كسّر المحارّة
ثلاث كلمات عربية كتبتها وألقتها ثلاثة أصوات للمشتغلين بالمسرح العربي؛ قضاياه وهمومه ومشكلاته وأنساقه الثقافية ومرجعياته.
تُنسب الكلمة الأولى إلى المسرحي السوري الراحل سعدالله ونوس الذي ألقاها بمناسبة احتفالية العالم باليوم العالمي للمسرح في عام 1996م، ثم ألقت وللمناسبة نفسها، الكاتبة المسرحية والصحفية المصرية الراحلة فتحية العسال الكلمة في عام 2004م، أما الكلمة الثالثة فجاءت في سياق مسرحي عربي خالص وذلك عندما اختارت الهيئة العربية للمسرح في دورتها المنعقدة في قطر عام 2013م الممثلة المسرحية والسينمائية المغربية الراحلة ثريا جبران، التي تحّل علينا في شهر أغسطس اللّهاب بنيرانه وانفجاراته وجثثه وضحاياه وتغير خارطة الأحداث السياسية في العالم، الذكرى الأولى لرحيلها.
وفي ظلّ، التجاذب الثقافي العربي، وسخونة صفيح العالم سياسيا، واجتهادات المسرحيين المشتتة على بقاع خارطة الوطن العربي الغرابة فيه الانتماء إلى أشياء ثابتة، وما تبذله فرقة مسرحية هنا، وأخرى هناك، للحصول على فتات من الدعم المادي للمشاركة في عرض مسرحي ما، أو تحضير مهرجان بأقل التكاليف المخصصة لإقامته على أفضل قناع، وفي مناظر دامية لحرائق لبنان وتدمير حداثة المدينة وحداثة الوعي، تأتي على هامش هذا كله، استعادة الكلمات السابقة للسؤال الآتي: يا ترى أين نحن اليوم من مسرحنا العربي المنشود؟ إن الناظر إلى تلك الكلمات سيجدها تعكس منطلقات المسرحيين العرب ورؤاهم، طموحهم وأحلامهم، فقد غير العالم الحالمين الكبار بانتصار الخير والجمال والحق، ولهذا ارتبط عشق المسرح والممارسة منذ أجيال مع المؤسسين بالالتزام بفكرة المسرح وقدرته على التغيير، وربط هذه القدرة بالبحث والمعرفة المتطورة لجمالياته المتعددة.
إن المنجز المسرحي العربي الذي تحقق لا يمكن التقليل من شأنه، لأن المشتغلين بالمسرح لا شك يؤمنون بأن الحياة مستمرة وأن "المسرح باق ما بقيت الحياة". والمسرح أيضا، كما قالت الراحلة ثريا جبران هو فن الحقيقة بامتياز، والسؤال الذي يفرض نفسه: أيّ حقيقة تلك؟ هل الحقيقة مرتبطة بسؤال المعرفة الفلسفية، أم بمعرفة العلوم وطلب العلم واكتساب التعلم، أم هي حقيقة تتطلّب الاشتباك مع التجريب وخوض مغامرة الدهشة والأسئلة والبحث؟ وأمام ما نشهده الآن من معارك سياسية مبتذلة، وتحولات اقتصادية ضاغطة، فهل هناك ما زال ما يثير الدهشة أو الاستغراب للمسرح؟! وما الأسئلة التي يمكن أن تقودنا إليها؟ وهل نمتلك أي نظام خاص لتلك الحقيقة المبتغاة؟ هل تتعارض تلك الحقيقة مع الأيديولوجيا؟ لعل ما يراه المسرحي أنه حقيقة بالنسبة إلى تجربته وثقافته ومعرفته ومكتسبه الحضاري هي الحقيقة التي تخصه وحده.
تقول ثريا جبران: إن حقيقة المسرح ليست كحقيقة الخُدَع السينمائية، ولا حقيقة التلفزات التي تحجُب الرؤية، ولا حتى حقيقة المطابخ السياسية السائدة". فحديثها هذا يشير إلى جذوة اتصال المسرح بالواقع المتغير، وببرامج الثقافة المسرحية التي تخص تطوير التنمية، والخروج من الانحطاط الذي يتحدث عنه المسرحيون ليس إزاء ما تقوم به بعض الأنظمة السياسية في البلاد العربية، بل ما يفعله المسرحيون أنفسهم للترويج لمسرح هابط لا يطرح جديدا على صعيد الإبداع.
ومن طرف آخر، إذا ما شئنا العودة إلى تأمل تلك الكلمات والوقوف عند ما يمكن تسميته بالمشروع المسرحي الثقافي العربي الذي تحقق أو لم يتحقق في ظل الواقع السياسي المتردي، فعلينا أن نكون موضوعيين لأن الذي تحقق في ظاهره (مهرجانات ومسابقات وجوائز وبحوث فردية أو مجتزأة أو مشتركة وإصدارات إبداعية ونقدية ومجلات وصحف) أمر لا يستهان به، ولا يُقلل من جهد المؤسسات والأفراد الذين يقفون وراء هذا.
تتعدد رؤى النظر إلى تطوير المسرح سواء كان ذلك على مستوى الدول أم على صعيد الأفراد.
كان سعدالله ونوس في كلمته ينطلق من مظهر لتلك الرؤية، فقد دعا إلى "الحوار المتعدد، المرّكب، والشامل، الحوار بين الأفراد، والجماعات"، وهي رؤية تصّب في جوهر المسرح العميق، التعبير باللغة والقول، ولأن الحوار هدف فإن مجمل الآراء لا تنهض لوحدها بصورة مجردة أو عبثية، وأيضا ثقافتنا المسرحية، لن تتجدد إلا بتقدم المجتمعات، وهذه بدورها تستطيع أن تحافظ على ثقافتها المنتجة بما يضمن لها آدميتها وكرامتها.
لا غرابة إذن، أن يؤكد ونوس في كلمته على ضرورة "تعميم الديمقراطية واحترام التعددية وكبح النزعة العدوانية عند الأفراد والأمم على السواء"، وأن تحقيق هذه الدعوة لا تبدأ إلا من المسرح.
والفاصل الزمني بين عام 1996م عندما ألقى ونوس كلمته، وعام 2013م هو سبعة عشر عاما من تأرجح اليقين، إمّا الدفع بحياة المسرح جمالياته وأداءاته إلى الأمام أو التراجع عن الحلم والخيال! وإما الالتزام بتنمية مجتمعاتنا وتثقيفها من النزعة العدوانية أو جعلها تغرق في وحل أوطانها، لذلك، آمنت ثريا جبران بأن "المسرحُ كتيبةٌ كاملةٌ من الإِراداتِ الخَيِّرةِ التي تَصْنَعُ الجَمَال وتنتج المَعْنَى الجميل فتوفّر للنّاسِ فُرْجةً جميلةً، في وَقْتٍ جميلٍ، في مكانٍ جميلٍ [...] المَسْرَحُ أبو الفنون، كائنٌ حيٌّ ينْتَبِهُ إِلى التناقُضات فَيَقُولها، وإِلى التَّوازُنَاتِ فَيُضيئها، وإلى الاعْوِجَاجَاتِ فَيُعرِّيها، وإلى الهزائم فَيُسَمِّيها."
هل يستطيع المسرح أن يستمر من دون المؤلف المسرحي؟ نعم يستطيع ذلك، لكنه لا يقدر أن يستمر من دون رسالة.
آمنت فتحية العسّال برسالة المسرح عشقها الأول والأخير، تكتب في كلمتها: "لقد آمنتُ بأنّ أهَمَ ما يميز الكاتب المسرحي هو امتلاء روحه برسالة إنسانية سامية ينشرها بين الناس من أجل الارتقاء بحياتهم وتحريرهم من كل عوامل القهر والاستغلال وانتهاك الكرامات."
تعكس هذه الكلمات أحد أشكال العلاقة المفترضة بين المبدع وحرفته في مجتمعه ودولته، وترسم جذور تلك العلاقة واجتهادات تأويل النص عبر ترحال في الزمن لتمدّه إلى كل مكان يمكن أن تصل كلمات نصه إليه في العالم، ولأن للكلمات ذاكرة، فهي أيضا لها أجنحة؛ لهذا وصلنا يوربيدوس، كما جال بيننا شكسبير، وتشابك فرناندو بيسوا مع بدلائه، واستقر هنريك إبسن بين جلاسه، وأفاض الحلاّج من نفحاته، وعندئذ سيكون من المهم، على حد تعبير فتحية العسال، "لكي يبلغ هذا الكاتب رسالته ويؤثر في حياة الناس لا بدّ له من إتقان صنعته والسيطرة على أساليب التعبير الفني، ففي كل الأعمال الفنية اقترنت دائما الرسالة الإنسانية العادلة بنضج التعبير الفني وأصالته، لذلك من الخطأ أن نزيد من أهمية أحد العنصرين على حساب الآخر."
هل بلغ المسرح رسالته؟ يصعب الجزم بوجود إجابة كاملة ونهائية، لكن، يمكن الاعتقاد أن المسرح في طريقه يسير "ببركة دعاء الوالدين"، كأشياء أخرى كثيرة، لولا لطف الله لتضعضعت وانهارت! فمجتمعاتنا قبل مجيء المسرح كانت في حال من الرثاء والشفقة والتخلف، وهي اليوم تحظى بمكانة لا بأس بها، ليس ذلك بفضل المسرح وحده، لأننا إذا قلنا: إن سياسات الثقافة وحدها أكسبته ذلك الفضل، فما مبرر النزعات العدوانية التي تُمجّد خطابات معينة؟ ما تفسير تصاعد الهجمات ضد حريات الرأي والتعبير؟ لماذا هذا الشعور المتفاقم بالمرارة؟ أم أنه شعور فردي؟
أعطت فتحية العسال قيمة للكلمة ورسالة المبدع حينما أنسنتها في المطلق، وذلك بوعي نسوي نهضوي مقصود، يمكن-حسبما أرى- أن تكون كلمة ناطقة بجسد المسرح من حيث هو الخشبة "كلمتي.. حبيبتي.. طفولتي.. ابنتي! أسمع صوتها المختلف عن كل الآهات والأنات المستضعفة المكبوتة المقهورة والمهزومة، كلمتي التي يتردد صداها عبر أجيال وأجيال، وينوء بها، وبكل المخزون، من رفض للقهر والتبعية، ضمير التاريخ الإنساني." أمامنا، وفقا للجدية التي تنوء بها مسارحنا الجادة ورسائل مبدعينا، إخراجا وتمثيلا وتأليفا، العمل معا على حماية ذلك الضمير، "فأهل المسرح أَيْنَما كانوا، في الأَوطانِ أو في الشَّتَاتِ، صُنَّاعٌ للجَمَال، رُعَاةٌ للحريةِ والحُلْمِ والتَّخيُّلِ والفِعْل الصادق الأَمين".