هل يستأنف التاريخ عكس رؤية فوكوياما؟
عبد الله العليان -
نستذكر قبل أكثر من ربع قرن، المقولة الشهيرة للسياسي الأمريكي/ اليابابي «فرانسيس فوكوياما» في كتابه المعروف (نهاية التاريخ وخاتمة البشر)، والتي جاءت مباشرة بعد تلاشي المعسكر الاشتراكي في شرق أوروبا، في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، وفسرت هذه الأطروحة، التي كانت في البداية عبارة عن محاضرة ألقاها فوكوياما، في عام 1989، واعتبر فيها أن انهيار النموذج الاشتراكي، هو انتصار للفلسفة الرأسمالية الديمقراطية الغربية، وهي بالتالي نهاية النهايات، لكل فكر مغاير ومختلف عن النظام الليبرالي الرأسمالي، وبعدها سيتم إغلاق التاريخ تماما، ولا شيء بعد ذلك سيستمر غير هذا النموذج الذي هو الخلاص النهائي لكل الأمم والشعوب، بحسب تعبير فوكوياما، وقال في هذه الرؤية ما خلاصته: إن الديمقراطية الليبرالية، هي نهاية التاريخ لكل النظم والفلسفات والإيديولوجيات، ولن يكون هناك نقيض خارج النظام الرأسمالي بفلسفته الليبرالية، بعد سقوط النظم الفاشية والاشتراكية.
ما قاله فرانسيس فوكوياما عن نهاية التاريخ، جاء نتيجة للشعور بانتصار النظام الرأسمالي الليبرالي، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي والنظم الاشتراكية في شرق أوروبا، في أواخر الثمانينات من القرن الماضي، والحقيقة أن مقولة (نهاية التاريخ)، ليست جديدة، فقد سبق وأن تحدث عن نهاية التاريخ «فريدريك هيجل» في بعض مؤلفاته، وهو أحد الممثلين للفلسفة المثالية المعاصرة، فبعد قيام الثورة الفرنسية، وحروب نابليون في أوروبا وخارجها، وخاصة في حربه مع بروسيا، اعتبر هيجل إن انتصارات نابليون، هو نهاية التاريخ لقيم الليبرالية والحرية، وقيام الدولة التشريعية التي لا محيد عنها لفرض قوتها وإنهاء التناقضات، واستعار كارل ماركس من هيجل الحتمية الجدلية، وعدلها بما يتناسب ونظريته في مسألة الصراع الطبقي وإنهاء التناقض في المجتمع في النظام الرأسمالي، كما جاء فيها، والتي تنتهي عند تعطيل التاريخ، وقيام المرحلة الأخيرة من الصيرورة، بانتهاء الطبقية والوصول إلى المرحلة الشيوعية.
وفوكوياما أيضا أخذ من النظرية الهيجلية، قضية التناقض والضدية مع تناقضه مع الاختلاف الكبير معها فلسفياً، واعتبر أن الصراع بين الليبرالية والماركسية، انتهى بانتصار الرأسمالية الديمقراطية، لكن ما جرى للمعسكر من انهيار، ليس بسبب الصراع بين النموذجين الليبرالي والشيوعي، ولا بسبب سباق التسلح بين المعسكرين، كما الذي يحلو للبعض تفسير هذا السقوط المفاجئ للنظام الاشتراكي، بل إن الأمر يتعلق بالفكرة الاشتراكية وتطبيقاتها الداخلية، وغياب الحريات العامة وغياب التعددية السياسية والفكرية التي حددت بالنموذج الواحد، أحد أهم أسباب الانهيار.
والإشكالية في الرؤية التي أطلقها فوكوياما، أن الحرية الاقتصادية، التي انتصرت، ولابد من أن تعمم لكل الأمم والحضارات، وهذا بلا شك يؤسس للفردانية الكلاسيكية، في ظل الحرية الاقتصادية للنظام الرأسمالي، وهذه بلا شك لها الكثير من المحاذير والانتقادات، حتى من داخل الغرب نفسه، بل حتى الفيلسوف آدم سميث صاحب النظرية الاقتصادية الشهيرة لليبرالية، انتقد ممارسات بعض المحركين لاقتصاديات السوق الحر، بأنهم يسعون إلى مصالح خاصة، و«إن الخطوط الرئيسية لمعالم الاقتصاد الحالي لم ترسمها رؤية شاملة لعقل منظم، ثم نفذها عن عمد مجتمع ذكي، بل حددتها تراكمات عديدة لملامح لا حصر لها رسمها جمع من الأفراد كان محركهم قوى غريزية وغير واعية لا تدرك الهدف الذي تتجه إليه».
والقضية الأهم في رؤية نهاية التاريخ، أنه لم يحدد شكل النموذج الليبرالي الذي سيسود العالم، فالقول كان معمماً دون تحديد، فإذا كانت الليبرالية الأم، التي تأسست في القرن الثامن عشر، فإن هذه الليبرالية لاقت رفضا شعبياً في الغرب نفسه، من الكثير من الحركات الاجتماعية والسياسية، واقتبست الكثير من الأفكار الاشتراكية، وخرجت من عباءة هذه الفلسفة عشرات الفلسفات، لعل أخطرها الفلسفة الماركسية، التي كانت ـ كما أشرنا ـ ردة فعل على التوحش الرأسمالي وغياب الحقوق الجماعية، وهو ما أدى بعد ذلك إلى مراجعات في الفلسفة نفسها، لكنها الليبرالية المعدلة أو المعتدلة، لم تستمر طويلاً إلى السير في الإصلاحات، كما حصل في الأحزاب الديمقراطية في غرب أوروبا التي وصلت للحكم، فراجعت الكثير من النظم، لكن في سبعينات القرن الماضي أطل النظام الكلاسيكي برأسه مرة أخرى، بعد وصول الليبراليين الجدد للحكم، أو كما تسمى النيوليبرالية، وهذا ما يجعل أزمات الرأسمالية عسيرة عندما تتنكر إلى تجاهل المطالب الاجتماعية، والتغني بالحرية الاقتصادية، وسيطرة رؤوس الأموال على حركة السوق وفق المصالح الخاصة، إلى الأخرى، لو استخدمت كثيراً النظرية الدارونية في حركة السوق (البقاء للأقوى)، وهذا أخطر ما يكون على النظام الليبرالي في فلسفته التقليدية.
الآن بعد جائحة كورونا وآثارها، التي لا تزال قائمة، الأمر اللافت أن النظم الصحية في الدول الرأسمالية، ومنها الولايات المتحدة أظهرت عدم الكفاءة في الأزمة الحالية، بعكس الصين التي تعاملت بكفاءة عالية لمواجهة كورونا، كما أن فاعلية التأمين الصحي كان أضعف مما كان متوقعاً، وهذا لا يبرز خللا كبيراً في النظام الليبرالي الذي يعتمد على المنافسة والربحية، وإجراءات المناقصات، في غياب مسؤولية الدولة السريعة في الأزمات والتغيرات الكبيرة.
بعد هذه الجانحة فإن الكثير من المحللين والاستراتيجيين في الغرب ـ ومنهم السياسي الأمريكي، وأحد المقربين من المحافظين الجدد، د. هنري كيسنجر ـ يرون: أن الأوضاع بعد كورونا في العالم كله، لن تبقى كما كانت.. وهذا يعني، أن مقولة نهاية التاريخ عند فلسفة بعينها، كما قال فوكوياما، ستبقى مجرد أحلام لواقع وظروف آنية غير منطقية أو علمية، ومن هذه المنطلقات فالتوقعات أن التاريخ سيستأنف مرة أخرى ولن يتوقف، بعد جائحة كورونا برؤية أخرى جديدة ومغايرة، ربما تخفف من غلواء وسلبيات حركة السوق المطلقة دون تقييد.