"ناجي نجيب" الناقد العربي الذي لا نعرفه!
- 1 -
في العام 1999، وكنا ندرس الأدب العربي الحديث، ونشأة الأنواع الأدبية الحديثة، على يد أعلام كبار أذكر منهم المرحوم الدكتور عبد المنعم تليمة رائد التحليل الاجتماعي الجمالي في النقد العربي الحديث، والمرحوم الدكتور سيد البحراوي أستاذ علم اجتماع الأدب والناقد المرموق، والدكتور جابر عصفور، وآخرين، وأذكر أننا نتلقى بنهم وشغف أي إشارة إلى دراسة مرجعية في النقد العربي الحديث والمعاصر لنهرع من فورنا للبحث عن هذه الدراسة ونلتهمها التهامًا.
في واحدةٍ من محاضرات د.سيد البحراوي، ونحن بصدد تحليل أحد نصوص العظيم يحيى حقي، أشار إلى كتاب عنوانه «يحيى حقي وجيل الحنين الحضاري» لناقد مصري لم نكن سمعنا به من قبل اسمه ناجي نجيب. ثم في محاضرةٍ أخرى من محاضراته الممتعة عن نشأة الأنواع الأدبية الحديثة في الأدب العربي، والنصوص الروائية الأولى في الأدب العربي الحديث، أشار أيضًا وباحترام كبير إلى دراسة عن سرديات المنفلوطي، وصفها بالتأسيسية الرائعة، كتبها الناقد المصري ذاته؛ وتدور حول بحث «المنفلوطية وظاهرة الحزن في الأدب العربي الحديث: قراءة في كتاب الأحزان» لناجي نجيب.
كانت المرة الأولى التي أسمع فيها باسم هذا الناقد؛ وقررت أن أبحث عن كتابيه هذين، وأن أعرف عنه شيئًا، فما دام ذكره البحراوي مرتين، وأشار إلى كتابين من كتبه فبالتأكيد يمثل قيمة معتبرة في النقد الأدبي. بعد ذلك صادفني اسم ناجي نجيب على غلاف كتابين قديمين عثرت عليهما عند أحد باعة الكتب القديمة بالأزبكية؛ أحدهما عن «توفيق الحكيم وأسطورة الحضارة» الصادر عن دار الهلال المصرية، والثاني عن دراسة «قصة الأجيال بين توماس مان ونجيب محفوظ» وصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة (المكتبة الثقافية) العريقة.
وكانت هذه البداية لبحث وتتبع وقراءة هذا الناقد العربي الذي لم نكن نعرفه أو سمعنا به من قبل!
- 2 -
ناجي نجيب واحد من أهم النقاد المصريين والعرب، لم يحظ للأسف بالاهتمام اللائق رغم ما قدمه من كتابات نقدية تأسيسية وأصيلة ومهمة. هاجر إلى ألمانيا، وعاش هناك إلى أن توفاه الله (ولم أنجح في توثيق تاريخ وفاته بشكل دقيق وإن كان في حدود منتصف الثمانينيات من القرن الماضي)، وترأس تحرير مجلة (فكر وفن) الألمانية العريقة.
بالرجوع إلى أرشيف المجلة الزاخر وأعدادها القيمة التي صدرت برئاسة تحرير ناجي نجيب، وجدت تعريفًا موجزًا به يتمحور حول كونه باحثًا أدبيًا مصريا مقيما في ألمانيا وزميلا مقرَّبا من إردموته هيلِر. وابتداء من العدد رقم 93 ظهر اسمه كمحرر في المجلة جنبًا إلى جنب مع إردموته هيلر محررة مجلة (فكر وفن) الدورية الألمانية الرصينة.
ومع ظهور ناجي نجيب ضمن هيئة تحرير المجلة اكتسبت الدورية الألمانية هيئة جديدة أكثر عصرية. إذ أصبحت أقل محافظة وأكثر فكرية، وتخلت بالكامل تقريبًا عن الموضوعات الاستشراقية. وفجأة ظهرت في المجلة مجموعة أسماء لبعض الشخصيات الثقافية، لم تكن لتصل إليها في عهد آن ماري شيمل وتايله: من بينها الفلاسفة ميشيل فوكو، ومارتين هايديغر ويورغن هابرماس؛ والكتَّاب غونتر غراس وهانز ماغنوس إنتسنسبيرغر والناقد الأدبي مارسيل رايش ـ راينسكي والمخرجان فولكر شلوندورف ومارغريته فون تروتا والفنان جوزيف بويس؛ وبعض الروائيين المعاصرين من المصريين والعرب كالطيب صالح ويحيى حقِّي؛ إضافة إلى جيل جديد تماما من الشعراء مثل محمد بنيس أو محمد الغُزِّي، وجميعهم شخصيات ساهمت فعليا في تحديد معالم الحياة الفكرية المعاصرة في ألمانيا والعالم الإسلامي.
ولم أجد أكثر من هذه السطور التي لم تكشف شيئا ذا بال عن الرجل وسيرته الذاتية والنقدية؛ وبالبحث عنه في كتب وقواميس الأدب العربي الحديث لم أجد أيضا شيئًا ذا بال، ولم أجد أمامي سوى ما تيسر من كتبه التي تحصلت على بعضها (وليس أكملها) بصعوبة شديدة!
كتب ناجي نجيب أعمالًا نقدية تأسيسية عن أهم وأكبر أعلام الأدب العربي المعاصر، تكاد تكون هي الأهم أو من ضمن أهم ما كتب بالعربية؛ كتب عن «رحلة علم الدين للشيخ علي مبارك: قراءة في التاريخ الاجتماعي الفكري العربي الحديث»، وكتب عن المنفلوطي دراسته المشار إليها سابقا «كتاب الأحزان ـ فصول في التاريخ النفسي والوجداني والاجتماعي للفئات المتوسطة العربية»؛ وهو كتاب غير مسبوق في النقد العربي، وفي التحليل الاجتماعي لنصوص أدبية إبداعية، وكتب عن «قصة الأجيال بين توماس مان ونجيب محفوظ»، وكتب عن «توفيق الحكيم وأسطورة الحضارة»، وكتب عن «الحلم والحيرة في صحبة يوسف إدريس» (القاهرة، 1985)، وكتب عن «يحيى حقي وجيل الحنين الحضاري» (القاهرة، 1998)، وغيرها.
وللأسف لم تلق أعماله العناية اللائقة، ومن أحلامي أن تخرج أعماله الكاملة في طبعة محررة ومدققة وتضم مقالاته العديدة المتناثرة في بطون الدوريات التي لم تجمع حتى الآن.
- 3 -
في كتابه المهم «يحيى حقي وجيل الحنين الحضاري»؛ بعنوان فرعي (النزوع إلى العالمية ونشأة الواقعية الحسية)، نطالع واحدًا من الكتب الرصينة العميقة التي تبحث وتحلل وتفسر، وتقدم أنموذجًا راقيًا في بحث الظواهر الأدبية والنصوص الإبداعية من منظور النقد الاجتماعي. أما جيل الحنين الحضاري الذي استخدمه ناجي نجيب في العنوان فهو المفهوم أو المصطلح الذي أطلقه على جيل الكتاب والأدباء والمثقفين المصريين الذين اكتمل تكوينهم في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي.
يحلل ناجي نجيب في هذا الكتاب أهم نصوص يحيى حقي في الرواية والقصة، ونثره الفني عمومًا، في إطار تحديد ما أطلق عليه "الحنين الحضاري" و"النزوع العالمي" وعلاقتهما بالبيئة الأصلية، ولم يقتصر هذا النزوع العالمي على ميدان الفن والأدب، وإنما طرق مبكرا أيضا ميدان السياسة كمنحى حماسي تعويضي، وكمنحى رومانسي.
وفقا لهذا التحديد أو الإطار يدرس الناقد أدب يحيى حقي عمومًا، ويبحث نشأة الواقعية الحسية في الأدب العربي الحديث، ويحلل نصوصه حقي المهمة قصص من مجموعة «الفراش الشاغر»، ونصه المشهور البوسطجي، ورائعته «قنديل أم هاشم» وأخيرا روايته التي لم تنل ما تستحقه من القراءة والاهتمام «صح النوم»
- 4 -
أما كتابه الوجيز الرائع «قصة الأجيال بين توماس مان ونجيب محفوظ» الصادر سنة 1982 فكان من الدراسات المبكرة جدا التي لفتت أنظار بعض الدارسين العرب وأساتذة الأدب بالجامعات الأوروبية إلى ضرورة الدفع بقوة لدعم ترشيح نجيب محفوظ لجائزة نوبل في الآداب. وهو ما تحقق فعلا بعدها بست سنوات.
في هذا الكتيب الوجيز الذي يقع في 80 صفحة من قطع الجيب؛ يقدم ناجي نجيب دراسة فذة وغير مسبوقة في الأدب المقارن، منطلقا من قناعة بأن التراث الأدبي عنصر حيوي في أي عمل إبداعي أدبي، والواقع المعيش هو العنصر الآخر المكمل لهذا العمل أو ذاك. بين هذين القطبين يتحرك الأديب في اختيار موضوعه ومادته وصياغته.
ونحن في هذا الكتاب إزاء أديبين يمارسان الأدب بوعي كامل بقضاياه وخفاياه وجمالياته، توماس مان في روايته آل بودنبروك ونجيب محفوظ في ثلاثيته الخالدة بين القصرين وقصر الشوق والسكرية. يرى ناجي نجيب أن الثلاثية مثلها مثل آل بودنبروك تقترب في أكثر من جانب من المؤلفات التاريخية؛ فكلاهما تلتزمان بالتتابع الزمني "الكرونولوجي"، والتسلسل التاريخي للأحداث، وغايتهما المزاوجة بين الآداب، مع ارتباطهما بواقع الحياة.
رحم الله ناجي نجيب الناقد العربي الكبير الذي لا نعرفه!