أقصى ما تسمع صوت إنسان البيادر البعيدة يسلي نفسه بترنيمة شعر، أو ثغاء ماعز يريد أن يتحرر من قيده لإرواء غريزة الجوع، أو عواء كلب قيده صاحبه حتى لا يغير على جاره فيفتك بغنمه، أو ربما يتخلل هذا الهدوء سيمفونية يعزفها خرير مياه الأفلاج؛ معنا؛ أو الأنهر؛ في بلاد بعيدة؛ فتكسر صمتا مطبقا على امتداد، حياة لا تملك في قواميسها مفردة «التلوث الصوتي» الذي حل اليوم، فحوّل الحياة إلى صخب تضج منه كل الكائنات، وتتصدع منه كل الأركان، حتى تعممت الحياة بعمامة الـ«ضجيج» المفضي إلى القلق والإزعاج والتوهان والقلق، ومع هذا كله، ستبقى المخيلة الاجتماعية، ذلك الامتداد الجميل لحيوات الناس في تفاعلاتهم، في سكاناتهم، في تقاربهم، في نقاط تماسهم المختلفة.